الثقافة

حول الانكفاء على الهوية

محمد غريب

مع نهاية الصراع ، بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي، عادت الى الواجهة نزاعات ذات طابع ديني او عرقي، داخل الدول، وانتعشت النزعات العنصرية والحركات الانفصالية، مهددة وحدة الشعوب ذات التنوع الثقافي والديني.. وقد اتخذت هذه النزاعات طابعا جد عنيف ، وصل الى مستوى التطهير العرقي في عدد من الدول، وأدى ذلك الى تفكك عدد منها مثل السودان ويوغوسلافيا.

اتخذت هذه الفورة الهوياتية عدة اشكال حسب طبيعة كل مجتمع، ولم تسلم منها حتى الديموقراطيات العريقة و الحركات العنصرية المعادية للمهاجرين. التي عرفت عودة قوية لليمين المتطرف ؛ كما ان التطرف الديني قد بلغ مستويات غير مسبوقة من العنف والتعصب والظلامية.

إن فهم هذه العودة القوية “للهويات القاتلة”، كما يسميها أمين معلوف، يستدعي العودة الي فهم معنى الهوية و الثقافة ، قبل البحث في أسبابها والعوامل المتحكمة فيها وسبل تجاوزها لبناء مجتمعات خالية من العنف والكراهية .

 

 

  • الهوية مشروع تاريخي.

الهوية ليست معطى نهائيا، إنها مشروع تاريخي مفتوح يتكون ويتغير باستمرار، وهي مكونة من عناصر ومتغيرات ومن أحياز فارغة يمكنها استقبال عناصر جديدة.. وهناك من المتغيرات والعناصر المشكلة للهوية، ما يمكن أن يسقط ، مثل بعض التقاليد والممارسات والعادات التي تندثر ولا يبقى لها وجود مع التطور التاريخي للمجتمعات.

الهوية إذن هجينة ، وقد ساهمت التحولات الكبرى في عصر الثورة التكنولوجية وانفتاح العالم على تعزيز هجانة الهويات، بحيث يمكن لأغنية مثلا أو زي معين، أن ينتشرا خارج حدود بلدهما عبر العالم في دقائق معدودة.

إن العناصر المشكلة لهوية معينة، ليست لها نفس الأهمية في حياة الأفراد و المجتمعات؛ إنها مرتبطة بحياة الناس ، وبالمراحل التاريخية التي تعيشها المجتمعات. فإذا أخذنا الجنس في حياة الفرد مثلا فإن هذا المتغير لن تكون له أهمية كبرى في حياة الإنسان إذا كان يعيش كامرأة في مجتمع كالدانمارك أو النرويج لكن حياته ستنقلب رأسا على عقب إذا كانت كامرأة تعيش في مجتمع كالسعودية أو أفغانستان…

في مقابل هذا الفهم التاريخي للهوية هناك ما يسميه محمد أركون “المفهوم القبلي للهوية”، وهو المفهوم الذي يختصر الهوية في عنصر واحد أو اثنين كاللغة والأرض أو الدين مثلا مما تجعل أصحاب هذا الفهم يضعون أنفسهم في وضعية انعزالية وإقصائية ويعيشون وفق منطق “نحن ” و”الأخر”، بحيث تقوم منذ البداية علاقة اختلاف وتمايز مع الأخر وعلاقة انسجام تام مع أفراد المجموعة.

في حين لو تم اعتماد المفهوم التاريخي للهوية فإن علاقة جديدة تقوم ”بيننا” وبين “الآخرين” ويظهر أننا نشترك معهم في أشياء وعناصر كثيرة وأن هناك اختلافات كثيرة داخل الجماعة التي كنا نعتقد انها منسجمة.

  • لا وجود لثقافة خالصة.

كما أن الهوية الثقافة أيضا ليست معطى خالصا ونهائيا ، فإذا اعتمدنا التعريف الأنثروبولوجي المحايد للثقافة نجد أنها مجموع العادات والتقاليد و الموروثات والقيم وأساليب العيش والأعراف والمعتقدات والفنون الخ… إنها أيضا معطى غير ثابت الصفات وغير متجانس المكونات، إنها مرتبطة بالشروط التاريخية التي يعيشها المجتمع مما يجعلنا في الواقع أمام ثقافات متعددة داخل نفس المجتمع.

إن هذا الطابع المركب للثقافة ، يجعلها تجمع بين العناصر الدافعة للحركة والمحفزة على التغيير ، وبين العناصر الكابحة للحركة، والتي تنزع نحو التقليد والجمود بحيث يمكن القول واختصارا أن هناك ثقافتين متناقضتين على الأقل:

  • ثقافة رجعية تدعو إلى السكون والجمود والانغلاق
  • ثقافة تقدمية متحركة منفتحة تنظر إلى المستقبل

وهكذا إذا اعتبارنا التراث الثقافي، أو حضارة شعب معين، فإننا لن نجد ثقافة خالصة أو حضارة مقفلة وخالصة، إن “التاريخ لا يحفظ في ذاكرته ثقافة مقفلة، لا نجد ثقافة لاحقة تنفي ثقافة سابقة أو تلغيها بل-بالعكس-تؤكدها بالتداخل معها ثم بتكييف عناصرها وفق مقتضيات الظروف الخاصة بها”.1

3 العولمة تخلق نمطية تفقيرية.

مع انهيار النموذج السوفياتي أو الصيني -الذي شكل ولفترة معينة نموذجان يعتد بهما   ،وكانا بديلا مؤقتا للهمجية الرأسمالية ، دخل العالم مرحلة جديدة هي مرحلة العولمة التي تميزت بثورة تكنولوجية كبيرة ،خاصة في مجال وسائل الاتصال، وبتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة أثرت كثيرا على المعارف والنظرة للحياة ،وشملت السلوك اليومي و النظرة للنفس والانتماءات والهويات. إن ما بنته المجتمعات على امتداد قرون من الزمن لتؤكد به تميزها واختلافها وكل الحدود التي رسمتها بينها وبين العالم الخارجي كلها أصبحت مهددة بالاندثار. نحن إذن أمام نمطية لكنها تفقيرية، لأنها تهدد التنوع الثقافي الذي بدونه سيتوقف التفاعل الايجابي بين الثقافات وتسمح بهيمنة  الفكر الأحادي الدوغمائي.

ستؤدي هذه التحولات في ظل غياب مشروع مجتمعي بديل عن الاشتراكية، وبعد أن تأكد أيضا فشل الرأسمالية في حل المشاكل التي يعيشها العالم، إلى تقوية الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة، وذلك بسبب الخوف الوجودي الذي يشعر به الإنسان أمام تحولات كبرى لا يفهمها فهما حقيقيا ولا يستطيع التحكم فيها.

4 العودة إلى الدين.

إن العودة إلى الدين، وتزايد مظاهر التدين لدى الناس ،والمتمثلة أساسا في الاقبال المتزايد على ارتداء الحجاب أو الزي الأفغاني و اعتماد موقف استعلائي في مواجهة كل من لا يتبنى هذا النوع من السلوك ..والتركيز على الجانب الطقوسي في الإسلام مثلا، هي كلها طرق للبحث عن الخلاص ووسائل دفاعية يلجأ إليها الناس في مراحل الفراغ السياسي بحثا عن تميز هوياتي، أمام ما تتعرض له المجتمعات من هجوم كاسح على ثقافاتها.

إن سعي الناس إلى العودة إلى الأصول، هو ما أدى إلى انتعاش الأصوليات بكل أنواعها، لأن هذه العودة تمت كرد فعل سلبي على هذا الهجوم ولأن رد الفعل هذا، لم يأت دفاعا عن التنوع ولكن تم بالتقوقع على الذات، في إطار الانتماء الديني والعرقي أو الطائفي..

الدين خزان كبير للهوية لأنه يحمل الخصوصيات المشتركة ، ويحمل تاريخا مشتركا وذاكرة جماعية، وكل أشكال التضامن بين معتنقيه. إن المسيحية في منطقة البلقان و اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ،والإسلام في العالم العربي والإسلامي، والهندوسية في الهند، قد تحولت كلها الى أيديولوجيات إقصائية..إننا في الحقيقة أمام توظيف سياسي للدين تحول معه هذا الأخير إلى أيديولوجية قتالية.

المسلمون مثلا لا زالوا حبيسي “ايديولوجية الكفاح” التي بنت تصورا ميثولوجيا عن الغرب \الأخر.. وهذه الأيديولوجية لا زالت ترفض كل إنجازات الفكر الانساني العقلاني والمستنير.

إن 5 ملايين مغاربي الذين يعيشون في فرنسا، و بدل أن يتفاعلوا إيجابيا مع ثقافة المجتمع الفرنسي ، وذلك بالتعريف بثقافتهم والمشاركة في الحياة العامة وفتح حوار مع المجتمع الفرنسي والأخذ من تراثه الثقافي التنويري والعقلاني ، اختاروا التقوقع على الذات والعيش في إطار كانتونات معزولة في المدن الفرنسية، والمرة الوحيدة التي خرجوا فيها للتعبير عن حضورهم خرجوا إلى ساحة الجمهورية في مظاهرات تطالب بالحق في ارتداء الحجاب.

إن الإسلام كما يتم تبنيه حاليا، هو إسلام تحول الى تعبيرات طقوسية وشعائر إجبارية التي بدونها يتم الاقصاء خارج الجماعة، وهذا ما يفسر هذا الاستهلاك الغرائبي للدين الذي تحول الى ملاذ أيديولوجي .لقد توقف الدين الإسلامي منذ قرون ، إلى حين ، على أن يكون سعيا الى السمو بالنفس البشرية ووسيلة للبحث عن المعنى وإلى إعطاء مضمون روحي وإنساني للعلاقات بين الناس.

إن المسلمين اليوم وفي غياب إمكانية للتحرر وتحقيق استقلالهم الثقافي والاقتصادي والسياسي فإنهم لا يجدون من وسيلة لمواجهة واقعهم إلا بالعودة الى الدين ومواجهة الحداثة والديموقراطية بالتقوقع في عالم مغلق أو “جهنمي” كما يسميه أدونيس.

5 العودة الى القبيلة.

إن واقعالاستبداد والظلم واللامساواة والقهر، والذي يميز المجتمعات العربية والإسلامية، جعل الناس تلجأ للاحتماء من هذا العنف المادي والمعنوي الى الانتماء الى جماعة يشترك افرادها في ذاكرة جماعية واحدة أو تاريخ مشترك أو لغة مشتركة . لكن هذا النوع من الإنكفاء  الهوياتي يتم غالبا في مواجهة “الآخر” الذي يتم إختصاره في كل ما هو سيء وتمجيد الذات في المقابل بشكل مطلق.

إن الإحساس بالظلم، مع التعصب، يؤدي إلى الانغلاق، وهذا الانغلاق يشكل خطرا على صاحبه لأنه سيؤدي به إلى مزيد من التقوقع وإلى وضع المزيد من الحواجز بينه وبين الآخر، وسيمنعه من البحث عن جسور للتواصل ومن التفكير والتقدم والتفاعل الإيجابي. إنه يؤدي إلى مزيد من الخوف والكراهية وما يمكن أن ينتج عنهما من كوارث.

والسبب المباشر لهذا النوع من الانغلاق ، هو اعتبار عنصر واحد من عناصر الهوية عنصرا  مركزيا وأساسيا وإهمال العناصر المشتركة الأخرى، وهذا ما يشكل في أخر المطاف نزوعا نحو التميز والفرادة والاستعلاء ، وسعيا الى تقسيم المجتمع وفق منطق”نحن” و”الآخر”.

وكما أن الأصوليات تقتل جوهر الدين لأنها تهتم بالقشور والشكليات ، وتقوم بالتحريض السلبي على “الآخر”..فإن البحث عن جذر خالص لثقافة معينة يؤدي حتما إلى قتل هذه الثقافة وإلى زرع بذور التعصب والكراهية.

6 تجاوز الحواجز الدوغمائية.

إن الإحساس “بالانتماء الى المغامرة الإنسانية”2لا يمكن أن يتحقق إلا بتحطيم الحواجز الدوغمائية والاعتراف بكون الهوية تشمل إنتماءات متعددة ومتنوعة.. وإنه إذا تم إختصارها في نطاق ضيق تتحول الى “هوية قاتلة”.

على المجتمع إذن ان يعترف بالتنوع الثقافي ويقوم بتعزيز كل المكونات الحية للهوية الجماعية التي تشكلت عبر سيرورة تاريخية، ولا زالت تتطور مستوعبة عناصر جديدة من ثقافات وهويات متعددة.

إن تجاوز حالة البؤس الثقافي يستدعي تحرير العقل بالعلم والثقافة والحوار والمعرفة النقدية، والتطلع الى أنسنة العلاقات داخل المجتمعات وبين المجتمعات، لأننا جميعا أبناء هذه الأرض التي هي بلدنا الثاني بعد بلداننا الأصلية.

لقد كتب المناضل والشاعر الكبير ناظم حكمت مؤكدا على هويته الأممية:

“البلد الذي أحب هو الأرض بأكملها

عندما يأتي دوري

غطوني بالأرض بأكملها”

إن السير على غير هذه الطريق هو بمثابة زرع لبذور التعصب والعنف والكراهية.

—————————————————————————————————–

الهوامش:1-حسين مروة: النزعات المادية في الفكر في الفلسفة العربية الإسلامي ص40

Amin Maalouf les identités meurterières page188 -2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى