المجتمع

البطالة تقتل

بقلم مبارك المتوكل

أصدرت جريدة ليبراسيون الفرنسية نتيجة دراسة قام بها الباحث بيير منتون ( Pierre Meneton ) الباحث في معهد الصحة والبحث الطبي حول تأثير البطالة على الصحة البدنية والنفسية للعاطل وما يتعرض له العاطل من تدمير نتيجة الإصابة بأمراض ارتفاع الضغط الدموي وداء السكري والضجر والكآبة،وصولا إلى الانتحار …… ليصل إلى أن عدد ضحايا البطالة في فرنسا يتراوح بين 10.000 و 14.000 قتيل سنويا،وهو عدد يتجاوز عدد ضحايا حوادث السير .

إن المرونة في قانون الشغل واللجوء المتواتر إلى عقد محدودة الأمد تنتقل من قصيرة إلى أقصر كل ذلك يفرض على الأجير أن يبقى دائما يبحث عن عمل في واقع يتميز بتعدد متطلبات مجتمع الاستهلاك. إن الدولة الاجتماعية توفر تعويضا عن البطالة و يستمر البحث عن عقد عمل جديد مدة قد تصل إلى ستة أشهر. ويشير ميشيل دوبو (Michel Debout ) الطبيب النفساني أن لا أحد يهتم بصحة العاطلين .

هذا بالنسبة لفرنسا حيث ظهرت جمعيات تهتم بمعاناة العاطلين وتسعى إلى التضامن معهم والتخفيف مما يشعرون به من إحساس بالضياع وما يمكن أن يجرهم إليه هذا الإحساس من إدمان على الكحول والمخدرات. فما هو الوضع بالنسبة للمغرب؟

لا نتوفر في بلدنا السعيد على أدوات مضبوطة ومأمونة تعطينا ولو بشكل تقريبي ما يتعرض له شبابنا من أوضاع سواء على أرض الوطن أو في ديار الغربة إلا ما يصلنا من أخبار عبر وسائل الإعلام الوطنية أو الأجنبية من كوارث أو قضايا يكون شبابنا ضحيتها أو مسؤولا عنها.وليس لدينا الوسائل التقنية لتوفير تلك الإحصائيات من أجل استثمارها ويبدو أن مصير هؤلاء الشباب لا يعني أحدا على أن هذا لا يعفينا كمناضلين يساريين من مهامنا كثوريين آمنوا بقضايا الجماهير وكرسوا لها حياتهم وأوقفوا عليها شبابهم من ولوج هذا الموضوع ولو باعتماد ما يتوفر من وسائل رغم قلتها أو انعدامها .

وقبل أن نتحدث عن البطالة وما يترتب عنها من إحباط ومعاناة لا بد أن نقف على ما تعانيه الطبقة العاملة النشيطة جراء ما أدخلته العولمة من إجراءات مست هذه الطبقة في أقدس حقوقها ،وفي مقدمتها توفير شروط بيع قوة العمل بكرامة واحترام الحريات النقابية والحق في التنظيم النقابي، كأداة لفرض هذا الاحترام.على أن المشغلين المغاربة وكعادة الكثيرين منهم،قد حولوا المرونة التي فرضتها الرأسمالية إلى حق مقدس تمارسه مقاولاتها في نوع أقرب إلى استرقاق واستعباد العمال خاصة وأن طرفي عقدة الشغل يعرفان أن فقدان منصب الشغل قد يؤدي إلى قضاء بقية العمر في البحث عن عمل .لقد تعامل عدد من أرباب العمل المغاربة بل وحتى بعض الأجانب مع الشغيلة المغربية كتعاملهم مع المناديل الورقية يرمى بها بعد الاستعمال والاستغلال .

وحتى نتوفر على الصورة بشكل أدق سنعطي مثالا واحدا فقط عن عدد المقاولات التي أغلقت أبوابها وسرحت العمال خلال السنوات القليلة الماضية دون أن نسأل عن مصير العمال المسرحين بتعويض أو بدونه،ولا إعادة التشغيل : سنة 2016 أغلقت 7162 مقاولة وسرحت العمال،سنة 2017 أغلقت 8088 مقاولة .

إن هذه الصورة رغم قتامتها لا تعكس إلا جزءا من الواقع المرير الذي يعاني منه أو يخشاه العمال المغاربة،ورغم هذا الواقع وقسوته يتحدث عملاء المخزن أو فرسان الكلمة الثورية عن عجز اليسار المغربي أو الحركة النقابية أو عدم قدرتهما على تحقيق الثورة الاجتماعية أو الملف المطلبي.

تبلغ نسبة الوافدين على سوق الشغل سنويا 1.5% من اليد العاملة الباحثة عن العمل وقد وصل عدد العاطلين سنة 2019 إلى 1.016.200 أربعة أعشار منهم في الحواضر الكبرى .

ومن الظواهر البارزة في عالم الشغل بالمغرب ما يسمى بالقطاع الغير مهيكل والذي يشغل قرابة خمسة ملايين شخص في شروط لا تتوفر فيها لا التغطية الصحية ولا التغطية الاجتماعية ولا حتى الحد الأدنى للأجر على ضآلته.إنه وضع لا يخضع لأي قانون تتم فيه العملية الإنتاجية في دهاليز سرية أو على الأقل هذا هو الاعتقاد السائد،إذ يعرف العادي والبادي أن لا شيء يغيب عن أعين المخزن.وكثيرا ما يتعرض العاملون في هذا القطاع إلى حوادث قد تؤدي إلى إعاقة مؤقتة أو دائمة من غير أن يفكر ذووا القرار في التدخل لفرض احترام القانون وحماية الصحة والسلامة لملايين، أكثرهم من النساء فرضت عليهم شروط الفقر والحاجة القبول بالعمل في هذه الشروط الحاطة من الكرامة والمعرضة الحياة للخطر.

إن عدد العاطلين بالمغرب يبلغ 1.260.000 وفق إحصاءات رسمية، 85.6% منهم في الحواضر والأدهى أن أكثر من 38% من هؤلاء من حملة الشواهد العليا .

وإذا كان عدد الساكنة النشيطة بالمغرب يبلغ 12.154.000 تتراوح أعمارهم بين 15 و60 سنة ،وكانت نسبة النمو الديمغرافي في المغرب هي 1.5% فإن هذه الفئة ستعرف زيادة سنوية قدرها 51 ألف نسمة وأن أعمار قرابة 64 % منهم يتراوح بين 15 و 29 سنة ،أي عمر الزهور والاستعداد للبدل والعطاء.وهو السن الذي يكون فيه الشاب مؤهلا لتلقي المعرفة والاستعداد لتحمل المسؤولية على مختلف المستويات،فما هي الشروط التي وفرناها لهؤلاء الشباب،بل وكذلك لآبائهم.على أن أخطر ما في الأمر أن 7.1 % قد يئس من إيجاد شغل ولا يخفى ما يحمله هذا الشعور من إحباط و يأس و اكتئاب وإحساس بالدونية،و تلك هي أكثر المراحل هشاشة واستعدادا لكل أنواع الانحرافات لعل أقلها خطرا الاستجابة إلى الدعوات للتحلل من المروءة والأخلاق أسهلها المساهمة في الشهادة بالزور في العقود والمتاجرة في الممنوعات وصولا إلى المتاجرة في الأعراض ،وتصبح المساهمة في تزوير الانتخابات والمتاجرة في الأصوات أقل خطرا على مرتكبيها ولكنها الأكثر خطورة على الوطن والمواطنين .ويبدو أن قدر الشعب المغربي أن يقضي عشرية كاملة جراء هذا السلوك ،ويبقى السؤال المطروح هو هل سيحسم شبابنا مع هذه الممارسة أم سيبقى صوت المواطن بضاعة يحصل عليها من يدفع أكثر ؟

نلاحظ من كل هذا أن أول الضحايا التي قتلتها البطالة كانت الأخلاق والمروءة والرحمة، ولكن البطالة تقتل أكثر. فعن أي نوع من الضحايا نتكلم ؟ قد لا نستطيع الإحاطة بكل أسباب نهاية حياة ضحايا البطالة وبالتالي سيكون من المستحيل أن نعطي إحصاء ولو تقريبيا لمجموع الضحايا فبالأحرى تصنيفهم عدديا لمختلف الأسباب.فعندما يتعلق الأمر بالانتحار ينبري فقهاؤنا وأئمتنا يتساءلون :هل يغسل المنتحر ؟ وهل يصلى عليه ؟ ولكن لا أحد منهم يطرح السؤال عن سبب الانتحار. أما الذين يلتهمهم الأبيض المتوسط أو المحيط الأطلسي فلا يشار إلى عددهم إلا كرقم ضمن عدد من ضحايا رحلة الموت من مواطني جنوب الصحراء. ورغم عدم توفر إحصاء رسمي فقد أعفي علماؤنا وفقهاؤنا من طرح السؤال المعهود لأن البحر تكفل بمهمة الغسل والدفن.ولا يذكر أحد منهم هؤلاء الضحايا ولماذا قبلوا ركوب مخاطر البحر وهم أعلم بضآلة نسبة نجاح المغامرة. وتمر الأيام ولا أحد يذكر هؤلاء إلا أما مكلومة تسأل عن ابنها الغائب / الحاضر أبدا في الذاكرة،وفي صورة معلقة على الجدار لا تقع عليها عينها إلا و يسابقها الدمع.

لكن إلى جانب هذين الصنفين هناك أنواع أخرى من ضحايا البطالة: فهنالك من هاجمهم البؤس والمرض ولم يجدوا معالجا ولا عائلا حتى قضوا بعد التردد على أبواب المستشفيات ودور العجزة، فلاقوا حتفهم أمام تلك الأبواب أو في الطريق إليها.وهنالك من نخر أجسادهم الإدمان على الكحول والمخدرات سعيا وراء النسيان والهروب من خوف قاتل قريب ولو ظنوه بعيدا.

هذه أنواع من الضحايا الذين قتلتهم البطالة حسب جزء من تصنيف الدكتور بيير منتون الذي أدخل في حسابه مختلف الأمراض النفسية من رهاب واكتئاب وإحباط ولكنه لم يستطع أن يشير إلى حالات عفا عليها الزمن في كثير من البلدان، ولكنها لا تزال رائجة وحاضرة عندنا وتتعلق بالموت نتيجة الإهمال وسوء المعاملة والعجز عن توفير ثمن الدواء ،مما يؤدي إلى الوفاة على أسرة المستشفى أو في أبهائه أو ممراته .كما أن الدكتور مينتون لا يستطيع أن يدخل في إحصائياته ضحايا نوع آخر من التخدير يخص العالم الإسلامي،وقد نجح بعضهم في اعتماده للوصول إلى مراكز السلطة والقرار لتنكشف أكاذيبهم وانتهازيتهم واستغلالهم للدين و لبراءة المؤمنين.

على أن خطر هؤلاء لا يتجلى في ما ينهبونه من أموال دافعي الضرائب أو مما يمارسونه من تدليس وابتزاز على البسطاء.إننا لا نعني هنا الدجالين والمشعوذين وقارئي الكف ومعبري الرؤيا ودعاة الرقية والطب البديل لأن الزمن كفيل بكشف أكاذيبهم.ولكن خطورة هذا التوجه تتجلى في ما يتعرض له العاطلون من تعبئة وشحن وإيهام برضى الله على الأفعال الإجرامية التي كان من ابرز ضحاياها مناضلون من صنف عمر بنجلون ومهدي عامل وعيسى أيت الجيد وفرج فودة ….. وكل أولائك الشهداء اللذين سقطوا جراء أفعال وتوجيهات من يدعون الانتماء إلى دين السلام وهم إلى نشر العداوة والبغضاء أميل وأقرب،بل صدروا عدائهم و كراهيتهم إلى عدد من الدول والأصقاع. إن إيهام هؤلاء المفتقرين إلى أبسط اللذات والعاجزين عن تحقيق أبسط الأحلام هو أبشع مظاهر الاستغلال للبطالة ومساعدتها ليس على قتل هؤلاء العاطلين فقط، بل وعلى نشر شرائع الكراهية والحقد والإرهاب، وباسم تلك القيم النبيلة التي يدعون السعي إلى نشرها لتصبح نظاما كونيا ومبادئ عليا تدين بها الإنسانية كلها.

إذا أضفنا إلى هؤلاء الضحايا الذين قتلتهم البطالة بمختلف الوسائل والأدوات ، أولائك الأموات / الأحياء الذين دفنوا في دهاليز وأقبية السجون وأضفنا إلى كل هؤلاء من تكتشف جتتهم في الأزقة المظلمة والكهوف النتنة والأكواخ المعزولة بفعل الثلج أو الجوع أو الأبنية المهترئة ،نعم إذا أضفنا لوائح الضحايا بعضها إلى بعض – هذا لو توفرت هذه اللوائح أو على الأقل الإحصائيات والأرقام – لأمكن أن نصدق ذلك الذي ادعى أن المغرب أحسن من فرنسا ولاستطعنا أن ندعي أن عدد قتلى البطالة في بلادنا لا يتجاوز الأرقام الذي قدمها الدكتور بيير ميتون.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى