الثقافةفي الكتابة وطقوسها...

الكتابة إبداع خارج المنطق لردع جنون العالم

◆ عائشة البصري

    ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬منعطف‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬متورطين‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬ندري‭. ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬كاتب‭ ‬تلزمه‭ ‬مؤثرات‭ ‬خارجية‭ ‬ليتجلى‭ ‬وليكشف‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مؤثرا‭ ‬ذاتيا‭ ‬أو‭ ‬خارجيا‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬صنعتهم‭ ‬الصدفة‭. ‬لكن‭ ‬لكي‭ ‬يترعرع‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬وينضج‭ ‬باستمرار‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬مؤثرات‭ ‬ومحفزات،‭ ‬أولها‭ ‬القراءة‭ ‬والتي‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬قراءة‭ ‬الأدب‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬قراءة‭  ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬والفكر‭ ‬والفن‭  ‬أكثر‭ ‬إثراء‭ ‬للتجربة‭ ‬الإبداعية‭ .‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬حالتي‭ ‬غالبا،‭ ‬إذ‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭  ‬قارئة‭ ‬عاشقة‭ ‬لكتب‭ ‬الفن‭ ‬والتشكيل‭.  ‬هناك‭ ‬أيضا‭ ‬تأثير‭ ‬الأجناس‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأخرى‭ ‬كالرسم‭ ‬والموسيقى‭ ‬والنحت‭ ‬والسينما‭ ‬وكذلك‭ ‬السفر‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬اكتشاف‭ ‬وحفر‭ ‬في‭ ‬الأمكنة‭.. ‬بالنسبة‭ ‬لي،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬حياتي،‭ ‬اكتشفت‭  ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬ستكون‭ ‬ملاذي‭ ‬وقناعي‭ ‬لأقول‭ ‬الحياة‭ ‬بأفراحها‭ ‬وآلامها‭. ‬

    ‬كتبت‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والقصة‭ ‬والنص‭ ‬المفتوح،‭ ‬والمقالة‭ ‬كلما‭ ‬أحسست‭ ‬بأن‭ ‬الفكرة‭ ‬تحتاج‭ ‬تدقيقا‭ ‬أكثر،‭ ‬لكنني‭ ‬آمنت‭ ‬بأن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬الطريق‭ ‬السالك‭ ‬نحو‭ ‬وجدان‭ ‬الآخر،‭ ‬بما‭ ‬أنه‭ ‬أكثر‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية‭  ‬حميمية‭ ‬والتصاقا‭ ‬بالذات‭.      ‬ربما‭ ‬تساءلت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬جدوى‭ ‬الكتابة‭. ‬كسؤال‭ ‬نطرحه‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬الإحباط‭ ‬والانكسار‭ ‬حين‭ ‬يحاصرنا‭ ‬الواقع‭ ‬بأسئلة‭ ‬تعجز‭ ‬اللغة‭ ‬على‭ ‬احتوائها‭: ‬هل‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬الكلمة‭ ‬بتلك‭ ‬القوة‭ ‬لتغيير‭ ‬العالم‭ ‬؟‭ ‬وهل‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الرحابة‭ ‬لتحضن‭ ‬تشظيات‭ ‬العالم‭ ‬الحالي؟‭ ‬لكنني‭  ‬لم‭ ‬أتساءل‭ ‬يوما‭ ‬لماذا‭ ‬أكتب‭ ‬أو‭ ‬لمن‭ ‬أكتب،‭ ‬لأن‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭ ‬ظل‭ ‬لصيقا‭ ‬بتلك‭ ‬الرغبة‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬إخراج‭ ‬ما‭ ‬علق‭ ‬من‭ ‬مرارة‭ ‬في‭ ‬دواخلي‭ ‬نتيجة‭ ‬توتر‭ ‬دائم‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ . ‬

حتى‭ ‬لو‭ ‬فقدت‭ ‬الكتابة‭ ‬صداها‭ ‬عند‭ ‬الآخر‭ /‬المتلقي،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬ضاقت‭ ‬مساحة‭ ‬إشعاعها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭.. ‬تظل‭ ‬ذلك‭ ‬الوميض‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬الحياة،‭ ‬وسماء‭ ‬رحبة‭ ‬للحلم‭ ‬والتحليق‭. ‬حين‭ ‬نحتاج‭ ‬لصدر‭ ‬رحب،‭ ‬يسع‭ ‬آلامنا‭ ‬وآمالنا،‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬غير‭ ‬بياض‭ ‬الورقة،‭ ‬مُنصتا‭ ‬رائقا‭ ‬ومتسامحا‭.. ‬نحتاج‭ ‬لملائكة‭ ‬تمسح‭ ‬الحزن‭ ‬عن‭ ‬قلوبنا،‭ ‬تُأنق‭ ‬لغتنا‭ ‬وتطهر‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬غير‭ ‬شفافية‭ ‬الشعر‭ ‬معبرا‭..‬

    ‬لنفترض‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬العبث‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬كتابة‭ ‬إبداعية،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬استحثاث‭ ‬الهمم‭ ‬وتحرير‭ ‬الشعوب،‭ ‬وتغيير‭ ‬ما‭ ‬بقوم،‭ ‬فلتكن‭ ‬الكتابة‭ ‬‭- ‬على‭ ‬الأقل‭- ‬تطهيرا‭ ‬للروح،‭ ‬إبداعا‭ ‬خارج‭ ‬المنطق‭ ‬لردع‭ ‬جنون‭ ‬العالم،‭ ‬أبدية‭ ‬صغيرة‭ ‬لمن‭ ‬تختصرهم‭ ‬الحياة‭.‬

    ‬قد‭ ‬أكرر،‭ ‬هنا،‭ ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭: ‬أكتب‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬أنفجر‭ ‬انفجارا‭ ‬غير‭ ‬لائق،‭ ‬الكتابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬احتجاج‭ ‬متحضر‭ ‬وهادئ‭ ‬ومؤدب‭ ‬على‭ ‬اختلالات‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ . ‬الكتابة‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صناعة‭ ‬لغوية‭. ‬

    ‬هذه‭ ‬الرغبة‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬كخواطر‭ ‬تبلورت،‭ ‬مع‭ ‬ممارسة‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة،‭ ‬لتصبح‭ ‬مشروعا‭ ‬له‭ ‬محدداته‭ ‬وطموحاته‭. ‬لهذا،‭ ‬وفي‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬رتبت‭ ‬فوضاي‭ ‬،‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬صرامة‭. ‬أدخل‭ ‬مكتبتي‭ ‬الثامنة‭ ‬صباحا‭ ‬ولا‭ ‬أغادرها‭ ‬حتى‭  ‬الساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬زوالا‭ . ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ببالي‭ ‬مشروع‭ ‬كتابة‭. ‬أقرأ‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬أكتب‭. ‬طبعا‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭. ‬الرواية‭ ‬تأخذ‭ ‬مني‭ ‬سنة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬والبحث‭. ‬هناك‭ ‬طقس‭ ‬جديد‭ ‬اكتسبته‭ ‬حين‭ ‬دخلت‭ ‬مجال‭ ‬الرواية،‭ ‬أبدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬بداية‭ ‬الفجر‭ ‬حتى‭ ‬شروق‭ ‬الشمس‭. ‬حينها‭  ‬أتوقف‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭ ‬وأنتقل‭ ‬إلى‭ ‬كتابات‭ ‬أخرى‭. ‬لكن‭ ‬تبقى‭ ‬المطارات‭ ‬والمحطات،‭ ‬من‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬أكتب‭ ‬فيها‭ ‬بغزارة‭. ‬الزحمة‭ ‬تعمق‭ ‬عزلتي‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬منبع‭ ‬كتاباتي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى