في لحظة ما، أو عند منعطف ما من الحياة، نجد أنفسنا متورطين في الكتابة من حيث لا ندري. لأنه في داخل كل منا كاتب تلزمه مؤثرات خارجية ليتجلى وليكشف عن نفسه. قد يكون مؤثرا ذاتيا أو خارجيا. كما أن الكثير من الكتاب صنعتهم الصدفة. لكن لكي يترعرع هذا الكاتب وينضج باستمرار لا بد من مؤثرات ومحفزات، أولها القراءة والتي ليست بالضرورة قراءة الأدب قد تكون قراءة كتب التاريخ والفكر والفن أكثر إثراء للتجربة الإبداعية .هذا ما يحدث في حالتي غالبا، إذ أعتبر نفسي قارئة عاشقة لكتب الفن والتشكيل. هناك أيضا تأثير الأجناس الإبداعية الأخرى كالرسم والموسيقى والنحت والسينما وكذلك السفر بما فيه من اكتشاف وحفر في الأمكنة.. بالنسبة لي، وفي لحظة متأخرة من حياتي، اكتشفت أن الكتابة ستكون ملاذي وقناعي لأقول الحياة بأفراحها وآلامها.
كتبت الشعر والرواية والقصة والنص المفتوح، والمقالة كلما أحسست بأن الفكرة تحتاج تدقيقا أكثر، لكنني آمنت بأن الشعر هو الطريق السالك نحو وجدان الآخر، بما أنه أكثر الأجناس الأدبية حميمية والتصاقا بالذات. ربما تساءلت في وقت ما عن جدوى الكتابة. كسؤال نطرحه ونحن في أقصى درجات الإحباط والانكسار حين يحاصرنا الواقع بأسئلة تعجز اللغة على احتوائها: هل ما تزال الكلمة بتلك القوة لتغيير العالم ؟ وهل لها من الرحابة لتحضن تشظيات العالم الحالي؟ لكنني لم أتساءل يوما لماذا أكتب أو لمن أكتب، لأن فعل الكتابة ظل لصيقا بتلك الرغبة الشخصية في إخراج ما علق من مرارة في دواخلي نتيجة توتر دائم بيني وبين العالم الخارجي .
حتى لو فقدت الكتابة صداها عند الآخر /المتلقي، حتى لو ضاقت مساحة إشعاعها في المجتمع.. تظل ذلك الوميض الوحيد في عتمة الحياة، وسماء رحبة للحلم والتحليق. حين نحتاج لصدر رحب، يسع آلامنا وآمالنا، فلا نجد غير بياض الورقة، مُنصتا رائقا ومتسامحا.. نحتاج لملائكة تمسح الحزن عن قلوبنا، تُأنق لغتنا وتطهر الطريق إلى الله، فلا نجد غير شفافية الشعر معبرا..
لنفترض أن هذا «العبث» الذي نسميه كتابة إبداعية، لم يعد قادرا على استحثاث الهمم وتحرير الشعوب، وتغيير ما بقوم، فلتكن الكتابة - على الأقل- تطهيرا للروح، إبداعا خارج المنطق لردع جنون العالم، أبدية صغيرة لمن تختصرهم الحياة.
قد أكرر، هنا، ما قلته منذ سنوات: أكتب كي لا أنفجر انفجارا غير لائق، الكتابة بالنسبة لي احتجاج متحضر وهادئ ومؤدب على اختلالات العالم الذي نعيش فيه . الكتابة حالة نفسية قبل أن تكون صناعة لغوية.
هذه الرغبة الشخصية التي بدأت كخواطر تبلورت، مع ممارسة فعل الكتابة، لتصبح مشروعا له محدداته وطموحاته. لهذا، وفي السنوات الأخيرة، رتبت فوضاي ، أصبحت أكثر صرامة. أدخل مكتبتي الثامنة صباحا ولا أغادرها حتى الساعة الواحدة زوالا . حتى ولو لم يكن ببالي مشروع كتابة. أقرأ أكثر مما أكتب. طبعا كتابة قصيدة ليست هي كتابة رواية. الرواية تأخذ مني سنة أو أكثر والكثير من الجهد والبحث. هناك طقس جديد اكتسبته حين دخلت مجال الرواية، أبدأ الكتابة بداية الفجر حتى شروق الشمس. حينها أتوقف عن كتابة الرواية وأنتقل إلى كتابات أخرى. لكن تبقى المطارات والمحطات، من الأماكن التي أكتب فيها بغزارة. الزحمة تعمق عزلتي الداخلية التي هي منبع كتاباتي.