الزوايا.. وجه آخر للسلطة
◆ فاطمة حلمي
لقد كان مسعى العلم الاجتماعي وما يزال هو البحث في ما وراء الظواهر الاجتماعية لمعرفة علل ظهورها هنا أو هناك؛ لكن السوسيولوجيا تحديدا في سيرها نحو تشييد معرفة علمية ممكنة حول الواقع الاجتماعي للفاعلين الاجتماعيين وللجماعات البشرية لا تنفك تحثنا على ضرورة النبش في ذاك الذي لا يقض مضجع الباحثين، ألا وهو تلك الأمور التي يُنظَر إليها على أنها أمور بديهية ولا يستدعي القبض على ناصيتها أهمية تذكر. فالبديهي Le ça-va-de soi عل حد تعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو هو ما يصنع العلم.
في هذا المنحى ترتسم أهمية النبش فيما خفي وراء ظاهرة الزوايا بالمغرب لاعتبار أنها لا تحيد بدورها عن كونها في اعتقاد الكثيرين أمرا بديهيا من حيث ما تظهر عليه. وإذا ما التفتنا إلى تاريخ انبثاق هذه الظاهرة فيما بين ثنايا العالَم الاجتماعي وجدنا أنها لا تتحرك وفق منطق داخلي خاص؛ بل أن ثمة إرادة، أو تصميم الإرادة ورغبة الإرادة هما ما به تتقوم هذه الظاهرة وباستمرار. وهذا ما يجعل الحديث عن الزوايا بالمغرب حديثا لا يستقيم دون الإلمام بالكيفية التي تم بها ترسيخها حتى باتت تشكل ذاكرة جمعية دون منازع. وهذا الأمر يكشف أن ظاهرة الزوايا قد ترسخت بعمق يسبغ عليها صفة السلطوية لاعتبار أنها تشكلت على مسار خط زمني طويل، أي على مدى تاريخ كينونة شعب. وبالتالي فهذه الاستمرارية هي ما يمنحها القدرة على تثبيت سلطتها على الأفراد والجماعات. وبه نكون في صميم ما يطلق عليه العلم الاجتماعي اسم “الزمانية المقدسة” .
لعل ما نروم إثارته في هذه الورقة هو البعد السلطوي الذي تتسربل فيه وبه الزاوية كمؤسسة لصناعة الولاء التام للسلطة الحاكمة ومباركته. فالزوايا بالمغرب لعبت دورا كبيرا وأساسيا في منع تشكل أي سلطة موازية أو مناهضة لسلطة الدولة؛ إذ تقوم بترسيخ صيغ متعددة لمقاومة كل تغيير أو استبدال ممكن لسلطة التحكم الكائنة بأخرى محتملة. ويتم ذلك بواسطة تثبيت مقولات عصبها ديني بامتياز حيث القدرية هي علة الكينونة البشرية في جميع أبعادها وتمظهراتها. لذلك ولمثل هذه الغايات تعمل إرادة السلطة الحاكمة على تقوية إرادة الزوايا حينما تفسح لها المجال لتصير بأدوارها تلك كمؤسسة من جملة مؤسسات أخرى قادرة على التحكم واحتكار المعرفة والفعل بدل اتباعها؛ بل إنها تضطلع بمهمة تأمين ما هو روحي ونفسي في شكله الأكثر ابتذالا عندما تجعله سلعة هي التي تؤمنها عبر مظاهر وكيفيات طقوسية مثلما تؤمن المؤسسة الاقتصادية السلع المادية.
لا ينبغي أن نستغرب هذه القوة والعمق اللذين تتزمن بهما الزوايا في الواقع المجتمعي وفي المخيال الاجتماعي للأفراد، والحال أن أساسها، كما تمت الإشارة إلى ذلك سلفا، هو أساس يرتكز إلى الدين الذي لطالما لجأ إليه الناس لتسيير العالم وظواهره. فالزاوية؛ باسم الشيخ والمريدين؛ تعمل على سحب الأفراد والجماعات نحو تصديق أنها هي التي تمتلك ديمومة قدسية تخول لها أن تفهم، تفسر وتقرر ثم ترغب بدلا عنهم بحجة أن مفاتيح المعنى بحوزتها أبا عن جد. وهنا ننعطف جهة التأكيد على أهمية العامل أو الشرط التاريخي-الزمني، فلعله بالرجوع إلى ذلك سنجد بأن الدين يشكل بوصلة توجه الكثيرين وتضمن لهم نوعا من الطمأنينة الروحية والنفسية بمنحهم ثمة معنى ثابت ونهائي لوجودهم ووجود الإنسان في كونيته على هذه الأرض.
في الواقع لا يمكن لمثل هذا الكلام إلا أن يشد الانتباه إلى مسألة جوهرية هي تلك التي تثار في سياق تناول قضية فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. وهو الفصل الذي يتيح إمكانية تعدد مصادر السلطة ومنه تعدد أسس مشروعيتها أيضا.غير أن الزوايا هاهنا ليست إلا دعامة ترتكز عليها السلطة السياسية لتكون أكثر تحكما ولتمنح لنفسها الشرعية من صلب مشروعية الزاوية كمؤسسة هي الساهرة على بقائها وحمايتها وحراسة استمراريتها وتقوية سبل تبعية الأفراد والجماعات وولائهم لها. وهنا يكمن الدور المهم والعميق للزوايا بما هي سراديب للتحكم غير المباشر للسلطة السياسية في الناس عبر السلطة الظاهرة والخفية للزاوية.. بذلك نكون أمام مصدر واحد للمشروعية وإن كنا نقف أمام سلطتين، فهما لا تسيران معا وجنبا لجنب، كما أنهما ليستا سلطتين متواجهتين؛ بل إن الأولى ليست إلا وجها أو ظلا خفيا للثانية.
إن منح الزوايا بعضا من سلطوية المؤسسة السياسية المتحكمة هو ضرب من التحديات تعلنه هذه الأخيرة لتبين عن مصادر قوتها. ونقصد هنا ما يسميه بيير بورديو بالرأسمال الرمزي الذي لا يقل أهمية عن الرساميل المادية التي تتقوم بها السلطة السياسية للدولة، أي المالية والعسكرية خصوصا.
يرتبط هذا الرأسمال الرمزي بتمثلات الأفراد عن معنى القداسة التي يتمتع بها الحاكم والتي تزكيها الزاوية عبر التمسك بالانتماء والتبعية لشيخ يتجذر نسبه في ما أطلقنا عليه بمعية علماء الاجتماع صفة الزمانية المقدسة أو القدسية. هذه القدسية التي تتراءى للمريدين في شيخهم هي ما يستند إليه هو ليرسخ ولاءهم للحاكم مبينا أن نسبه أكثر تجذرا في الزمانية المقدسة حيث يمتد إلى سلالة الأنبياء. بهذا يكون لكل زاوية نهج خاص يميزها، ويتعلق الأمر باختلاف الكيفية التي تعرض بها كل واحدة ذاتها؛ غير أن هذا الاختلاف الذي يتجسد في ما هو طقوسي على كثرة مظاهره، يصب في استراتيجية موحدة تسعى إلى بلوغ نفس الغاية.
هكذا تُكوّن الزوايا صورة واضحة عن استراتيجية السلطة الحاكمة فيما يخص مراكمة الرأسمال الرمزي، أي مقدار ما لها من السيادة والامتياز المشروعين اللذين يقويان شرعيتها في الحكم والتحكم والتصدي لرياح كل تغيير ممكن أيا كانت الجهة التي تهب منها هذه الرياح.
إن ريادة الزوايا في صناعة الولاء، ترسيخه ومباركة جميع صيغ وكيفيات ومظاهر الطاعة للسلطة السياسية الحاكمة ليست نتيجة حتمية سببية، فالحديث عن ظاهرة الزوايا بالمغرب هو من باب الحديث عن ما هو فعل إنساني (مجال الظواهر الإنسانية) لا يستقيم فيه هذا القانون كما هو في مجال العلوم الفيزيائية؛ لذلك حري بنا الإقرار بأن الغاية من وراء رعاية وحماية استمرارية الزوايا هي في ارتباطها بسياق تاريخي- ثقافي خاص وبعينه وليدة إرادة سياسية. هذه الارادة السياسية هي التي تمنح للزوايا الشرعية في التواجد بين ثنايا الواقع الاجتماعي وذلك لكي تصنع لها نوعا من الولاء يقوي سيادتها وسلطها التحكمية.