غير مصنف

خطان لا يلتقيان

كل متتبع سياسي، أو مواطن عادي، مقتنع بأن الوضع العام في البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يعيش ارهاصات سلبية، لم يسبق أن عاش في تاريخه الحديث منذ الاستقلال مثيلا لها. ارتباك في القمة وفي صنع القرار، ارتباك في تنفيذه، ارتباك في تحمل مسؤوليته، ارتباك في القاعدة وفي كيفية التصدي للإرهاصات السلبية.

منذ الاستقلال، حتى السنوات الأخيرة، كان هناك خط سميك يشق المشهد السياسي والاقتصادي، رغم وجود خطوط دقيقة هنا وهناك، لتبرز كتلتان اجتماعيتان كبيرتان مخضبتان بالسياسة والثقافة واللغة والاقتصاد والاجتماع … ومن النادر أن تتواجه هاتان الكتلتان في قضية ما اجتماعية أو ثقافية.. دون أن تأخذ بسرعة حظها من حقل السياسة مثل ما يحصل في عدد من البلدان حاليا مثل تونس والسودان..

كانت بعض الشرائح الاجتماعية، تعتقد عن خطأ أن حكومة يشكلها الإسلام السياسي، وإن لن تستطيع أن تغير الأوضاع جذريا وتأخذ سبيلا مختلفا عن السبيل السياسي والاقتصادي للحكومات السابقة، فإنها مع ذلك ستقبض العصا من الوسط، لكن ها قد سقط القناع عنها بسرعة وانكشفت طبيعتها، وكنا في حزب الطليعة نؤكد على أن هذا التيار سيسلك طريق الرأسمالية المتوحشة، وكنا نتمنى أن نكون خاطئين، لكن الواقع حمل منذ الطبعة الأولى للحكومة وفي طبعتها الثانية أمثلة صارخة لما كنا ننبه إليه.

لقد كانت الحكومات السابقة تجرًع السم الرأسمالي للطبقات الشعبية جرعة بجرعة، وتنفذ الأجندة المخزنية وأجندة المؤسسات المالية الدولية، خاصة صندوق النقد الدولي على مراحل، ولما جاءت حكومة الإسلام السياسي بطبعتيها فاقت سابقاتها في فظاظة تنفيذ القرارات اللاشعبية وفي تسريع وتيرتها وفي عدم احترام حتى ما ينص عليه القانون، بل أكثر من هذا تخلت حتى عن مقتضيات دستورية تحتوي على اختصاصات لها، لفائدة المؤسسة الملكية وأعلنت أكثر من مرة أنها جاءت لتُجَنْدِلَ الأجساد في الشارع والساحات، واعتبر الاعلام القريب منها ذلك كله شجاعة سياسية .

يمكن لنا إذا أردنا أن نقارن بين الحكومات السابقة وبين حكومة الإسلام السياسي أن نختار ميدانا واحدا هو نموذج لكل الميادين، ألا وهو ميدان الطاقة الذي يعتبر عند الدول التي تفكر ليل نهار في مصلحة البلد من الميادين الاستراتيجية، وهو في قلب المصلحة الوطنية، وضمان الطاقة يحدد قوة البلد، والإخلال والتلاعب بها يؤدي إلى فقدان كل مقومات القدرة والاستطاعة.

أيام الاستعمار، ولأنه كان يفكر في البقاء في المغرب عمل على كشف البترول في سيدي قاسم وأنشأ مصفاة ومكانا للتخزين فيها، وبعد الاستقلال مكنت التدخلات الداخلية من تشكيل حكومة وطنية أنشأت مصفاة المحمدية، وكانت لبنة أساسية في الصناعة المغربية، ومنذ اسقاط الحكومة، وضعت الحكومات اللاحقة سياسة الخطوة خطوة لتفكيك الاقتصاد الوطني، بدءا من المغربة في جوهرها، مكافأةً لخدام الدولة وانتهاء بالخوصصة، وذلك كله خلال أكثر من عقدين من الزمن، أما حكومة الإسلام السياسي فقد انقضًت على ما تبقى من مكاسب الشعب المغربي في هذا الميدان وضربته في ظرف أربع سنوات فقط من 2015 إلى 2018.

الواقع السياسي يحتوي على ما هو جوهري وما هو شكلي وكثيرا ما يكون هذا الأخير خادعا للنظر، فإذا تتبعناه وفحصنا الأغلبية الحكومية نجدها تضم أطرافا متعددة  تعيش نزاعات وتشققات في جدرانها، ولكن كل ذلك يحدث في قضايا التعيينات وفي من يشرف على الصناديق وفي من له الحظوة لدى دوائر صنع القرار، وعندما يطرح موضوع القضايا الشعبية يتفق الجميع ولا أحد يستقيل احتجاجا على السياسة الاقتصادية المتوحشة أو على طريقة التعامل مع مطالب الاحتجاجات في عدد من المدن، الشيء الذي يبين أن كل الأطراف في الحكومة وجزء آخر من المعارضة التي لا تستطيع القيام بدور المعارضة في القضايا الشعبية الأساسية تشكل طرفين : واحد يمثل الصنف الأول الذي يُجرع السم جرعة بجرعة للمغاربة،  والثاني يمثل الارتجال وبالسرعة المفرطة، وهما معا طرف واحد بخط سياسي واحد.

في نهاية الأمر، الوصول إلى الهدف هو نفسه لدى الطرفين: ضرب مصالح الشعب لصالح التحالف الطبقي المهيمن سياسيا واقتصاديا، لكن الأسلوب فيه بعض الاختلافات بين من يزن الخطوات ويحضر لها حتى يسهل بلعها، وبين من يريد أن يضرب تلك المصالح بالأسلوب العنتري لاستفزاز الطبقات الشعبية لشيء في نفس يعقوب لا يخفى على اللبيب من الناس.

نحن إذن أمام خط واحد، وليس إثنين، جمع مكونين مختلفين في الثقافة وفي التجربة السياسية والاقتصادية، وفي العلاقات الدولية، وفي طريقة التمكن ولكن هما معا في خدمة الطبقة السائدة وخدمة المؤسسات الدولية المالية.. هما معا مكون واحد وخط سياسي واحد في مواجهة خط النضال الديمقراطي الذي اعتراه ارتباك ناتج عن توجه يميني للمجتمع بدأ مع صعود الإسلام السياسي وزادت وطأته بعد 20 فبراير، حيث فضلت أوساط كثيرة من البرجوازية الصغيرة التي كانت دوما العمود الفقري للنضال النقابي والعمالي الرجوع إلى النضال المحلي والفئوي اعتقادا منها أنه سيكون بفواتير رخيصة على عكس فواتير ما هو سياسي.

فخط النضال الديمقراطي وخط الافتراس الاستبدادي خطان لا يلتقيان، والذي يجعلهما لا يلتقيان أن الأول خط طبقي لأغلب طبقات المجتمع ضد السياسة الاقتصادية والسياسية للتحالف الحاكم، وفي نفس الوقت خط وطني ضد النهب الأجنبي لثروات المجتمع، بينما الخط الثاني خط طبقي مستبد لأقلية المجتمع وفي نفس الوقت تلميذ نجيب لتدخلات الأجنبي.

كان يمكن أن يلتقيا لو أن الخط الثاني خط منفصل عن الأجنبي، أي لو أن هذه الأقلية من المجتمع لديها حس وطني، تعمل على أن تستفيد -لا بأس من ذلك-، ولكن عليها أن تسهر أيضا على أن يستفيد الوطن، أي أن يحصل الالتقاء في إطار التسويات السياسية المسموح بها عادة عندما تستفيد الطبقة الحاكمة ويستفيد المجتمع، أما لما تستفيد هي ويستفيد الأجنبي وعلى حساب المجتمع فإن ذلك لا يقبله إلا من كان حقودا على الوطن وعلى ألمجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى