اشتراكية القرن 21: المفهوم والمرجعية
تعددت مؤخرا كتابات على هامش مؤتمرات أحزاب اليسار بالمغرب توظف عبارة « اشتراكية القرن العشرين «، وهي كتابات تتراوح بين استلهام نظرية «اشتراكية القرن 21» كما وضعها هاينز ديتريخ (1966)، وبين توظيف للعبارة بعيدا عن أصولها المرجعية، في دلالة غالبا ما تكون على الديموقراطية الاجتماعية، التي أصلا تعتبر اشتراكية القرن 21 نقيضا ونقدا لها، باعتبارها انحرافا نحو التصالح مع اقتصاد السوق الرأسمالي.
لا تروم هذه المقالة الحفر في المفهوم، ولا تفكيكه، بل فقط إلقاء بعض الضوء على هذه المرجعية، في تساوق مع ما يقع في فنزويلا خاصة وعموم أمريكا اللاتينية.
فمن المعلوم أن الحركة الاشتراكية الأمريكو لاتينية كانت الأكثر تلقيا لاشتراكية القرن 21 ، وتنبها لأجوبتها الإجرائية عن أزمة كل من الديموقراطية التمثيلية وعطب «اشتراكيي» الديموقراطية الاجتماعية، فالقاسم المشترك بين تجارب لولا بالبرازيل وإيفو موراليس ببوليفيا ورافائيل كوريا بالإكوادور، وطبعا هوغو تشافيس بفنزويلا هو استنادهم على الإرث النظري لهاينز ديتريخ تصريحا أو تلميحا، مع بعض الاجتهادات المطبوعة بميسم محلي لافت، ولذلك نجد بعض الاختلافات بين هذه التجارب وتجربة كاسترو بكوبا.
يمكن أن نعتبر بغير قليل من التحفظ أن اشتراكية القرن 21 قامت بنقد مزدوج لما آلت إليه الرأسمالية الصناعية من تعميق للفقر والحروب وهيمنة السوق وتدمير الطبيعة من جهة، ومن جهة أخرى تجرأت على نقد تجارب اشتراكية القرن العشرين (الاتحاد السوفياتي والصين أساسا)، المطبوعة ببيروقراطية الدولة وتقليص هامش الحريات.
انتبهت اشتراكية القرن 21 لأهمية استحضار بعض التناقضات الثقافية التي لا تقل أهمية عن التناقضات الطبقية، ولذلك سنجد في تجارب أمريكا اللاتينية وعيا واشتغالا على قضايا من مثل: حقوق السكان الأصليين والعنصرية والنسوية والإيكولوجيا (بمفهوم يختلف جذريا وأكثر راديكالية من تصورات حركات الخضر)
كما اختلفت هذه المدرسة عن اشتراكيات القرن العشرين في تصورها للسلطة، إذ رفضت كل نزوع يستهدف الديموقراطية ومشاركة الشعب في تقرير مصيره، فالسيادة الشعبية لا تمر إلا عبر صناديق الاقتراع والاستفتاءات الشعبية، والوصول للحكم لا يمر إلا عبر هذه الآليات بعد أن تم القطع مع الانقلابات العسكرية وإخضاع الثورات المسلحة لسؤال الجدوى والتكلفة والمآلات، كما رفضت اشتراكية القرن 21 التخطيط المركزي، واستبدلته بالتخطيط التشاركي اللامركزي. لذلك يصح القول إنها الأجدر باسم: الاشتراكية الديموقراطية.
وإذا كانت تجارب أمريكا اللاتينية الاشتراكية قد استفادت كما قلنا من مشروع هاينز ديتريخ، فإنها لم تكن أرثودوكسية في هذا التعاطي، بل أغنته بالمزج بين ثلاث مرجعيات كبرى:
*- مرجعية هاينز ديتريخ: خصوصا في الأصول النظرية المرتبطة بالاقتصاد المتكافئ (تثمين قيمة العمل حسب الاقتصاد السياسي الماركسي)، والديموقراطية الأساس (تقوية المؤسسات المنتخبة وضرورة هيمنتها على المؤسسات الثابتة أو العميقة مثل الأمن والجيش والإدارة) وديموقراطية الأغلبية ( التي تمارس عبر الاستفتاءات والانتخابات حتى في المؤسسات الميكرو، في نقد للديموقراطية المركزية)؛
* – مرجعية تقافة السكان الأصليين: ولعل أقوى مفهوم تم الاستفادة منه من هذه الثقافة هو مفهوم « البوين فيغر» الذي يعني معيشة جديدة يتناغم فيها الإنسان مع الطبيعة، ولذلك اعتمدت اشتراكيات أمريكا اللاتينية على مفهوم للتنمية يقر بحقوق الفرد والجماعة من جهة وحقوق الطبيعة من جهة أخرى، لذلك أولت اهتماما بقضايا التعليم والصحة ومحاربة الفقر واستحضار البعد الإيكولوجي، ولعل قليلين من يعرفون أن جزء كبيرا من القادة الاشتراكيين الأمريكو لاتينيين كانت بداياتهم النضالية في «الحركة من أجل حقوق السكان الأصليين وحقوق الطبيعة»، وبأن هذه الحركة سرعان ما تحولت نحو الخط الاشتراكي بعد أن انطلقت حركة أشبه بالحركات الهوياتية؛
*- مرجعية التجارب الاشتراكية السابقة بأمريكا اللاتينية نفسها: سواء من مدخل النقد أو مدخل التراكم: لاهوت التحرير، كاسترو، ألييندي، غيفارا، الجبهة الساندينية، جيش زاباتيستا للتحرير الوطني.
كما أن خيبة أمل شعوب أمريكا اللاتينية من نتائج الديموقراطية التمثيلية التي أوصلت حكومات تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي حكومات عمقت من الفقر واللامساواة والتمييز، جعلت اشتراكيي أمريكا اللاتينية لا ينقلبون على الآليات الديموقراطية، بل حافظوا عليها من أجل الوصول للسلطة ببرنامج اجتماعي واقتصادي يراهن على تصحيح الاختلالات لصالح الفقراء والمهمشين، فإذا كانت الحكومات السابقة عمقت اللامساواة، فقد طرح الاشتراكيون برناماجا لتقليص الفوارق في أفق القضاء عليها: الفوارق الطبقية، الفوارق بين النساء والرجال، الفوارق بين الفلاحين والقرى عموما وبين المدن، الفوارق بين السكان الأصليين والمنحدرين من أصول أوروبية ( إيبيرية تحديدا).
ومن هنا يمكن ملاحظة الملامح الرئيسة لهذه التجارب في:
أولا: التحالف بين هذه الحكومات لمواجهة الإمبريالية الأمريكية من جهة، ولإحداث نوع من التكامل الاقتصادي بين هذه الدول بما يفيد الجميع، أي أن المرور نحو الأممية الاشتراكية يمر عبر ما يمكن تسميته ب القارية الاشتراكية.
ثانيا: استدماج المكونات الهشة في المجتمع وعدم الاقتصار على البروليتاريا فقط، ولذلك نجد أن القاعدة الانتخابية الكبرى تتكون من الفلاحين والمهمشين والنساء في وضعية صعبة، والهنود والسكان الأصليين.
ثالثا: الاشتراكية الديموقراطية: التي زاوجت بين الليبيرالية السياسية والاشتراكية الاقتصادية، فالمشروع الاشتراكي لا يمكن أن يمر إلا من قناة ديموقراطية.
يعتبر بعض اليساريين الراديكاليين في أمريكا اللاتينية أن هذه التجارب لا يمكن اعتبارها نماذج نهائية، ( أنصار الأممية الرابعة تحديدا) ، ورغم دعمهم لها، فهم يعتبرونها فقط حالة ما قبل ثورية، ويعيبون عليها أمورا كثيرة يمكن إجمالها في ثلاثة:
أولا: بروز بعض مظاهر الفساد المدعوم ببيروقراطية موروثة، يؤدي أحيانا إلى ممارسات قمعية؛
ثانيا: الدور المحافظ لجهاز الدولة، بمعنى أن هذه التجارب التي انتقدت بيروقراطية التجارب السوفياتية والماوية سقطت بدورها في بيروقراطية أخطر: بيروقراطية الأجهزة الموروثة عن حكومات اقتصاد السوق؛
ثالثا: استمرار البنية الرأسمالية في نموذج اشتراكي..
لذلك يدعو هؤلاء الراديكاليون الذين يوجدون على يسار اشتراكية القرن 21 إلى ثورة داخل الثورة، (لا خارجها)، بمعنى الحفاظ على جوهر هذه الاشتراكية مع تصحيح اختلالاتها، هذا الجوهر الذي لا يختلف عن صرخة « إرنيست ميندل « تعرضت الاشتراكية للخيانة من طرف بيروقراطية اختبأت خلف الاشتراكية نفسها لسرقة سلطة الشعب، ومن طرف التحريفيين الذين سعوا للتوفيق والتصالح مع الطبقة الرأسمالية» أي : لا للبيروقراطية ولا للديموقراطية الاجتماعية الإصلاحية.