بصوت مرتفع: قلبي عليك أيتها الجوهرة السوداء وقلبهم من حجر!
إن الحراك الاجتماعي بجرادة، وقبله حراك الريف واحتجاجات اجتماعية بمناطق عدة من البلاد، كلها مؤشرات ملموسة وواضحة على خطورة الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتفاقم واقع الفقر والتهميش والهشاشة الاجتماعية رغم العديد من البرامج والمبادرات التنموية والتي عجزت عن الحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية وتحقيق العدالة الاجتماعية وكرامة العيش.
إنه حراك اجتماعي بامتياز، أي حراك سلمي وحضاري بمطالب اجتماعية تنبع من قلب معاناة الساكنة وعلى رأسها إيجاد بديل اقتصادي ومراجعة غلاء فواتير الماء والكهرباء ومحاسبة المسؤولين الذين اغتنوا من هذه الأوضاع ظلما وعدوانا، فمنذ إغلاق مناجم جرادة سنة 1998 لم تحظ هذه المدينة بفرص تنموية حقيقية من شأنها صيانة كرامة أهلها البسطاء بل أصبحت مرتعا لبارونات الفساد وآبار الموت حتى أصبحنا أمام إرادة غير مفهومة لإقبار المدينة اقتصاديا واجتماعيا ومجاليا ومصادرة حقها في الوجود الاجتماعي.
لكن الذي يؤسف له بشدة هو اعتبار الخيار الأمني هو الجواب الطاغي إزاء حراك اجتماعي سلمي، مع العلم أن لهذا الخيار تكلفة باهظة على مستوى تكريس مناخ عدم الثقة بين الدولة والمجتمع، بين المواطن والمؤسسات، وتعميق منسوب التشكيك في وعود المسؤولين وضمانات الالتزام والوفاء بها، والمؤسف أكثر هو أن هذه التكلفة الجسيمة قد تعززت باستمرار مسلسل المتابعات والاعتقالات والمحاكمات واتساع حجمها وتسارع وتيرتها بشكل أثار ويثير استغراب هيئة الدفاع والوسط الحقوقي والرأي العام الوطني والدولي و يفاقم من معاناة أسر المعتقلين وذويهم بين أدراج المحاكم والمؤسسة السجنية ، هذا ناهيك عن التداعيات السلبية الخطيرة للتدخلات الأمنية على مستوى خلق حالة من الذعر والتوتر والاحتقان الاجتماعي داخل المدينة.
إن استمرار حراك جرادة بطابعه السلمي والحضاري لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر شكل فرصة حقيقية لخلق مناخ من الثقة وإنضاج شروط الحوار نحو معاجلة اجتماعية منصفة ومنتجة، لكن للأسف الشديد مرة أخرى يطفو على السطح «العقل الأمني» و منطق «التأزيم والتلغيم» و «الوساطة الفوقية»، وينطلق مسلسل المتابعات والاعتقالات بالجملة والتي شملت قاصرين وشباب يتطلع الى غد أفضل يتمتع فيه بحقوق المواطنة، ويتوج هذا المسار بسلسلة من المحاكمات افتقدت أدنى شروط المحاكمة العادلة، بشكل يتنافى والدستور المغربي الذي يتم نعته ب «دستور الحقوق والحريات»، و كذلك مع الالتزامات الدولية للمغرب في مجال حقوق الإنسان، ولم تتوقف الاعتقالات العشوائية والتعسفية حيث تم توقيف مئات الشباب وتوزيع أكثر من نصف قرن من الأحكام القاسية.
وهكذا يستمر المسلسل الدرامي والانتقامي للمحاكمات مفتوحا ويكابد المعتقلون أوضاعا صعبة ومتردية داخل السجون جعل العديد منهم يدخل في إضرابات عن الطعام تهدد صحتهم وسلامتهم الجسدية وأمانهم الشخصي وبالتالي حقهم المقدس في الحياة، كما تم حرمان بعض المعتقلين ممن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم من حضور مراسيم الدفن بجرادة بشكل يتنافى مع القانون والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وذلك رغم المجهودات التي بذلتها العائلات والإطارات الحقوقية في هذا الشأن وخاصة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئة الدفاع. كل هذا يسئ بعمق للخطاب الرسمي حول المصالحة والإنصاف والقطع مع سنوات الرصاص وجبر الضرر الفردي والجماعي…، كما يضع كل الشعارات حول دولة الحق والقانون واحترام الحريات موضع شك ومساءلة في ظل سياق وطني يشهد ردة حقوقية غير قابلة للتغطية أو الإنكار يقابلها تدهور مضطرد للأوضاع المعيشية للمواطنين والمواطنات ضحايا الإقصاء الاجتماعي والمجالي مما يرجح أن تتسع خريطة الغضب الاجتماعي وأشكال التعبير عنه في مختلف ربوع البلاد.
إن الاعتراف الرسمي بفشل النموذج التنموي لا يمكن أن يستقيم في ظل مفارقة «عجيبة» ثلاثية الأضلاع تجمع بين الاعتراف بالفشل من جهة أولى، و من جهة ثانية الانتصار الكلي للخيار «الأمني» في مواجهة الحراكات الشعبية والاحتجاجات النقابية و الاجتماعية المتصاعدة والتي ليست في الواقع إلا استنكارا لذلك الفشل في ميادين التعليم، الصحة، الشغل، الحريات النقابية و الحقوق الشغيلة ، ثم من جهة ثالثة الاستمرار في مشاريع تنموية بمراحل جديدة كالشروع في المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مع ما تشكله مشاريعها وبرامجها من علب سوداء محاطة بنوع من «القداسة» رغم أنها ممولة تمويلا عموميا. لهذه الأسباب وأخرى، لا يمكن النظر الى اعتماد استراتيجية «أمنية» خالصة إلا من زاوية أنها تغطية صريحة على فشل الاختيارات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية في ضمان الحدود الدنيا من العدالة الاجتماعية والمجالية والضريبية.
إن القطع من استراتيجية تجريم الاحتجاج عبر أدوات يتداخل فيها القمع و «التأزيم» و «الوساطة الفوقية» في التعاطي مع حراك اجتماعي شعبي وسلمي من أجل حياة كريمة لن يضمنها غير خلق مناخ من الانفراج السياسي و الاجتماعي بدءا بإطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية الحراك واعتماد مقاربة ديمقراطية تشاركية على صعيد بلورة بديل اقتصادي واجتماعي منصف يحقق العدالة الاجتماعية و المجالية ويقطع مع منطق الريع والفساد والإفلات من العقاب، وبالتالي إعادة الاعتبار لمدينة عمالية طالما تصدت لإرادة قاسية ومصممة على قبرها « ساكنة، مجالا و ذاكرة « ومصادرة حقها في الوجود الاجتماعي من خلال سوء تدبير الشأن المحلي وتحالف قوى و لوبيات الريع و الفساد…
فأي ضمير لهذه الدولة، ضمير يقسو على الكادحين و يقهر المقهورين وفي نفس الوقت يعطف على «النخب الفرجوية و الريعية» بل يكافئها باستمرار؟، لهذا أستحضر ما قاله الفقيد احمد بن جلون معلنا دعمه للحركة الطلابية لما اشتد القمع إزاء معركة مقاطعة الامتحانات الجامعية سنة 1989 حيث خط مقالا بجريدة «المسار» تحت عنوان « قلبي عليكم و قلبهم من حجر»….قلبي عليك أيتها الجوهرة السوداء و قلبهم من حجر !.. .
رحم الله الفقيد أحمد بن جلون ونحن نخلد الذكرى الرابعة على رحيله.
محمد امباركي