الشعب الجزائري يؤرخ مثالا حضاريا:
الصوت الواحد للشارع العريض يحبط الشوطين الأول والثاني من خطة الالتفاف
لم تنجح خطة الحكومة التي قدمها بوتفليقة، إذ أعلن الشارع في الغد رفضه لها، وحاول الوزير الأول ونائبه، تقديم عرض جديد من داخل الخطة، يقضي بتشكيل الحكومة من كل الأطياف السياسية، ومن المجتمع المدني، ومن الشباب، لكن في يوم الجمعة الماضي جاء الرد مباشرا برفض الترقيع، وأصرت المظاهرات في مجموع المناطق على رحيل النظام، الذي يبحث عن مخرج، بينما المعارضة تهيكل نفسها وتنفتح على الشباب والمجتمع المدني وعلى النقابات، وتتفق على شخصية حقوقية نزيهة تحظى بالتأييد لتولي مهمة المنسق استعدادا للأشواط الإضافية، وليوم 28 أبريل.
المرأة المجهولة والإضراب العام
ظهر بوتفليقة في الأشرطة التلفزيونية، يوم 11 مارس، غداة عودته من جنيف متعبا، وفي حاجة ماسة للراحة، الشيء الذي يطرح السؤال حول الأسباب التي دفعت الحكم، إلى التعجيل بعودته وعدم تركه يستريح بعد العلاج الذي تلقاه؟ قبل عودته يوم الأحد 10 مارس، وقع حدثان لم تُعط لهما أهميتهما إلا من باب نقل الخبر للرأي العام، والحال أنهما كانا وراء الاستعجال والارتباك.
في يوم السبت 9 مارس قدمت المحامية ساسكيا ديتيشايم، رئيسة الفرع السويسري في منظمة محامون بلا حدود التماسا برفع السرية الطبية عن بوتفليقة إلى المحكمة، وطلبت بوضعه تحت الوصاية والحماية، وقد قدم الالتماس باسم مواطنة جزائرية، لم تكشف المحامية عن اسمها للصحافة. لكن من خلال قراءة حيثيات الالتماس، يظهر أن السيدة ليست بعيدة عن عالم بوتفليقة، إذ جاء فيها من ضمن الحيثيات، أنه غير قادر على التمييز بين الأمور، وأنه لا يتخذ القرارات بنفسه، وإنما حاشيته السياسية والعائلية هي التي تقوم بذلك. وأنه لم يقرر بنفسه ترشحه لولاية خامسة، وهذه النقطة الأخيرة أشار إليها بوتفليقة بنفسه بعد عودته بشكل مخفف.
وقبل ذلك بيوم في الجمعة 8 مارس انضم عمال موانيء بعض المدن خاصة ميناء الجزائر العاصمة للمظاهرات وقرروا الأضراب، وهي خطوة لها ما بعدها، وقد ظهر ذلك من امتداد الإضراب إلى عمال سوناطراك في قطاع النفط والغاز بمناسبة المظاهرات الوطنية الرابعة يوم 15 مارس.
الساعات الثمانية السرية
وصل الرئيس بوتفليقة إلى مطار بوفاريك العسكري، في الساعة الخامسة والنصف، بالتوقيت المحلي، الرابعة والنصف بغرينيتش، من يوم الأحد 10 مارس، ووصل إلى إقامته في السادسة و 15 د ولإعداد خطته التي اطلع عليها الشعب الجزائري من خلال رسالته إليه، ومن خلال تعيين رئيس الوزراء ونائبه واستقبال الابراهيمي وتكليفه بالاتصال بقيادات المعارضة، كان الرئيس يحتاج إلى وقت وإلى استماع لمختلف السلطات العسكرية والأمنية والسياسية، منها ما يفرضه الدستور مثل تعيين الوزير الأول وتأجيل الانتخابات..
وقد نقلت الصحافة الجزائرية أن المجلس الأعلى للأمن، اجتمع أثناء وصول بوتفليقة للجزائر، واجتمع للمرة الثانية يوم السبت 16 مارس لتقييم مظاهرات الجمعة 15 مارس.
إن المشهد الذي نقله التلفزيون الجزائري، يبين استماع بوتفليقة لرئيس الأركان وهو يقدم له تقريرا عن حالة الأمن في البلاد، ليس إلا سيناريو دعائي، ولا تقدم حالة الأمن عادة في العالم كله، أمام المصورين وأمام الموظفين في القصر الجمهوري، بل وراء الأبواب المغلقة، حالة الأمن يقدمه المجلس الأعلى الذي يضم قيادات الجيش والدرك والأمن والاستخبارات، وعلى هامش هذا يجتمع الرئيس عادة بأركان الجيش لكونه هو وزير الدفاع؛ وتضم الأركان جنرالات القطاعات الثلاث الجوية والبحرية والبرية وعدد هام من قيادات الجيش للولايات. إن هذه اللقاءات وضمنها لقاء مع قيادات الأغلبية البرلمانية الذي يفرضه الدستور عند النية في تغيير رئيس الوزراء لا يمكن أن تتم إلا مساء يوم الأحد وصباح الاثنين أي ما يقارب أربع ساعات في كل فترة من الفترتين.
لكن بحضور الابراهيمي إلى الجزائر العاصمة قبل وصول بوتفليقة إلى الجزائر بيوم، وبتراجع رئيس الأركان الجزائري عن تصعيده ضد المظاهرات يظهر أن المجلس الأعلى للأمن فيه اتجاه قوي لا يرغب في مواجهة الشعب بالقوة وأن رسالة بوتفليقة الأولى والثانية ليستا إلا بروفتان خرجتا من المجلس الأعلى، كانت الأولى في غياب الرئيس والثانية بحضوره.
خطة الحكم الفاشلة
تقوم الخطة على الإلتفاف على المطالب، بثلاثة أركان: الأول دعاية موجهة للخارج ولأوساط الجيش من جنود وضباط مفادها أن الجزائر مهددة بأن يتولى فيها الإسلام السياسي الحكم، وأن المظاهرات مخترقة من طرفه، والقيام بخرجات سنيمائية لإظهار أن القيادة تراقب الحدود مثل خرجة قايد صالح بزيارة الولاية العسكرية الثالثة( بشار) لمدة أربعة أيام من 17 مارس إلى 21 منه، وكان أول من بلع الطعم هو ماكرون وتماشى مع جاء في ما أعلن من خطوات في رسالة بوتفليقة، وتبعه ترامب مع قليل من التروي بحيث ساوى بين الخطة وبين المتظاهرين. ويظهر أن عيون فرنسا في القصر الجمهوري هي عيون للعسكر في مطبخ فرنسا، لأن العسكر تمكن من أن يصور لفرنسا الوضع، بما يخدم مصالح قيادته. وكان من المهم أن يتخذ المغرب موقف عدم التدخل وعدم التعليق لأن الحكم في الجزائر كان بالتأكيد سيأخذه ليدعم به ما يحاول أن يخيف به الدول الغربية ويجند به عموم الجيش الجزائري، خصوصا أن الحزب الأغلبي في الحكومة حزب يمثل الإسلام السياسي. ومن حسن حظ المغرب أن رئيس الحكومة المغربية السابق لم يبق مسؤولا حتى هذا الوقت، وإلا لأدى تهوره المعتاد إلى ما لا تحمد عقباه. الثاني إعلان تخلي بوتفليقة عن الترشح للرئاسة وتأجيل الانتخابات والتقدم بحزمة من المقترحات، لعلها تسيل لعاب المعارضة والشباب مثل تغيير أويحيى وتشكيل حكومة جديدة وندوة وطنية يتحدد فيها مصير القضايا الكبرى بما يوحي بفترة انتقالية يدير دفتها بوتفليقة ومن في محيطه.
الثالث إرسال الابراهيمي في مهمة استطلاعية أولى نحو قيادة المعارضة والشباب والنقابات المنضوية في اتحاد العمال الجزائريين الغاضبين من عبد المجيد السعيد الرئيس الحالي المؤيد لبوتفليقة والعضو البارز في جبهة التحرير. وذلك بهدف زرع الألغام وسط المعارضة ووسط المجتمع المدني، وخلق أزمة ثقة وسط الحراك، وتعتبر هذه المهمة التي تكلف بها الابراهيمي نهاية سياسية للرجل الذي كان ينظر إليه على أنه شخص بعيد عن السياسة المتبعة من طرف مجموعة بوتفليقة ومن معه.
خطة المعارضة التي تتعزز يوميا
تقوم على ثلاثة أركان: 1- رفض أي تدخل خارجي والاتفاق على أن الحل يجب أن يكون جزائريا مئة بالمئة وعدم استفزاز الجيش والأمن 2- الاستفادة من أخطاء السترات الصفراء بالاتفاق على الصوت الواحد وعلى السلمية، والانفتاح على كل المشارب الجزائرية وتضييق الفجوات بين المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وقد ساعد غلق المطاعم والمبيت في الأحياء الجامعية في الجزائر ووهران أن التحق عدد من الطلبة بمناطق نائية مثل الجنوب الغربي ومنطقة مزاب التي كانت تعرف أحيانا مواجهات بين الأمازيغ والعرب، وساعدوا على كتابة لافتات حملتها المظاهرات التي خرجت في عدة مدن تقول « احنا والعرب خاوة خاوة «، كما تقوم على جمع شتات المعارضة في جبهة موحدة منفتحة على كل الطاقات الديمقراطية. وقد اتفقت على اختيار مصطفي بوشاشي الحقوقي والمحامي المعروف في أوساط الجزائريين والشباب على الخصوص بتصديه للنظام لكن وردت أخبار أنه اعتذر عن قبول المهمة والعمل على إقناعه جار . 3- التشبث بضرورة تغيير النظام وعدم خرق الدستور في إحالة على تأجيل الانتخابات وتمديد الولاية الرابعة، إلى ما بعد 28 أبريل، يوم نهاية ولاية بوتفليقة، لأنه قال في رسالته أن من «واجبه الأخير تجاه الجزائريين يتمثل في العمل على إرساء أسس جمهورية جديدة، تكون بمثابة إطار للنظام الجزائري الجديد «. ومعلوم أنه هنا يقترح فترة انتقالية تسمح له بتحقيق ذلك والفترات الانتقالية في العالم تتطلب وقتا من سنة إلى سنتين، ولا يمكن أن تتحقق جمهورية جديدة من 15 مارس إلى 27 أبريل. وكان الشباب بالمرصاد لهذا البعد الذي يسعى به رئيس الجمهورية إلى البقاء في السلطة بدون انتخابات، بأن رفعوا شعارات قوية في الجمعة الأخيرة 15 مارس تقول : « ولا دقيقة يا بوتفليقة «. ومن الملاحظ أن الجبهة السياسية الموالية تشتت ورجعت خلف المنصة بينما جبهة المعارضة السياسية تتعزز وتتوسع.
الجيش الجزائري والتوازن الصعب
ليس كل الجنرالات وقادة الجيش من الطغمة التي تستفيد من الريع، بل فقط عدد قليل منهم وقد تناقص عددهم في السنين الأخيرة بعد أن نشب صراع وسطهم أدي إلى انتصار مجموعة قايد صالح، الصديق الوفي لبوتفليقة على الآخرين، ولا يستطيع أي قائد عسكري أن يكون من الطغمة إلا إذا استطاع أن يمتد إلى السياسة ويكسب أتباعا في جبهة التحرير.. وإلى الاقتصاد ويسيطر على قطاع من القطاعات، خاصة في الاستيراد، وإلى الأمن ويكسب عيونا، وإلى الاعلام وتكون له أقلام مأجورة. مع بداية المظاهرات في 22 فبراير كانت هذه المجموعة ومعها المجموعة السياسية بقيادة أويحيى تريد تحضير الجيش للقضاء على المظاهرات بالقوة، غير أن تقديرات المجلس الأعلى للأمن الذي عقد عددا من الاجتماعات المتوالية منذ بداية تحرك الشارع كان يفضل احترام الدستور وعدم استعمال القوة ما دامت المظاهرات سلمية، والحقيقة أن أغلبية الجيش والأمن مقتنعة بعدالة مطالب الشارع، خصوصا مع تدهور القدرة الشرائية لأغلب أسر الجنود والضباط، ومع تفشي مظاهر الفساد الاقتصادي، وكان هاجس عدم ولاء كامل الجيش حاضرا لدى القيادة بقوة، ولابد من الإجابة عن سؤال: ماذا سيحصل داخل الجيش إذا ما أعطيت الأوامر باستعمال القوة لفض المظاهرات، ألن يلتحق بالشارع ؟
إلى جانب هذا المعطى هناك أصلا خلاف بين الرئاسة من جهة والجيش والأمن من جهة أخرى، لأن الرئاسة تُسير أساسا من طرف عائلة بوتفليقة وبعض السياسيين وقادة الاستخبارات الذين لهم خلفية عسكرية وسياسية. هذان العاملان: تعاطف كبير داخل الجيش مع الشارع، ووجود خلاف مع الرآسة يجعلان من الجيش قوة تفرض توازنا غير مرغوب فيه لا لدى الرآسة ولا لدى قيادة الجيش المشكلة لطغمة حاكمة، ولكنه مرحب به وسط الشارع، إنه توازن صعب وقد لا يحل إلا بهزة من داخله.