التوظيف عبر التعاقد.. منطق مقاولاتي بئيس

◆ حسن إدحم

لا‭ ‬نريد‭ ‬لعب‭ ‬دور‭ ‬الاستراتيجيين‭ ‬والمنظرين‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التعليم،‭ ‬الذين‭ ‬يرددون‭ ‬باستمرار‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬التعليم‭ ‬والتربية‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية،‭ ‬وحاسم‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعوب‭ ‬إذ‭ ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬اللغو‭ ‬ترديد‭ ‬وتكرار‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬والشعارات‭ ‬الرنانة،‭ ‬فالأمر‭ ‬معروف‭ ‬وبين‭ ‬بذاته‭ ‬لا‭ ‬ينكره‭ ‬سوى‭ ‬جاحد‭ ‬أو‭ ‬مختل‭.‬

الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفعنا‭ ‬لكتابة‭ ‬هذه‭ ‬الأسطرهو‭ ‬التذكير‭ ‬بمسألة‭ ‬بسيطة‭ ‬لا‭ ‬تعقيد‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬غموض‭ ‬يلفها،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬قطاع‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬بمنطق‭ ‬المقاولة‭ ‬وحسابات‭ ‬الربح‭ ‬والخسارة‭ ‬المادي،‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬مستقيم،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬لنا‭ ‬غير‭ ‬جيش‭ ‬من‭ ‬التقنويين‭ ‬ضيقي‭ ‬الأفق‭ ‬ومحدودي‭ ‬التفكير‭. ‬فرض‭ ‬التعاقد‭ ‬على‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬قصد‭ ‬القيام‭ ‬بمهمة‭ ‬التربية‭ ‬وتنوير‭ ‬عقول‭ ‬الشباب‭ ‬والأطفال،‭ ‬قرار‭ ‬يكرس‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬منطق‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحش،‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مفتوحا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬السوق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تبقي‭ ‬أمواجه‭ ‬ولا‭ ‬تدر‭.‬

قد‭ ‬يعترض‭ ‬علينا‭ ‬البعض‭ ‬بالقول،‭ ‬إن‭ ‬التعاقد‭ ‬لم‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬أحد،‭ ‬وأن‭ ‬المعنيين‭ ‬وقعوا‭ ‬بكامل‭ ‬إرادتهم‭ ‬دون‭ ‬إكراه،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنهم‭ ‬اطلعوا‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬البنود‭ ‬التي‭ ‬يتظاهرون‭ ‬ضدها‭ ‬اليوم‭. ‬قول‭ ‬كهذا‭ ‬ينسى‭ ‬أو‭ ‬يتناسى‭ ‬الشرط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المغربي،‭ ‬ويُنَظر‭ ‬كأن‭ ‬أمام‭ ‬الشباب‭ ‬اختيارات‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬عند‭ ‬تخرجهم‭ ‬من‭ ‬الجامعة،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬الشباب‭ ‬المتخرج‭ ‬هو‭ ‬مدفوع‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬للتوقيع‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬البنود‭ ‬المجهولة‭ ‬¬‭(‬التي‭ ‬أتقن‭ ‬خبراء‭ ‬السوق‭ ‬صياغتها‭) ‬مادام‭ ‬هذا‭ ‬الشباب‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬اختيارات‭ ‬أخرى‭ ‬أمامه‭.‬هذا‭ ‬إذن‭ ‬طرح‭ ‬غير‭ ‬واقعي،‭ ‬ويجتهد‭ ‬لكي‭ ‬يحصر‭ ‬القضية‭ ‬على‭ ‬كبرها‭ ‬وأهميتها‭ ‬البالغة‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬قانونية‭ ‬ضيقة‭ ‬جدا،‭ ‬متناسيا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬يضعه‭ ‬المجتمع‭ ‬ويغيره‭ ‬كلما‭ ‬اقتضى‭ ‬الحال‭ ‬ذلك،‭ ‬خصوصا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬يهدد‭ ‬سلامة‭ ‬وأمن‭ ‬المجتمع‭ ‬برمته،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التضحية‭ ‬بأشياء‭ ‬ثمينة‭ ‬كهذه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صون‭ ‬قانون‭ ‬مجحف‭. ‬القلة‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬اجتهدت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬البنود‭ ‬لا‭ ‬يتقنون‭ ‬غير‭ ‬العمليات‭ ‬الحسابية،‭ ‬وبهذا‭ ‬جعلوا‭ ‬مصير‭ ‬أمة‭ ‬بكاملها‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬رياضية‭.‬

التعاقد‭ ‬شرط‭ ‬فرضه‭ ‬السياق‭ ‬الدولي‭ ‬الكوني،‭ ‬وبذلك‭ ‬فهو‭ ‬شيء‭ ‬حتمي‭ ‬يتجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬الوطنية‭ ‬الضيقة،‭ ‬لا‭ ‬يد‭ ‬للدولة‭ ‬فيه،‭ ‬دول‭ ‬عظمى‭ ‬تفوقنا‭ ‬تطورا‭ ‬بكثير‭ ‬اعتمدته‭. ‬هذه‭ ‬حجة‭ ‬الذين‭ ‬يعتبرون‭ ‬أنفسهم‭ ‬استراتيجيي‭ ‬الوطن‭. ‬المقارنة‭ ‬هاته‭ ‬لا‭ ‬تستوفي‭ ‬أدنى‭ ‬شروط‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬تفترض‭ ‬حينما‭ ‬نود‭ ‬عقد‭ ‬مقارنة‭ ‬بسيطة‭. ‬المغرب‭ ‬لم‭ ‬يعرف‭ ‬المدرسة‭ ‬بشكلها‭ ‬الحديث‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وعندما‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬تم‭ ‬رفع‭ ‬الشعار‭ ‬الشهير،‭ ‬التعريب،‭ ‬المجانية،‭ ‬التعميم‭. ‬شعار‭ ‬رنان‭ ‬بدأت‭ ‬بوادر‭ ‬التراجع‭ ‬عنه‭ ‬مع‭ ‬التقويم‭ ‬الهيكلي‭ ‬منتصف‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬هكذا‭ ‬استقبل‭ ‬المغرب‭ ‬المدرسة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ولكن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬نقارن‭ ‬معها‭ ‬أنفسنا‭ ‬انبثقت‭ ‬المدرسة‭ ‬الحديثة‭ ‬من‭ ‬عمق‭ ‬مجتمعها،‭ ‬وتطورت‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬في‭ ‬حضنها‭ ‬قرون،‭ ‬حققت‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الاشباع‭ ‬المعرفي‭ ‬والتعليمي‭. ‬مسألة‭ ‬تعميم‭ ‬التمدرس‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تطرح‭ ‬هناك‭ ‬منذ‭ ‬أمد‭ ‬بعيد،‭ ‬لذلك‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدأ‭ ‬الحديث‭ ‬عندهم‭ ‬عن‭ ‬‮«‬التعاقد‮»‬‭ ‬فهو‭ ‬نتيجة‭ ‬لصيرورة‭ ‬تاريخية‭ ‬طبيعية‭. ‬الأمر‭ ‬عندنا‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬أحد،‭ ‬مختلف‭ ‬تماما،‭ ‬فما‭ ‬تزال‭ ‬أمور‭ ‬من‭ ‬قبيل،‭ ‬تعميم‭ ‬التمدرس‭ ‬وحتى‭ ‬لغة‭ ‬التدريس‭ ‬تطرح‭ ‬دون‭ ‬الحسم‭ ‬فيها‭. ‬أشياء‭ ‬بسيطة‭ ‬كهذه‭ ‬هي‭ ‬المشاكل‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬نظامنا‭ ‬التعليمي،‭ ‬ونود‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬متاهة‭ ‬‮«‬التعاقد‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأفيد‭ ‬للجميع‭ ‬لو‭ ‬تعاقدنا‭ ‬جميعا‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬متينة‭ ‬لدمقرطة‭ ‬التعليم،‭ ‬وتصحيح‭ ‬مسار‭ ‬المدرسة‭ ‬المغربية‭ ‬التي‭ ‬أتعبتها‭ ‬القرارات‭ ‬الأحادية‭.‬

حينما‭ ‬نبين‭ ‬تهافت‭ ‬هذه‭ ‬الحجج‭ ‬التي‭ ‬تلوكها‭ ‬الألسن‭ ‬دون‭ ‬فهم‭ ‬وتمحيص،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نستخف‭ ‬بعقول‭ ‬خبراء‭ ‬الأرقام‭ ‬واستراتيجيي‭ ‬السوق،‭ ‬وإنما‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التذكير‭ ‬بأن‭ ‬المدرسة‭ ‬ليست‭ ‬مقاولة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬كذلك،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬فهي‭ ‬بذلك‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬رسالتها‭ ‬وأهدافها‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬تسمو‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭. ‬

ربما‭ ‬ليس‭ ‬المجال‭ ‬هنا‭ ‬لهذا‭ ‬القول،‭ ‬ولكن‭ ‬الرياضيات‭ ‬وحدها‭ – ‬بالمعنى‭ ‬الضيق‭ ‬للأرقام‭ ‬والمعادلات‭ – ‬لم‭ ‬تحل‭ ‬أي‭ ‬مشكل‭ ‬إنساني‭. ‬الإنسان‭ ‬أعقد‭ ‬من‭ ‬تقزيمه‭ ‬في‭ ‬أرقام،‭ ‬فهو‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬الإنسان‭ ‬روح‭ ‬وإحساس‭ ‬ورغبات‭ ‬وأحلام‭ ‬و‭ ‬طموحات‭…‬إنه‭ ‬هذا‭ ‬الكل‭ ‬المركب‭. ‬حينما‭ ‬يدخل‭ ‬أستاذ‭ ‬قاعة‭ ‬الدرس‭ ‬ومستقبله‭ ‬مجهول،‭ ‬فماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننتظر‭ ‬منه؟‭ ‬ألا‭ ‬يفكر‭ ‬هذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬في‭ ‬مستقبله،‭ ‬و‭ ‬مصيره‭ ‬وطموحاته؟‭ ‬أليس‭ ‬لهذا‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحلام؟‭…‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى