الخطاب الإسلاموي اليوم خطابٌ اقصائِي
رشيد العلوي
يُلام المشتغلون بالفكر الفلسفي في ثقافتِنا بكونهم لا يستطيعون إنتاج مفاهيم أو نظريَّات خاصة بهم والتفكير في واقعهم بآليَّات وأدوات قادِرة على حلِّ معضلاتِنا الكبرى، ويتم التشهير ببعض الرموز ليُعاب عليها أنها لم تفعل غير تبيئة الفكر الغربي في تربتنا، وقد كُتِب الكثير حول خفوت الإبداع في فكرنا واقترح البعض ضرورة الالتصاق بأوضاعِنا للخروج من الركود والجمود الفكري، وفي المقابل اعتكف الكثير حول ما أنتج في الماضي من موقع التمجيد وأعليَّ من شأو ابن خلدون وابن سينا وابن رشد وغيرهم، إلى درجة أن صار الاشتغال والاهتمام بالتراث سلفيَّة فِكريَّة ما بعدها سلفيَّة.
تمحور فكر ابن رشد حول تصحيح فلسفة المعلم الأول وكان له الفضل في نقل التراث اليوناني إلى الغرب اللاَّتيني ودشَّن تفكيراً عقلانيّاً غير مسبوق، غير أنه في الآن ذاته نظر في أوضاع عصره واقترح مخارج لا بد منها لتجاوز الاضطراب السيَّاسي الذي عاصره، وهاجم العقول المتحجرة بالأفكار. لذا نرى أن ابن رشد كرجل حكمة:
- تجنَّد لخدمة الفكر والمدينة معاً، وتكبَّد في سبيل ذلك خسائر شتى وعانى من ويلات الحرب الهوجاء التي تجنَّد لها العامة باسم الدِّين والشريعة الحقة والفرقة الناجيَّة؛
- فضح مرتزقة زمانه من تجار الدَّين الذين استغلوا الشَّرع لخدمة أغراض محض سيَّاسيَّة كما فضح أعداء الفلسفة من الداخل ولو أنهم كانوا أقليَّة بالمقارنة مع المرتزقة من الجانب الآخر؛
- كشف عن الأدلة الواهيَّة ضد الفلسفة والتي وقفت في وجه التفلسف وقارعها بأدلة مناسبة متبعاً في ذلك حججاً مقنعة لبيان تهافت قولهم؛
- وضع النص الفلسفي في ضوء المعيش بحيث لا تغيب عنه وقائع يومه وهو الذي خبرها بحكم اشتغاله كقاضي يقاضي في مشاكل النَّاس اليوميَّة، بل والنظر في حال مدينته على وجه مخالف لما جاء به أفلاطون من قول في المدينة الفاضلة، بل وتعداه إلى طرح إمكانيَّة قيام هذه المدينة في الأندلس مع تعديله لمجموعة من المقترحات التي لا تساير وضع مدينته الأندلسيَّة؛
- فصل بين ما لله وما لقيصر وهو العالم بشؤون الشرع والمجتهد في اعتقاد النَّاس به، بحيث أعمل القول في الفِقه المتوارث إلى حدود عصره وأبان من خلاله عن عبقريَّة فذَّة في التعاطي مع شؤون النَّاس بالجِديَّة اللاَّزمة، وكثيراً ما يُلام على صرامته وتعصبه للمنهج البرهاني بحيث يوصف باستبدادِه في الرأي.
- هاجم تهافت قول الفقهاء وافتراءاتهم على العقل البرهاني والقول الفلسفي واتجه صوب رفع قلق العبارة وتصحيح الاعوجاج الذي لحقها منذ زمان، وصنف تأويل التهافت في الدرجة الرابعة مُعقداً مقارنة بين درجة هذا التأويل بالصنف الرابع من الوصفة الطبيَّة الأصل: فكل وصفة تأتي في المرتبة بعد الوصفة الأصل إنما ستلحق الضرر ببعض النَّاس، أما الصفة الرابعة فبالتأكيد ستكون شرَّ البِلية، وهو حال التأويل الرابع فمع كل درجة في التأويل يزداد خطره على النَّاس والعِباد، لهذا اعتبر تأويل الغزالي كتأويل من الدرجة الرابعة مجرد تهافت تهافت لا نظير له؛
- سنَّ تفسيراً عقلانيّاً على خطى الأقدمين، وهو التقليد الذي تكرس إلى اليوم في التعامل مع النصوص؛
- خاض معارك عصره اتجاه السلطتين الدينيَّة والسيَّاسيَّة لتكشف ويفضح ويفصل ليجتهد في قوله وفق ما اقتنع به.
نخلص ممَّا سبق إلى أن معركتنا لا تزال شبيهة بمعركته وأن من مهامنا:
- فضح الخطاب الدِّيني المتزمت رغم أنه ليس في مقام تأويل الأولين واجتهاداتهم ولا في مقام التأويل الرابع رغم عيوبِه الجمَّة، بل هو انبعاث لسنة أوليائهم وسلفهم الصالح فيما يشبه تقليداً أعمى، لأن الخطاب الاسلاموي اليوم هو خطابٌ اقصائِي: يقصي من التأويل والتراث ما قد يقض مضجعهم ويضجر آذانهم لصالح تأويل أحادي منغلق ومتزمت.
- بيان فساد السيَّاسة وأسلوب الحكم التسلُّطِي الذي فرض علينا فرضاً، لأن التسلُّط لا ينتج الفكر ولا يسمح للعقول بالتفتق أو الاجتهاد.
- خوض معارك الفكر اتجاه مُتهافِتي زمانِنا ومعارك السيَّاسة ضد “وحدانيَّة التسلط”.
- إزاحة القداسة عن النص الدِّيني والتعامل معه كنص محكوم بسيَّاقِه التاريخي والثقافي، وتشجيع التأويليَّات كمنهج ومبحث وفق ما استجد في الهيرمينوطيقا مع العلم أن لمحمد أركون مساهمةً جادَّةً في هذا الباب، تنضاف إلى مُساهمة المستشرقين الذين خصص لهم أركون حيِّزاً هامّاً في مراجعة أحكامِهم ودراساتِهم حول القرآن، ناهيك عن التوجه القرآني الذي يقتصر على نص الوحي باعتباره أساس التشريع الإسلامي ويستبعد كل نصوص السنة وأحاديثها وتأويلاتها.
- الحسم في المعجم التاريخي وإخراجه كامِلاً إلى حيِّز الوجود لرفع القداسة عن لغة القرآن لتواكب العصر وتساير العلوم المستجدة في مختلف الميادين.
قد يقول قائل إن ابن رشد قد سقط هو أيضا في تعلَّة التبيئة، غير أن الرجل قد أوفى للنَّص الفلسفي وللتفكير العقلاني والبرهاني حقه في الوجود، ومنحه شرعيَّةً لم تكن له فيما قبل. وبناء عليه فإن الفكر هو فكرٌ كونيٌّ يهم البشريَّة جمعاء ومن طبيعته أنه ترحالِّيٌ يحتفي بمن يستوطنه في أرضه ويُقيمُ له الاعتبار المُناسب له، فالتفاعل بين أفكار البشر الكونيَّة ضرورة ما بعدها ضرورة.