عين على الساحة: أسلوب المناظـرات و”صار بالبـال”

◆ زياد السادري

استعمال‭ ‬أسلوب‭ ‬المناظرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وفي‭ ‬المغرب،‭ ‬ليس‭ ‬جديدا،‭ ‬سواء‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬الأسلوب‭ ‬للجدال‭ ‬والنقاش،‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭ ‬اليونانية‭ ‬وقبلها‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬والذي‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة‭ ‬وأعطى‭ ‬الآن‭ ‬نموذجا‭ ‬حيوياً‭ ‬للمناظرات‭ ‬الرئاسية‭ ‬أثناء‭ ‬الانتخابات؛‭ ‬أو‭ ‬لما‭ ‬دخل‭ ‬الأسلوب‭ ‬السياسة،‭ ‬ورغب‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬التناقضات‭ ‬المستعصية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬أن‭ ‬يستعمله‭ ‬لصالحه؛‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكننا‭ ‬ضبط‭ ‬شكلين‭ ‬اثنين‭ ‬أساسيين‭ ‬للمناظرة،‭ ‬مع‭ ‬تسجيل‭ ‬وجود‭ ‬اختلافات‭ ‬في‭ ‬التسمية‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬يسود‭ ‬فيها‭ ‬اسم‭ ‬آخر‭ ‬مثل‭ ‬الندوة‭ ‬الوطنية،‭ ‬أو‭ ‬اللجنة‭ ‬الوطنية‭.. ‬لكن‭ ‬المضمون‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يؤديه‭ ‬الأسلوب‭ ‬التناظري‭ ‬الآن،‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنجز‭ ‬فيها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الحقيقية،‭ ‬هو‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭.‬

لقد‭ ‬تجاوزت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬الشكلي،‭ ‬كل‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬والإفريقية‭ ‬في‭ ‬استعمال‭ ‬أسلوب‭ ‬المناظرة،‭ ‬والذي‭ ‬تلقفته‭ ‬من‭ ‬مصدرين‭ ‬أساسين‭: ‬الأول‭ ‬من‭ ‬قوى‭ ‬الحركة‭ ‬التقدمية‭ ‬والوطنية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تفضل‭ ‬تسمية‭ ‬الندوة‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الاستثناءات،‭ ‬وخاصة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الوطني‭ ‬لطلبة‭ ‬المغرب،‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الديني‭ ‬وصراعاته‭ ‬المذهبية‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬مناظرات‭ ‬فقهاء‭ ‬الأندلس‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬مع‭ ‬الباجي،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الجدال‭ ‬والنقاش‭ ‬وبين‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬الديني،‭ ‬وخاصة‭ ‬بين‭ ‬الأمويين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬يناصرهم‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬وبين‭ ‬خصومهم‭ ‬السياسيين‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬من‭ ‬يؤيد‭ ‬المالكية‭ ‬آنذاك‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬اختلف‭ ‬شكل‭ ‬المناظرة‭ ‬قبل‭ ‬التسعينات‭ ‬عما‭ ‬بعدها،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬المشاورات‭ ‬تجري‭ ‬بين‭ ‬القصر‭ ‬والحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬والتقدمية‭ ‬حول‭ ‬نقاط‭ ‬الخلاف،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬لما‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬حلول‭ ‬مرضية‭ ‬للجميع‭.‬

الآن‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬ظاهرة‭ ‬غريبة‭ ‬وهي‭ ‬ان‭ ‬كل‭ ‬خدام‭ ‬الدولة‭ ‬رأوا‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬المناظرة‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬خاصا‭ ‬بالدولة‭ ‬دون‭ ‬الخدام،‭ ‬مهربا‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع‭ ‬الملموس‭ ‬وحل‭ ‬مشاكله،‭ ‬مناظرات‭ ‬في‭ ‬الجباية‭ ‬مؤخرا،‭ ‬مناظرات‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬سابقا،‭ ‬مناظرات‭ ‬في‭ ‬الفلاحة‭ ‬وفي‭ ‬الصناعة‭ ‬وفي‭ ‬كرة‭ ‬القدم،‭ ‬أما‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬الجالية‭ ‬فقد‭ ‬فاق‭ ‬كل‭ ‬أقرانه،‭ ‬فمن‭ ‬شكل‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬المهاترات،‭ ‬ووصلت‭ ‬حمى‭ ‬المناظرات‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬والزمن‭ ‬المقبل‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬إلا‭ ‬الكلام‭ ‬والنقاش‭ ‬ثم‭ ‬النقاش‭ ‬لأن‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬أجوبة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬المطروحة‭.‬

ماذا‭ ‬كان‭ ‬يشكل‭ ‬أسلوب‭ ‬المناظرة‭ ‬إذن‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬المعارضة‭ ‬التقدمية؟‭ ‬وماذا‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الدولة‭ ‬؟‭ ‬وماذا‭ ‬أصبح‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬خدام‭ ‬الدولة‭ ‬ومحيطهم‭ ‬؟‭ ‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬المعارضة‭ ‬التقدمية‭ ‬واليسار‭ ‬اليوم‭ ‬يلجؤون‭ ‬إليه‭ ‬لهدفين‭ ‬مهمين،‭ ‬الأول‭ ‬إلقاء‭ ‬أضواء‭ ‬على‭ ‬الموضوع،‭ ‬وتقريب‭ ‬وجهات‭ ‬النظر،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬موحدة‭ ‬مكثفة،‭ ‬والثاني‭ ‬توحيد‭ ‬التناقضات‭ ‬وسط‭ ‬الحركة‭ ‬التقدمية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التناقض‭ ‬الرئيسي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الموضوع‭. ‬أما‭ ‬الدولة‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تهدف،‭ ‬مستعينة‭ ‬بالتراث‭ ‬السياسي‭/‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬حجب‭ ‬دور‭ ‬الحاكم،‭ ‬أن‭ ‬توحي‭ ‬أن‭ ‬الخلاف‭ ‬هو‭ ‬بين‭ ‬قوى‭ ‬المجتمع‭ ‬وهي‭ ‬حَكَمُ‭ ‬ومستعدة‭ ‬لأن‭ ‬تنفذ‭ ‬خلاصات‭ ‬المناظرة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬الاتفاق،‭ ‬ولم‭ ‬تخرج‭ ‬المناظرة‭ ‬بحلول‭ ‬متناقصة،‭ ‬وهذا‭ ‬يسمح‭ ‬للدولة‭ ‬أن‭ ‬تتصرف‭ ‬لأن‭ ‬الخلاصات‭ ‬بالضرورة‭ ‬هي‭ ‬دائما‭ ‬متناقضة‭. ‬أما‭ ‬الخدام‭ ‬فإن‭ ‬هدفهم‭ ‬الأساسي‭ ‬أمام‭ ‬غلق‭ ‬كل‭ ‬الطرق‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬ومن‭ ‬طرف‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬خياراتها‭ ‬الأساسية‭ ‬هو‭ ‬تلقف‭ ‬الأسلوب‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإلهاء‭ ‬والظهور‭ ‬بمظهر‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول،‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يخلقه‭ ‬الأسلوب‭ ‬من‭ ‬بهرجة‭. ‬وغرق‭ ‬خدام‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬ومثله‭ ‬تقمص‭ ‬حتى‭ ‬أسلوب‭ ‬الإحسان‭ ‬والقفة‭ ‬الرمضانية،‭ ‬يبين‭ ‬بؤس‭ ‬البرجوازية‭ ‬المغربية‭ ‬ومستوى‭ ‬الأطر‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تتوفر‭ ‬عليها‭ !‬

الملاحظ‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقود‭ ‬المناظرات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أمر‭ ‬سياسي،‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬ما،‭ ‬أصبحت‭ ‬تفضل‭ ‬شكلا‭ ‬جديدا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬ممارستها‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬توظف‭ ‬رموزا‭ ‬تراثية‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬20‭ ‬فبراير،‭ ‬مثل‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬الآن‭ ‬تنفيذه‭ ‬بحماس‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬حول‭ “‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬الجديد‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬تتوصل‭ ‬الدولة‭ ‬بالآراء‭ ‬المختلفة‭ ‬مكتوبة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأطراف‭: ‬سياسية،‭ ‬اقتصادية‭  ‬نقابية،‭ ‬جمعوية،‭ ‬دينية‭ …‬والدولة‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تضعها‭ ‬في‭ ‬الرف‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬تفضل‭ ‬رأياً‭ ‬على‭ ‬رأيٍ،‭ ‬أو‭ ‬تخرج‭ ‬بشيء‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬أسلوب‭ “‬صار‭ ‬بالبال‭” ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬كان‭ ‬السلاطين‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬يؤشرون‭ ‬بها‭ ‬المراسلات‭ ‬التي‭ ‬يتوصلون‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويتم‭ ‬نقل‭ ‬نفس‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬إلى‭ ‬صاحب‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬المراسلة‭ ‬برسالة‭ ‬جوابية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬موضوع‭ ‬مراسلتكم‭ ” ‬صار‭ ‬بالبال‭”. ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى