صمت الكتابة
◆ أحمد بوزفور
حين يقرأ الإنسان وحده، وبالعين لا بالأذن، تتعاقب الصور وتتحرك الحياة… لكن في صمت. الكتابة تشبه ( الصرخة ) في لوحة إدوارد مونك: في مقدمة اللوحة خطَّا سكة حديد، وفي خلفيتها سماء حمراء.. وبينهما شخصٌ مفتوحُ الفم في صرخة صامتة، نسمعها بالعين، ونتخيل ذلك الصوت الصامت حتى ليكاد يُصِمُّ عيونَنا.
الصمت في الكتابة كلام. لكنه كلام بَيْنيّ. يكمن بين الكلمات: فرخ أزغب يحتاج إلى عش ينمو فيه. ولا يطير ما لم يُثره قارئ. يحتاج إلى كلمات قبله وبعده ليقول. وكما أن المجاز علاقة، لأنه لا يوجد في الكلمات بل في التركيب، فالصمت كذلك علاقة. الصمت مجاز. ويحتاج إلى تأويل لا إلى تفسير، إلى عقل لا إلى قاموس. الصمت كائن ينطلق من داخل الإنسان، وإلى داخله يتجه.
الصامت الأبرز في الكتابة هو المكان. والمكان الفردوس فيها هو الصورة الشعرية. ليس لدى الكاتب أفكار ولا كلمات. لديه صور. وبتحريك الصور، وكما يفعل السينمائي، يخلق الحكايات. يقول أبو تمام:
تَرَيَا نهارا مُشمساً قد زانَهُ
زهرُ الرُّبَى، فكأنما هو مُقْمِرُ
جمعت الصورةُ بين الضوء القويِّ للشمس وبين النَّوَّار اللطيف في الحقل، فأصبحت الشمسُ قمراً. وكل ذلك في صمت.
يقول شاعر نيوزيلندي:
( تصافحُ قَدَمَها/ الطفلةُ الوليدة)
بمجرد حركة أصابع لوليدة وهي تمس قدمَها الصغيرة يخلق الشاعر فرحاً بالوجود. فرح صامت عذب.
هكذا يشتغل الصمتُ في الكتابة: يلعب بالمكان.
الصامت الأخْفَى في الكتابة هو الزمن. الزمن عنصر حيوي في العمل الأدبي، وهو الذي يُحدثُ (التحول): أساسَ التراجيديا في شعرية أرسطو. وهو ضروري لقيام أي نص سردي.
يقول شاعر جاهلي عن الشمس:
تجري على كبد السماء كما
يجري حِمامُ الموت في النَّفْسِ
وجري الموت في النفس هو الزمن: جري صامت لا يُحس به حتى الذي يجري فيه.
يقول شاعر أمريكي:
( هذه البِرْكَةُ الصغيرة
هي البُحيرةُ التي كنتُ أسبح فيها وأنا صغير )
ما الذي حوَّل البُحيرةَ إلى بِرْكة؟ الزمن. حولها دون أن يمسها. حوَّل المنظورَ فقط، من منظور صبي إلى منظور رجل.
هكذا يشتغل الصمت في الكتابة: يلعب بالزمان.
صمت الكتابة متَّسق منسجم متوازن. تتجاوب لحظاتُه وأشكالُه وتجلياته، وتتكامل كمعزوفة، وعلينا، لكي نحس بهذه المعزوفة، أن نُغلق آذاننا عن كل أصوات العالم.
يكتب شاعر عن ( عصفور يغني امام شلَّال ). الكتابة هي هذا العصفور. لا يسمعه أحد من هدير الشلال، لكنه يغني. ونغمتُه هي التي ترسُبُ في أعماقنا بعد أن ينزلق على آذاننا شلالُ أصوات العالم. وهي التي تذوب كالسُّكَّرة في كأس حياتنا، وتلعب بأذواقنا، فتصبح كلُّ الطُّعوم فيها عسلا.
هكذا يشتغل الصمتُ في الكتابة: يلعب بالإنسان.
لكنَّ هناك صمتاً سريا مجهولا أخفى من كل أنواع الصمت في الكتابة، وفي الكتابة العليا خاصة. في قلب كل عمل أدبي عظيم بئرٌ عميقةُ الغَوْر لا يصل أحدٌ إلى قرارها… كالنُّسْغ، كلما امتد في أعماق الأرض إلى الجذور، كلما اصَّاعَدَ حياةً ونَوْراً إلى ذُؤابات الأغصان. بئر تنبع منها التأويلات المختلفةُ المتعاقبةُ مع كل قراءة جديدة. مجهول صامت نحسه ولا نَتبيَّنُه.
ويُعَلِّمُنا التَّمْرُ المغربي، في هذا الشهر الكريم، أن (المجهول) هو الأحْلَى.