الأصوليتان الرأسماليَّة والدينيَّة: صراع أم زواج؟
يتعلق الأمر هنا بمفهوم صراع الأصوليات” كما وظّفه المفكر الأبرز طارق علي في إشارة إلى التناقض الرئيسي الذي واجه الإمبرياليّات في عالم اليوم، فأمام حدّة الصراع الإمبريالي اتجاه اقتسام ثروات العالم انتبه طارق علي إلى أن جيوشاً مقهورة في العالم الثالث سيتم شحنُها وتجيّشُها يوماً ما للرّد على مفارقة الوجود اليومي لملايين الناس، ذلك أن اتساع هوة الاستِبعاد الاجتماعي إلى أقصى الحدود لا يمكن أن يستسِيغهُ أحد، معتبراً أن الصراع اليوم قد تحول من صراع بين المعسكرين: الشرقي والغربي، إلى صراع بين المعسكر الواحد وأبنائه. لقد خلقت أمريكا تنظيم القاعدة لمواجهة زحف الاتحاد السوفياتي على آسيا الصغرى وأوروبا الشّرقية، وسرعان ما تحولت القاعدة بعد بداية انهيار المعسكر الشّرقي إلى قوة مجابهة لمصالح أمريكا. وهو ما قاد المفكر الباكستاني إلى تبني أطروحة صراع الأصوليات ويقصد: أصوليّة الرأسماليّة وأصوليّة الحركات الإسلاميّة، وتعزز تبني هذا المفهوم بعد أحداث 11 شتنبر 2001، حيث ظهر ما يؤشر على صحة الأطروحة التي وجدت لها صدى في تحليلات جلبير الأشقر ونعوم تشومسكي.
نعتقد أن الأمر لا يتعلق بصراع الأصوليّات بل بزواج الأصوليّات، لأن طبيعة الحركات الأصوليّة في العالم الإسلامي لا تناقض البتة طبيعة الرأسماليّة، وأكثر من ذلك فالأصوليّة الإسلاميّة تماهت مع “اقتصاد الريع: أو رأسمالية المحاسيب” « capitalisme de connivence » . وتألفت مع الاستبداد السيّاسي خدمة لأهدافها ، ومن الصعوبة ضبط شبكة التعقيدات والتداخلات بين رأسماليي السلفيّة في الوطن العربي ورأسماليي الجيش والطغمة الحاكمة. لكننا في المقآبل نسمع عن تورط بعض الأنظمة السيّاسيّة في تمويل بعض الحركات المتطرفة: فهل وراء هذا التمويل شيء آخر غير زواج المصالح؟ لا يتعلق الامر بأنظمة سيّاسيّة ديمقراطيّة، وإنما بأنظمة استبداديّة محافظة وأصوليّة بطبيعتها وترعى حركات تسيِّيس الدّين للحفاظ على مصالحها.
تستعمل معظم الدُّولِ العربيَّة الدِّين كعقيدةٍ رسميَّةٍ للمجتمع والدولة معاَ، رغم وجود أقليَّات دِينيَّة أخرى، لا تُشكِلُ في الحقيقة أغلبيَّة هاته المجتمعات ولكنها تتعايشُ مع المسلمين كمكتسبٍ تاريخي. وتأخذ في الوقت نفسه من الديمقراطية الجانب المؤسسي فقط المرتبط بالاقتراع العام (الصناديق الانتخابية) دون الجوانب الأخرى التي تؤسس لأي نظام ديمقراطي.
إذا كان الدِّين الإسلامي الدِّين الرَّسمي للدُّول العَربيَّة فهذا لا يعني التماثُل المُطلق بين طبيعة العلاقات القائمة بين السُّلطة السيَّاسيَّة والمجتمع أو الجماعات الدِّينيَّة. بحيث تم دمج الدِّين في الحياة السيَّاسيَّة كشرطِ ضروري ولا غنى عنه، وهو أمر يعود إلى التاريخ السياسي لهذه المجتمعات لتظهر الأنظمة السياسية مُحايدة في مُختلف القَضايا التي يُمكِن أن تُثير مُعارَضة دينيَّة مُحتَملَة. إلاَّ أنه على الرغم من هذا الإقرار الدُّستوري للدِّين الإسلامي كعقيدةٍ رسميَّةٍ، فإن سيرورة التحديث المفروضة من الخارج والمَدعومة من طرف أقليَّة محدودةٍ جداً في هذه المجتمعات، أدَّت إلى عَلمَنَة بعض القطاعات أو السيَّاسات من خلال الاعتِراف بالحريَّة النِسبيَّة في مجال الحقوق والأجوال الشَّخصيَّة لتدبير المجال الفردي أو الفضاء الخصوصي.
ليست بعد هذه المجتمعات في مستوى حسم الخيَّارات الاستراتيجيَّة بخصوص السُّلطة الدِّينيَّة، لأن السُّلطة السيَّاسيَّة فيها تُوظِّفُ الحقل الدِّيني وتتحَكَّم فيه بشكلٍ مُطلق خِدمةٍ لأهدافِها وأغراضِها السيَّاسيَّة، بل أكثر من ذلك فإن السُّلطة السيَّاسيَّة تنحازُ لتيارٍ ديني إيديولوجي مُعين اتجاه تيَّارات دينيَّة أخرى، حيث نجِد دولاً شيعيَّة وأخرى سُنيَّة، فوضع الأقليَّات الدِّينيَّة في بعضِ الدُّول مأزومٌ ويَجري تَعرضُها الدَائم والمُستمر للاضطِهاد والإقصَاء، فكيف لنا أن نُناقِش مَبادئ العَدَالة السيَّاسيَّة ونحن في مجتمع غير ديمقراطي؟ هل يَكمُنُ المُشكِل في الدِّيمقراطيَّة؟ ليست الديمقراطيَّة مجرد قواعد ومبادئ نظريَّة جاهِزة، وليست مجرد اختيار، بل هي ممارسة فعلية. هل يمكن اعتبار دولةٍ من هذه الدُّول مُحَايدَةً اتجاه الدِّين؟ كيف تتدخلُ السُّلط السيَّاسيَّة في تدبِير الشَّأن الدِّيني؟ هل هناك حَدٌ فَاصِلٌ بين السُّلط السيَّاسيَّة والدِّين؟
ليست الدّول العربيَّة بعد في مستوى الدّول الوطنيَّة التي تتمتع باستِقلاليَّةٍ في التسيِّير والتَدبِير؛ بحيث أن التبعيَّة للغرب لا تَزالُ قائِمةً في أشَكالِها الفَاقِعة، فبِمبرر دَعم التنميَّة والدَّفع بهذه البُلدان نحو التَّقدم والنمو يتم فَرضُ تبعيَّةٍ سيَّاسيَّة بآليَّة المديونيَّة التي تُدِيم نفس العلاقات الاجتماعيَّة وتُحافِظ على إعادة إنتاج نفس العلاقات. هل يتم الاعتراف بالحق في الاختلاف الدِّيني وفي الاعتقاد الحر؟ هل يُمكِن لمُواطِنٍ أن يكون غير مُسلمٍ؟ هذا هو موضوع الحلقة القادمة.