اليسار كحالة ثقافية في العالم العربي
◆ محمد امباركي
لما وصف سمير أمين الحراك الديمقراطي الذي انطلق في العالم العربي منذ مطلع 2011 بأنه ” أكثر من حركة و أقل من ثورة ” كان واضحا أنه يقصد أن حلقات التغيير الديمقراطي في المنطقة لم تكتمل بعد وتظل مسارات مفتوحة تتجاذبها قوى الثورة و الثورة المضادة في الداخل والخارج، والمخاض مستمر في الجزائر والسودان…وهذه الحقيقة طرحت سؤالا عريضا و مؤرقا على كل قوى اليسار والتحرر: إلى أي درجة يتحمل اليسار المسؤولية التاريخية في دوام الحال على ما هو عليه، أي استمرارية كل مسوغات التحول الديمقراطي المعاق على المستوى السياسي؟ لماذا تصدح حناجر الحراك الجماهيري بشعارات يسارية بامتياز من قبيل “الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ” في مواجهة أنظمة تسلطية تستمد قوتها وشرعيتها من الاستبداد السياسي والاقتصادي والقمع الإيولوجي، وفي الوقت نفسه ظلت تلك الشعارات من الناحية السياسية موجودة فقط بالقوة وليس بالفعل؟ هل هذا يعني أن اليسار في العالم العربي انتصر ثقافيا وفشل سياسيا؟
في الواقع، إن مخرجات الحراك الجماهيري كانت في معظمها عكس المنطلقات والمبادئ التي تعكسها تلك الشعارات على مستوى السلط الانتقالية وموقع المؤسسة العسكرية بامتداداتها الاقتصادية وارتباطاتها الإديولوجية على الصعيدين الإقليمي والدولي خاصة في العلاقة بحركة الإسلام السياسي التي تصالحت ” تكتيكيا ” مع أفكار وشعارات اليسار للهيمنة على الدولة والمجتمع مستغلة قوتها التنظيمية والدعم الإقليمي والدولي، لكنها فشلت في أول اختبار لها في السلطة ( مصر، تونس، المغرب)، مما جعل جزءا مهما من مكوناتها يعيد النظر في بعض أطروحاته خاصة علاقة الدعوي بالسياسي والحاجة الى الفصل بينهما للانتقال من أحزاب ” دينية ” الى أحزاب سياسية بدون أذرع دعوية ( النهضة في تونس، العدالة والتنمية في المغرب ).
حراك 20 فبراير في المغرب لم يخرج عن هذه القاعدة حيث تأطر في العمق بشباب يساري وحداثي فيه المنظم وفيه غير المنظم، لكنه شباب انتصر بوضوح وبصوت مرتفع لقيم الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بشكل جعل منه حراكا ديمقراطيا حداثيا على مستوى التدبير والتطلعات، لكنه سياسيا ظلت الضبابية والالتباس والحذر تطبع العلاقة بين مكوناته اليسارية و”الإسلاموية” مما أضعف من مناعته أمام مناورات النظام السياسي وتمخضت عنه في نهاية المطاف حكومة “إسلام سياسي ” اصطدمت بإكراهات و” حلاوة ” السلطة ” فتعرضت لهزات مدوية سياسيا وأخلاقيا.
صحيح أن اليسار سواء بمفهومه الإيديولوجي المدافع عن سلطة الطبقة العاملة في بناء الاشتراكية أو بمفهومه الليبرالي الحقوقي المنافح عن قيم الحرية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، تواجد في قلب الحراك الديمقراطي العربي الذي نهل رغم تعدديته الإيدولوجية جميع مطالبه وشعاراته من ” القاموس اليساري ” مما ترجم بالملموس الحضور الثقافي والهيمنة القيمية والرمزية ليسار كافح طويلا وتعرض لمحن كثيرة ذاتية وموضوعية، وبقدر ما يفتخر هذا اليسار بتحول شعاراته و مطالبه الى شعارات ومطالب شبه مجتمعية تصدح بها حناجر الشباب والنساء، بقدر ما هو في أمس الحاجة الى تجاوز الانشغال ب ” النقاء الثوري ” للذات اليسارية وبتناقضاتها الثانوية والتركيز أكثر على القراءة السديدة لممكنات اللحظة السياسية ومسألة التحالفات وتوحيد الصفوف وجبهات الصراع، وهذه كلها مقدمات أساسية لتحويل قوة الحضور الثقافي والفكري إلى اصطفاف تنظيمي وسياسي بإمكانه قلب ميزان القوى لصالح قوى التحرر والتغيير الديمقراطي وتأمين مسار الانتقال الديمقراطي ضد كل المخاطر المحدقة… “إن النظرية رمادية اللون، يا صديقي، ولكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد” ” كما قال لينين في “موضوعات نيسان – رسائل حول التكتيك “.