” الصحة والسلامة في الوسط المهني “
◆ محمد العنزولي
رافق التطور التكنولوجي وما صاحبه من تطور صناعي إفرازا للكثير من الأخطار المستجدة التي أدت إلى تطور ” مفهوم الصحة والسلامة المهنية” بهدف تأمين بيئة آمنة وصحية للعنصر البشري كونه أحد أهم عناصر الإنتاج والحفاظ على مقومات المردودية والنمو الاقتصادي.
ونظرا للدقة التقنية لموضوع الصحة والسلامة المهنية، فإن التشريع المغربي، ما يزال يكتفي بجعل قواعد الصحة والسلامة عبارة عن أحكام عامة تتطلب الاحترام دون التفصيل في الماهية وعناصر الالتزامات المتفرعة عن الالتزام الأساسي باحترام هاته القواعد في حين أن تنوع المخاطر في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها الإنسانية في زمن العولمة واتفاقية التبادل الحر وطغيان التنافسية في مجال الإنتاج أمام اقتحام رؤوس الأموال وكبريات المقاولات لمجتمعات ما تزال تتلمس طريقها نحو الاعتراف الفعلي بقوانين الشغل وتتلكأ في التصديق على الاتفاقيات الدولية لتوفير الحماية العمالية لتجعل من الأجراء فريسة في غياب حماية قانونية واضحة ودقيقة من خلال الالتزام الصريح بتطبيقها لنصوص القانون والامتثال لها.
وتتجلى الدقة القانونية الواجبة الاعتماد بالبدء من تصنيف القطاعات حسب درجة الخطورة ثم الأدوات والآليات الخطيرة، وصولا إلى تصنيف مقرات العمل وأجرأة الاحتياطات والآليات الواجب اتخاذها وتطبيقها وإخضاعها لعملية مراقبة دائمة من قبل أجهزة مختصة تتسم بالمعرفة والحياد في صياغة تقارير دورية تعمل الجهات الرسمية على نشرها والتعريف بدرجة الخطورة وأنواع الإصابات الناجمة عن حوادث الشغل والأمراض المهنية حسب كل قطاع وجعلها مادة تحسيسية للنهوض بأوضاع الشغل وظروف العمل عبر وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة. إن الاكتفاء باعتماد بعض التدابير المتعلقة بمجال الصحة والسلامة المهنية وفتح مجال الاعتماد على قواعد عامة أبانت التجربة عن قصورها في توفير الحماية المثلى، في مجال دائم التطور من حيث استعمال الأدوات والآليات والمواد الخطيرة والتي كثيرا ما تجهل مصادرها بسبب ضعف المراقبة وفي غياب مؤسسات مختصة كفيلة بالفحص والتحليل وغياب لجان الصحة والسلامة بالمؤسسات قادرة على التصدي بحكم ضعف التكوين وسوء تقدير المخاطر. وإذا كانت هذه هي السمات الطاغية في مؤسساتنا الإنتاجية فإن آثارها الوخيمة هي تلك التي تظهر بين الفينة والأخرى في قطاعات إنتاجية عدة، والتي كثيرا ما تجسد غياب السلامة والفراغ القانوني وتترك المجال مفتوحا أمام أصحاب المقاولات للتملص حتى من تلك الالتزامات والتدابير الوقائية على قلتها وضعف مضامينها الحمائية للأجراء وتركهم في مواجهة ظروف العمل المشوبة بأنواع المخاطر.
من هنا يبقى الرهان الأساسي قائما على إيجاد قانون خاص للصحة والسلامة ” يقر وينظم الحق في الصحة المهنية كما دعت إليه اتفاقية منظمة الشغل الدولية رقم 155 المتعلقة بالسلامة والصحة المهنية وبيئة العمل، كبديل عن تلك الإجراءات والتي طالما اعتمدت سواء قبل إخراج المدونة أو من خلالها مادامت هي الأخرى لم تأتِ بما يكرس الحماية الحقة أكثر من جمعها لتلك التدابير التي كانت قائمة بموجب بعض مواد قانون الالتزامات والعقود أو نصوص بعض الظهائر الصادرة خلال مرحلة الحماية أو بعدها الموكلة لأطباء الشغل المحددة في مجال الوقاية، كما أن التنصيص على لجان حفظ الصحة والسلامة الوارد في مدونة الشغل كمستجد لا يعدو مجرد اقتباس شكلي لما كرسته بعض التشريعات المتقدمة مثل التشريع الفرنسي ” مادامت تلك المواد التي تبنتها لم ترق إلى التنصيص على تحديد عدد مناديب الصحة والسلامة على غرار ما أوردته المادة 433 م ش ” وتركت المجال مفتوحا سواء للانتخاب أو التعيين بالتوافق ولرؤساء المقاولات بما يؤدي إلى اعتماد الصيغة الثانية والتي تعتبر غير مجدية بالنسبة لمجال الصحة والسلامة والذي يتطلب الحرص والجدية أكثر من غيره من المجالات بعيدا عن إرضاء أطراف العلاقة الإنتاجية وتكريس الوضوح سواء في صياغة القوانين و تحديد المهام وفي إسناد المسؤوليات في مجال الصحة والسلامة .
وإذا كانت العديد من القطاعات والمقاولات الصغرى والمتوسطة بما تتوفر عليه من عتاد وآليات ميكانيكية وكهربائية وبتنوع أنشطتها واختلاف مهام أجرائها في التعاطي مع متطلبات الصيانة والسياقة وولوج المركبات والمؤسسات المعدنية وخلال عمليات الشحن والتفريغ ( الفوسفاط، الاسمنت، الفحم الحجري ، البتروكيماويات .المبيدات والرش الفلاحي … ) وبحكم تنوع ظروف العمل القائمة والتوقيت المعتمد وتنوع المخاطر الناجمة عن الاحتكاك بالآلات والمعدات وإفرازات الأنشطة من غبار ودخان التلحيم ومؤثرات الإنارة والاهتزازات والضجيج وصهر الحديد واستعمال بعضها للمواد الكيماوية في الصباغة ومخلفات العوالق البيولوجية أثناء تفكيك المعدات فالأمر يستلزم وضع قوانين خاصة ومتنوعة بدلا من الاعتماد على مبادئ عامة مستوحاة من مدونة الشغل وبشكل نمطي لا يميز بين خصوصيات المؤسسات ولا طبيعة المخاطر وتنوع الأنشطة المعتمدة فيها ، كما أن التنصيص الوارد في بعض القوانين الداخلية يظل قاصرا على توفير الحماية نظرا لما يتسم به من عموميات، وغياب التنصيص على المصالح الطبية في الخطاطات العامة ” organigrammes” ودون وجود مصالح للصحة والسلامة كمنصب منصوص عليه في مدونة الشغل، وغياب ما يشير إلى الصحة والسلامة في العديد من القوانين الأساسية لمستخدمي القطاعات والاكتفاء بالتنصيص على ما يعرف بهذا المجال وفي حالات اخرى توسيع قاعدة المتدخلين في مهام الصحة والسلامة دون تحديد المسؤوليات والالتزامات وإن كانت تلك القوانين الداخلية تنص على بعض المهام فلا تعدو ان تتدرج على عاتق عدة أطراف لتستقر على كاهل بعض ذوي الدرجات الدنيا من المسؤولية لا يملكون سلطة القرار ولا الإمكانيات اللازمة للقيام بها كما هو شأن ” رؤساء الوحدات الإنتاجية، وهو ما يجعل الجميع مسؤول من دون التزامات خاضعة للمراقبة وتحمل تبعات المسؤولية و في غياب رصد ميزانيات وتمويل المتطلبات الأساسية للعناية بالصحة والسلامة المهنية…
جريدة الطريق جريدة تقدمية ، تسعى إلى زرع الوعي الاشتراكي بين المواطنين . مزيدا من التوعية الهادفة ، و كل التوفيق