ملف: الحراك الشعبي المجالي
طغيان مقاربة الاعتقال والتعنيف وإهمال المطالب الاجتماعية
الاحتجاجات المجالية -1 الحسيمة تنتفض: حوار مع السيد محمد أحمجيق
السيد محمد أحمجيق، يسرنا بجريدة الطريق استضافتكم، بخصوص ملف انتفاضة الريف، وسيرورة معركة الاحتجاجات ومآلات قضية المعتقلين من نشطاء الحراك، بصفتكم من عائلة أحد المعتقلين الأكثر جرأة في المعارك الاحتجاجية “نبيل أحمجيق”.
نشكر جريدة الطريق المعهودة بمصداقيتها، وذلك على فسحها المجال لتسليط الضوء على ملف حراك الريف وتطوراته، في البداية لابد من الإشارة إلى أن المنطلقات كانت في تسلسل الأحداث بمقتل بائع السمك محسن فكري المنحدر من مدينة إمزورن مطحونا في حاوية أزبال بأمر من أحد رجال السلطة، مباشرة بعدها انتشر الخبر في مدينة الحسيمة، فتحلق مجموعة من الشباب أمام مسرح الجريمة قرب المحكمة الابتدائية. كانت تلك هي الشرارة الأولى التي أعطت انطلاقة حراك الريف، وفي تلك الأثناء ظهر الوجه البارز لناصر الزفزافي؛ حيث ألقى في ذلك التجمع كلمة ندد فيها بالعقلية التقليدية للسلطة في تعاملها مع المنطقة. حيث تمت الدعوة إلى حضور كل من عامل المدينة ووكيل الملك إلى مكان الجريمة؛ وقد استجاب بالفعل للمطلب وجرى حوار أبانها حول ضمانات تطبيق القانون وإحقاق العدالة في هذه القضية.
لكن إن كان حراك الريف قد تفجر مع مقتل محسن فكري، إلا أن شروطه كانت ناضجة من قبل، فهو استمرار لتوترات سابقة بين السلطة والمنطقة، ومن جهة أخرى فحراك الريف هو حلقة من حلقات الربيع العربي الذي لم يضع أوزاره بعد ما دامت أسبابه قائمة؛ أعني التوق إلى بناء الدولة الديمقراطية.
بعد سلسلة من المسيرات السلمية والحضارية، بلمسات إبداعية سلمية ثارة بالشموع وأخرى بالورود، ووقفات احتجاجية بساحة محمد السادس اتخذت طابعا فنيا. تم التفكير في إعداد ملف مطلبي، وقد تزامن ذلك مع الحملة التعبوية للنشطاء الذين زاروا مختلف المناطق في إقليم الحسيمة، حيث كانت مناسبة للإصغاء لمطالبهم واحتياجاتهم الموضوعية التي ضُمّنت في الملف المطلبي، الذي كان تعبيرا عن نبض الساكنة واحتياجاتهم الموضوعية، وتركز حول جملة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية، ولم ترفع أي مطالب بسقف سياسي يتعدى هذا المستوى، لهذا يعجب المتتبع من التهم التي وجهت لنشطاء حراك الريف حين يطالع وثيقة الملف المطلبي. وقد كان الملف إفرازا لنقاشات مستفيضة، حيث ابتدأ بديباجة نوهت بالمقاربة التشاركية المعتمدة في تسطير الملف المطلبي، وبإيجاز فأهم المطالب الحقوقية كانت بفتح تحقيقات جادة حول مقتل محسن فكري وعرض المتورطين الحقيقيين في هذه الجريمة على العدالة لنيل ما يستحقونه من جزاء، وليس فقط أكباش الفداء لإخفاء المتورطين، وكذلك فتح تحقيق نزيه في الملف الشائك للشهداء الخمسة الذين لقوا حتفهم يوم 20 فبراير في ظروف غامضة. أما المستوى القانوني فكان بالمطالبة بإلغاء ظهير العسكرة الذي بموجبه تعتبر مدينة الحسيمة مدينة عسكرية، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الظهير أصدر بعد أحداث 1958 الأليمة. كما أن المطالب الاجتماعية توزعت بين قطاعات مختلفة، ففي ميدان التعليم نجد مطلب بناء جامعة متكاملة التخصصات وإحداث معاهد عليا في مختلف المجالات وتوسيع شبكة المؤسسات التعليمية (الابتدائية والإعدادية والثانوية)، وفي قطاع الصحة حضر مطلب بناء مستشفى للسرطان كحاجة مستعجلة، باعتبار هذا المرض الخبيث، هو الأكثر استفحالا في منطقة الريف ولا يكاد يخلو بيت من ضحاياه، وإحداث مستشفى بخدمات أجود وتوفير طاقم طبي في مختلف التخصصات، وتعميم المستوصفات والخدمات الطبية على مختلف مداشر وقرى إقليم الحسيمة. ودائما في المطالب الاجتماعية، فقد ضم الفرع الثقافي مطالب متعددة كالتعجيل بإتمام أشغال متحف الريف والتحقيق في الخروقات التي طالته، وبناء مكتبة إقليمية. في حين أكد الملف المطلبي في شقه البيئي على ضرورة الحفاظ على القطاع الغابوي وفق المعايير الدولية وفتح تحقيق نزيه حول احتراق هذا الملك الغابوي. فيما يخص المطالب الاقتصادية، فبالنظر إلى أن قطاع الصيد البحري هو القلب النابض لاقتصاد المدينة، فقد احتل هذا القطاع مركز الصدارة، فقد نصت المطالب على الكشف عن كل اللوبيات التي تستنزف هذا القطاع، ومعاقبتهم بصرامة، وأكد الملف على ضرورة تحديد نسبة تصدير الأسماك واحترام صارم للراحة البيولوجية من طرف الجهات المختصة. وفي قطاع التشغيل خلق معامل (تصبير السمك، الصناعة الغذائية.. إلخ) لخلق فرص الشغل في منطقة تعرف ارتفاع نسبة البطالة بشكل مهول.
فيما يخص تعامل السلطات، ففي البدء كانت تظن الدولة أن هاته الاحتجاجات سحابة صيف عابرة، وسينطفئ وهجها مع الوقت، لكن والعكس من ذلك، فحراك الريف تنامى زخمه مع الزمن، وقد اعتمدت الدولة أساليب متعددة لتطويقه وحصاره، ففي البدء تم نصب خيام معرض في ساحة محمد السادس وذلك لاحتلال هذا الفضاء الذي احتضن الأشكال الاحتجاجية للساكنة، وقد دام هذا المعرض مدة طويلة، وعلى غير العادة لم يُشر إلى مدة انتهائه، لأن المعرض لم يكن غاية في ذاته، وفي خطوة أخرى دقت عمالة الحسيمة أبواب بعض الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني التابعة لمنظومتها، من أجل شيطنة الحراك، وذلك بتحميله مسؤولية الركود الاقتصادي الذي تعرفه المدينة وتأليب الساكنة على النشطاء. كما تم استغلال الإعلام المأجور لتمرير المغالطات تمهيدا لأية “حملة” تهدف لتصفية النشطاء. ومن أجل شرعنة التدخل الأمني وتحريك المسطرة القضائية مهدت الدولة عبر وزارة الداخلية والأحزاب التابعة للسلطة عبر التحريض لاتهام الحراك بتهم هي نفسها التي سيتم محاكمة النشطاء بها : التآمر مع أعداء الوطن ضد الوحدة الترابية، وتلقي مبالغ مالية من طرفها لتنظيم أشكال احتجاجية القصد منها المس بأمن الدولة، إلى غيرها من التهم الكيدية. ومما ينبغي التأكيد عليه هنا أن خروج أحزاب السلطة بتصريحات تتهم فيها الحراك تم توظيفها لاحقا بالقضاء لمتابعة النشطاء بهذه التهم نفسها، مما يرجح أن المحاكمة سياسية فعلا. وفي مرحلة متقدمة ستلجأ السلطة إلى تسييس المسجد؛ وذلك عبر فرض نوع من الخطب على أئمة المساجد بحمولة تحريضية استفزازية، رغم المرسوم الذي يقضي بضرورة حياد الخطباء سياسيا، حيث كانت وزارة الأوقاف توزعها على المساجد لقراءتها يوم الجمعة بحمولة سياسية معادية للحراك خلاصتها أن حركية المجتمع الطبيعية فتنة محرمة دينية، وهكذا تم استغلال المساجد لضرب الحراك وتأليب الرأي العام بخطاب ديني. وبعد أن استنفذت الدولة كل وسائلها دون جدوى التجأت إلى المقاربة الأمنية والقضائية، وذلك من خلال إنزال أمني كثيف في المدينة، إنزال فُهم منه لاحقا أن الدولة كانت قد اتخذت قرار إنهاء الحراك بالقوة باعتقال النشطاء، ثم مواجهة الساكنة بالعنف. ولابد من الإشارة هنا إلى أن صبر الدولة لمدة سبعة أشهر وعدم لجوئها للعنف قول عار من الصحة، فالدولة فرقت الجموع المحتشدة يناير 2017 في ساحة محمد السادس احتجاجا على المعرض الغريب باستعمال مفرط للعنف، كما أنها منعت الوقفة المزمع تنظيمها في ساحة كالابونيطا تخليدا لذكرى رحيل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي من خلال حصار أمني شديد وتعنيف عشوائي للمواطنين، لكن المقاربة القمعية بلغت أوجها بعد اعتقال النشطاء…
وكلنا نتذكر حادثة استشهاد عماد العتابي يوم 20 يوليوز 2017.
و للإشارة فمأساة اعتقال النشطاء، هي نوع من القصف العاطفي والنفسي والأسري لكل عائلات المعتقلين قبل أن يكون مأساة للمعتقل، وخصوصا عندما تكون المؤسسة السجنية بعيدة عن مقر سكن عائلة المعتقلين وبدون أدنى الشروط الإنسانية. لقد بدأت مأساتنا كأسرة مع اعتقال المعتقل السياسي نبيل أحمجيق حيث كانت تداعيات الخبر سيئة على والدته، حيث تسبب لها في مرض القلب شافاها الله وعافاها. والوجه الآخر من مأساوية الاعتقال هو ترحيل النشطاء المعتقلين إلى الدار البيضاء، وما واكب ذلك من تكلفة مادية ونفسية لأسر كل المعتقلين من نشطاء الحراك، باعتبار المسافة بين الحسيمة والدار البيضاء طويلة، لكن الأدهى والأمر في كل هذا هو المزاجية التي تتعامل بها الإدارة السجنية مع عائلات المعتقلين، فقد شهدنا مرارا تفتيشا يمعن في إهانتهم، والمنع التعسفي من إدخال بعض الأغراض للمعتقلين. ونحن نشهد أيضا مؤخرا تشتيتا من نوع آخر لمعتقلي الريف على سجون أخرى، حيث أن أول ما يجب الالتفات إليه في هذا الترحيل هو الجانب القانوني، وكما تابعنا فبعض المحامين من هيئة الدفاع طعنوا في هذا الترحيل كونه ترحيلا تعسفيا فاقدا للشرعية القانونية، إذ لا يحق لإدارة السجن أن تنقل معتقلا احتياطيا خلال أجل الطعن المخول له قانونا، كما أن هذا الترحيل قسري تعسفي لأنه يحرم المعتقل من التواصل مع محاميه والتخابر مع هيئة دفاعه، ومن الثغرات القانونية في هذا الترحيل أيضا عدم إخبار محامي المعتقلين بالقرار، فهو تضييق على الحائزين على رخصة قضائية للتخابر مع المعتقل، وحتى لو يصدر الحكم النهائي فللمعتقل المضرب عن الطعام وضعية استثنائية، لا يحق للإدارة السجنية تنقيله دون إشراف طبي، وبالنظر إلى كل هذه الحيثيات القانونية فالترحيل يتراءى لنا قرارا عقابيا. المسألة الأخرى أن إبعاد المعتقلين عن الدار البيضاء، كانت الغاية منه في اعتقادنا حرمانهم من المتابعة الإعلامية النشطة في الدار البيضاء، وكذلك فصلهم عن الزخم النضالي لهذه المدينة والتي أفرزت لجنة لدعم المعتقلين، وهي لجنة قدمت مشكورة خدمات كثيرة للمعتقلين ولعلائلاتهم. من جهة أخرى فثمة جانب آخر مقصود في هذا الترحيل القسري وتشتيت المعتقلين على عدة سجون وهو كسر وحدة المعتقلين، فقد كان المعتقلون يخوضون معارك نضالية من داخل السجن بفضل وحدتهم وتآزرهم، وما يزيد الطين بلة أن معتقلي حراك الريف كمعتقلي رأي ومعتقلين سياسيين باعتراف بعض الوزراء في الحكومة الحالية تم وضعهم في زنازين مع مجرمي الحق العام، كشكل من أشكال شيطنتهم وتقديمهم كمجرمين لا كمعتقلين سياسيين سُجنوا بسبب مواقفهم النضالية لا غير.
أود طرح مقاربة، أعتبرها تحصيل حاصل، وهي أن مسارات ومآلات الحراك بين الحسيمة وجرادة والمناطق الأخرى متشابهة، نحن شعب واحد ووطن واحد، تتشابه وضعياتنا الاجتماعية والاقتصادية، كما ننتمي إلى الهامش أو إلى “المغرب غير النافع”، وذات الأسباب التي فجرت الحراك في الحسيمة هي نفسها كانت النقطة التي أفاضت كأس حراك جرادة وغيرها، كما أن الدولة تتبع نفس الخطوات مع جميع الحراكات، لهذا من المؤسف أن نرى مسؤولا يقول زوراً قبل أيام أن الحكومة تتعاطى مع الحراكات الاجتماعية بمقاربة تنموية، فلو أن الدولة فعلا باشرت المقاربة التنموية منذ البداية لما قامت هذه الاحتجاجات، كما أن الشعب لو استشعر جدية في إطلاق مشاريع تنموية لما احتاج للاستمرار في الاحتجاج، الدولة في المغرب خط متواز مع خط الشعب، تقابل صوته بدءًا باللامبالاة وعدم الاكتراث، ربما لأن مفاهيم عتيقة مثل “هيبة الدولة” لا تزال تعتمل في لاشعور بعض صناع القرار، وكل استجابة لمطلب اجتماعي نادت به الساكنة في مدينة، تؤوله الدولة على أنه لَيُ ليدها، وحين يستمر الاحتجاج تشهر الدولة المقاربة القمعية، ترهيبا للساكنة وسجنا للنشطاء، وكم نتمنى أن تقطع الدولة مع هذه الأساليب البائدة. فدرس التاريخ يعلمنا حقيقة واحدة : تظل الشعوب تناضل، تضحي بأغلى ما عندها من أجل أن تنال حريتها، إذا استوعب صناع القرار هذه الحقيقة، فسيعون بضرورة تفعيل انتقالات مرنة وسلسة إلى بر الأمان، وإلا فإن الحراك لن يبقى محصوراً في الريف فقط، بل سيمتد إلي كل البلد، وسينتشر انتشار النار في الهشيم مادامت أسبابه قائمة، فئويا ومجاليا. ففي الريف الإنهاء القسري لفكرة الحراك؛ وأقول هنا الفكرة، والفكرة تظل حية في الأذهان، مرتبطة بعاملين اثنين: إطلاق سراح المعتقلين، والاستجابة للملف المطلبي، من غير تصفية هذا “المكبوت” كما يسمى في علم النفس، فلا يمكن أن تؤمن عودته من جديد، يقال في المثل : لا تقتل البعوض ولكن جفف المستنقعات، والدولة مطالبة بأن تجفف كل مستنقعاتها الفاسدة، والتي قد تتسلل في مواجهتها احتجاجات أخرى، قد تفتح الوطن على المجهول. كان المغرب دائما بمنأى عما يغلي في المنطقة؛ وبمعنى آخر فإن رياح الغليان تصل إلينا واهنة، وعلى الدولة أن تحافظ على هذا الطابع، وليس من وصفة أفضل من مصالحة الشعب المغربي، وفي هذه الظرفية الدقيقة، فالمصالحة الحقيقية هي إطلاق سراح المعتقلين والاستجابة الجادة والفورية للمطالب العادلة. وإطلاق السراح لن يتم إلا من مدخل سياسي لأن المشكل من البداية كان سياسيا، فكلنا نتذكر الاتهامات التي خرجت بها الأغلبية الحكومية بعد إطلاعها على ملف مطبوخ في وزارة الداخلية يتهم الحراك بتلقي أموال خارجية، والادعاءات الواهية برفع مطالب انفصالية وزعزعة أمن الدولة، هذه الأسطوانة مشروخة، هي نفسها التي ووجه بها اليساريون بعد الاستقلال، وبقدرة قادر تحول هؤلاء الرجال الوطنيون إلى رموز تطلق أسماؤهم على شوارع الوطن؛ فلماذا ذاكرتنا مثقوبة هكذا؟ ولمزيد من التوضيح فَلِكُلِّ أُُسرَةٍ في الريف عضو أو أكثر من المهاجرين بأوربا، وهو مصدر لإعالة هاته الأسر في غياب أي مصدر لإعالتها، وسط التهميش المقصود لموارد المنطقة كما بقية مناطق المغرب المنسية، ولتوضيح أدق فعلاقة الإعالة هاته لا تتعدى الجانب الاجتماعي، عكس الإدعاءات المغرضة للدولة بالعلاقة بالخارج، فسقف حراك الريف واضح في مطالبه كما هو مدون في الملف المطلبي، وبالمقابل فحراك الريف يرفض أيضا بعض العنتريات والرعونة الفارغة التي تزايد على عدالة قضيته ومشروعيتها لا في الداخل ولا في الخارج.
ومن خلال منبركم، وعبر مقترح نائبي فيدرالية اليسار الديموقراطي بتفعيل قانون العفو العام من داخل البرلمان، فنحن نرحب بكل مبادرة مدنية أو سياسية جادة تعمل لتسوية هذا الملف لإطلاق سراح المعتقلين، ونمد أيدينا لكل هذه المبادرات، وكعائلة للمعتقلين ننوه من هذا المنبر بالشخصيات السياسية والمدنية التي تسعى للتوسط من أجل طي الملف بما يعود بالمصلحة على الوطن، وفيما يخص تفعيل مسطرة العفو العام، وهي إحدى صلاحيات السلطة التشريعية (البرلمان) التي يخولها لها الفصل 71 من دستور 2011، فلاشك أن هذا سيضفي كثيرا من المصداقية على استقلالية وقوة مؤسسة البرلمان، وسيعيد إليها الاعتبار كمؤسسة تمثيلية، وسيسهم في محو ذلك الانطباع السيئ لدى الشعب عن هذه المؤسسة.
وعودة لموقف حراك الريف من الأحزاب السياسية، فيبدو أن ثمة التباسا لابد من رفعه، إن الحراك ليس ضد فكرة الأحزاب، ولا ضد التعددية الحزبية، بالعكس لا ديمقراطية دون تعددية، لكن بعض الأحزاب السياسية في السنوات الأخيرة قد أفرغت من مضمونها، ولابد أن نستحضر هنا حتى الانتقادات التي وجهت لهذه الأحزاب في خطابات ملكية، وهو تقاطع دال، ولهذا فالحراك ضد أحزاب بعينها تتخلى عن كثير من مسؤولياتها وتلهث فقط وراء مصالحها الفئوية، والعديد من الأعطاب والأزمات التي يمر منها الوطن هي إفراز لهشاشة هاته الأحزاب السياسية، وغياب مشاريع سياسية وإرادة حقيقية لتنزيلها على أرض الواقع، وهذا هو سبب موقف الحراك من بعض الأحزاب، فهو موقف عرضي وليس جوهريا، وهو متصل بواقع بعينه، وبلاشك أن الحراك الذي هو نبض الشارع سيغير موقفه لو وعت دورها الحقيقي في الحياة السياسية وعملت على تجسيده، وهذه المبادرة التي قادها نائبا فيدرالية اليسار الديمقراطي تسير في اتجاه تعزيز دور الأحزاب السياسية ولن تجد منا غير الترحيب والإشادة.
إن الحكومة لم تضع خطة طريق واضحة ذات أبعاد شمولية وإستراتيجية واضحة للتغلب على المعطى الطبيعي في إقليم زاكورة، والمتمثل في: ندرة المياه السطح أرضية والجوفية، ولم تتخذ إجراءات قمينة بحسن تدبيرها، سواء للأغراض الزراعية، أو للشرب البشري والحيواني، واكتفت بحلول ترقيعية، من قبيل إنجاز محطة تحلية المياه من أجل تصفية ماء ثلاث آبار فقط لفائدة ساكنة المركز الحضري بزاكورة دون غيرها في باقي الدواوير والمداشر، والغريب أنه لم يمر على اشتغالها سوى تلاثة اشهر ثم بدأت تظهر عليها أعطاب تقنية، والمثير أنه حتى سد “تيزكي” بأكدز الذي بدأت الأشغال فيه مباشرة بعد ثورة العطش لسنة 2017، لن تنتهي حسب تصريح الوزيرة السابقة المكلفة بالماء إلا سنة 2023، لو سارت نسب الإنجاز وفق المدد المسطرة لها؛ لذلك فكل مؤشرات عودة اندلاع” ثورة العطش” حسب المعطيات الراهنة، لا زالت قائمة.
فلازالت الحكومة مصرة رغم استمرار مواسم الجفاف المتتالية بالمنطقة، والجو الصحراوي الحار جدا، على تعميم مشروع المغرب الأخضر فيها، وذلك بتشجيع مزروعات مستهلكة للماء: البطيخ الأحمر (الدلاح) نموذجا، دون الأخذ بعين الاعتبار المعطى الطبيعي المذكور أعلاه، حيث ارتفعت المساحات المزروعة بالضواحي من 600 هكتار سنة 2008، الى 3200 هكتار سنة 2018، لتصل الى حوالي 24 ألف هكتار خلال الموسم الفلاحي الحالي- وفق تصريح لرئيس جمعية أصدقاء البيئة، وهو ما نتج عنه استنزاف خطير للفرشة المائية بشكل مهول، خصوصا إذا استحضرنا أن الكمية التي تستهلكها زراعة هكتار واحد من “الدلاح” تبلغ حوالي 6000 متر مكعب من الماء، وأن “دلاحة” واحدة تستهلك حوالي طنا من الماء، وقد يزيد أو ينقص حسب وزنها، وذلك بضخ مياه السقي بالتنقيط عبر صهاريج ضخمة لتخزين المياه بالنسبة للفلاحين الكبار، أو عبر الآبار في الغالب بالنسبة للفلاحين الصغار، والتي كان عمقها لا يتجاوز50 متر سنة 1997، الى أن صار حوالي 170 متر سنة 2018 في هامش واحات مناطق: لمعيدر، النقوب، وتازارين، والواحة الخصبة بالفايجا، والبليدة.
كما أن تربة المنطقة، على امتداد الهكتارات المزروعة، مهددة بدورها تبعا لذلك بفقدان جودتها أو هلاكها، بسبب تسميدها المفرط بأنواع من المواد الكيماوية الدخيلة، ومادة البلاستيك المستعملة لتحسين مردودية المنتوج، والتي تخلف سمومها انعكاسات سلبية قد تؤدي إلى تحويلها إلى تربة غير صالحة للزراعة في آجال منظورة. وللإشارة فإن المستفيدين الحقيقيين من هذه الفلاحة المفرطة هم لوبيات الفلاحين الكبار، بما فيهم رؤساء جماعات ترابية، والذين يملكون إمكانيات هائلة لاستصلاح أراضي شاسعة للزراعة وحفر أبار ضخمة تضخ مياهها إلى صهاريج للتخزين، لاستعمالها للأغراض الزراعية في مثل هذا الوقت من السنة، تلبية لحاجيات التصدير إلى أوروبا وتركيا أساسا، أما الفلاحين الصغار فما عساهم يربحون من تجارتهم البخسة خلال هذا الموسم، إذ بات ثمن وحدة البطيخ الأحمر واحدة مهما كان حجمها لا يتجاوز مبلغ 05 حتى 07 دراهم من على الأرض، فأين سعر أطنان المياه المستهلكة من أجل هذه الزراعة؟؟؟
بالإضافة إلى أن من بين معيقات تدبير ندرة الماء: سوء تدبير التنمية العمرانية في المجال الحضري خصوصا، وهي مسؤولية قائمة لدى السلطات المحلية المختصة، ويتجلى ذلك في استحداث حوالي أربعة أحياء أمام أعينها بدون تصاميم ولا توطين شبكتي: مياه صالحة للشرب، وقنوات التطهير السائل، وذلك بسبب تنامي مافيا العقار ولوبيات الفساد أساسا، والتي استحوذت تبعا لذلك على أراضي الجماعات السلالية ضدا على إرادة ذوي الحقوق، كل هذه العشوائية في التنمية العمرانية باتت معيقة لتزويد الساكنة في مثل هذه الأحياء بالماء الصالح للشرب حتى لو توفرت إرادة سياسية لدى القطاعات المعنية بذلك في هذا الاتجاه.
ومعلوم ان مشكل ندرة المياه بزاكورة لا تهم المركز الحضري فقط، بل تمتد إلى كل المناطق المحيطة بها، والتي يمكن تصنيفها كالتالي:
• الصنف الأول: واحتا المحاميد – تاكونيت، وفزواطة، حيث ملوحة المياه الجوفية الناتجة عن امتداد ظاهرة التصحر.
• الصنف الثاني: المناطق الوسطى وتضم كلا من: مزكيطة- ترناتة، حيث رغم وفرة مياه الشرب نسبيا، إلا أن تدبيرها من طرف المجتمع المدني بدون شبكة تطهير سائل يخلق أزمة بيئية للفرشة المائية ناتج عن تسرب المياه العادمة.
• الصنف الثالث: واحات مناطق: لمعيدر، النقوب، وتازارين، والواحة الخصبة بالفايجا، والبليدة المذكورة بالتوصيف أعلاه.
فضلا عن استغلال الكثير من الموارد المائية في القطاع المنجمي والمعدني بمناطق: البليدة، وبوازار، وأم مجران.
بناء على ما سبق لم تتحمل الحكومة مسؤولياتها خلال السنين الماضية في تعبئة الموارد المائية الصالحة للري موازاة مع تعميمها سياسة المغرب الأخضر بالإقليم من جهة، ولا عملت على توفير الماء الصالح للشرب لفائدة الساكنة من جهة أخرى، واختارت سياسة الآذان الصماء والانتظارية، عَلَّ الذي لا يأتي.. يأتي…
وهو ما اضطر معه ساكنة المنطقة الى تنظيم احتجاجات ومسيرات سلمية عديدة، خصوصا خلال شهري شتنبر واكتوبر 2017، والتي ووجهت بكل أساليب القمع والتنكيل والمتابعات القضائية ضد 21 معتقلا، بمن فيهم 8 قاصرين، حيث تم تلفيق عدة تهم مفبركة لهم، من قبيل:
• التجمهر واتلاف وتعييب أشياء مخصصة للمنفعة العامة
• اهانة موظفين عموميين أثناء قيامهم بعملهم؛
• القيام بمظاهرات غير مرخص لها…
لتصدر في حقهم أحكام جائرة تراوحت بين شهرين و3 و4 أشهر من جهة، و5 سنوات من جهة أخرى، كما صدرت الأحكام ضد القاصرين بمدد 10 و15 يوما التي قضوها رهن الاعتقال الاحتياطي، وذلك بخلفية ترهيب الساكنة وترويعها، لثنيها عن المطالبة بحقها الطبيعي في توفير الماء الصالح للشرب، بما هو مادة حيوية تضمن الحق في الحياة، وكذا بهدف الحد من امتداد شرارة “ثورة العطش” الى المناطق المجاورة التي تعاني من نفس الوضع، خصوصا إقليم طاطا.
وبدل رسم سياسة عمومية حول ندرة الماء بشكل تشاركي مع المسؤولين والمجتمع المدني بزاكورة، بغرض إيجاد حل استراتيجي يضمن استمرارية الحياة، والتخفيف من الاحتقان الاجتماعي،فقد ركزت الجهات المسؤولة على وضع حلول ترقيعية في مواقع الاحتجاج والاحتقان بالمركز الحضري، دون باقي الدواوير والمداشر، والتي تشهد ولحدود اللحظة مأساة عطش جد مستفحلة، خصوصا مع كثرة الانقطاعات المتتالية الطوال للتزويد بهذه المادة الحيوية دون سابق إنذار في الآونة الأخيرة، مما يندر من جديد باندلاع أزمة الماء بالمركز الحضري بزاكورة، طالما يتم الاقتصار فقط على حلول ترقيعية لهذه المعضلة المستفحلة، ارتباك في التدبير لم يرق إلى مستوى تفعيل توصيات الحوار الوطني حول الماء لسنة 2003، والذي خلص الى أهمية إيجاد حل جذري لتوزيعه، ومن ضمنها بناء سد تيويين لتزويد أقاليم ورزازات وزاكورة وتنغير بالماء، ليقتصر الآن على تزويد ورزازات حصريا دون العمالتين الأخريين، وذلك تحت مبرر وجود الطاقة الشمسية بها، والرهان على بناء سد تيزكي باكدز للشرب والري، والذي هو في طور الانشاء، حيث لم تبلغ فيه نسبة الإنجاز إلى حد الآن سوى 35 %، والواقع العنيد يؤكد أن إنهاء هذا المشروع الحيوي قد يمتد إنهاؤه إلى سنوات، دون احترام دفتر التحملات بإنهائه في 2023 الموضوعة له، وما يتطلب ذلك من استكمال بناء قنوات التزويد والتوزيع من اكدز حتى كل مناطق زاكورة، مما يعني أن انهاء هذا المشروع قد يمتد الى حوالي 2027.
فهل تقوى الإجراءات الترقيعية والمؤقتة أعلاه، على الحد من تنامي الحركات الاحتجاجية ليس فقط على صعيد مركز زاكورة، بل وكل مناطق العالم القروي بالإقليم؟ ثم هل يمكن سن سياسة فلاحية تقطع مع المافيات المتحكمة في استنزاف الفرشة المائية والتدبير الجيد للماء به؟ وهل يمكن التحكم في سياسة التنمية العمرانية بإعمال الترسانة القانونية الضخمة في هذا المجال للحد من البناء العشوائي؟؟؟
تقديم :
ظهر الفحم في المنطقة الشرقية سنة 1927 ، وبعد أن كانت المساحة التي ظهر فيها ، محاطة بغابات شاسعة وكثيفة وموحشة، يشتغل البدو ومنهم الرحل في جنباتها بالرعي وتربية المواشي، ويسكنون الخيام ،بدأ العمال يتجهون إليها من كل أنحاء المغرب ، منذ الشروع في استخراج الفحم سنة 1934 ،وظهرت مدينة جرادة التي أصبحت كمغرب صغير لتنوع أصول الوافدين إليها بحثا عن لقمة العيش والاستقرار، على عهد الاستعمار الفرنسي ، وظهرت أحياء المدينة وكأنها بنيت على أسس طبقية ، لكل طبقة فضاؤها الخاص، وكانت التركيبة الاجتماعية على الشكل التالي : بورجوازية الأطر الفرنسية المسيرة ، والمهندسين المغاربة ، وضمنهم أرستقراطية عمالية فرنسية، تتمتع بامتيازات هامة، وعدد من الأطباء.
فئة رؤساء الورشات Les chefs وكانت تقطن بالحي الأوروبي بحاسي بلال أو جرادة .وهي فئات متوسطة الدخل، تلي فئة المهندسين في الرتبة .
الطبقة الكادحة (البرولتاريا) وتتكون من العمال الذين ينتجون الفحم معتمدين على طاقتهم العضلية ، وهم الفئة المسحوقة والمستغلة، وصاحبة التأثير في حركة التاريخ العمالي بجرادة . كما شغلت الشركة عددا هاما من المياومين مثل عاملات النظافة ، وبعض عمال الصيانة.
أهمية جرادة الاقتصادية :
شكلت جرادة طيلة النشاط المنجمي القلب النابض لاقتصاد الجهة الشرقية ، وكانت الطبقة العاملة الكثيرة العدد محط اهتمام النقابات والهيآت السياسية على الصعيد الوطني والدولي ، وشغلت مناجم جرادة مساحة هامة في التقارير الاقتصادية لعدد من النقابات التي أطرت بشكل أو بآخر الطبقة العاملة .هذه الأخيرة كانت على الدوام بالنسبة للمخزن كبركان خامد من المحتمل أن يبدأ نشاطه في كل لحظة ، فتجمع عمالي كبير من حجم عمال جرادة الذي كان يصل إلى حوالي 7000 عامل، تمتد جذوره وتأثيراته إلى رقعة جغرافية واسعة بما كان يدره على امتداد جغرافية الوطن من عائدات العمال المادية التي قدرت في بداية التسعينات بحوالي 30 مليار سنويا و التي استفاد ت منها شبكاتهم الأسرية ، مخففة أعباء البطالة والفقر ، بالإضافة إلى ما كان يضخه في شرايين الوطن من طاقة وصلت نسبتها في بعض الأوقات إلى 45 % من الإنتاج الوطني ، وما كان يسديه الفحم من خدمات تعم مجموعة من المدن .عانت الطبقة العاملة بجرادة كنظيرتها على الصعيد الوطني من العزلة التي فرضها عليها الثنائي(البيروقراطية النقابية والمخزن) بسبب الهاجس الأمني ، والرغبة الجامحة في الاستفراد بها واستغلالها استغلالا مكثفا .
جرادة والعمل النقابي :
بالرغم من أن جرادة احتضنت أول خلية سرية لتأسيس أول نقابة مغربية مستقلة عن النقابة الفرنسية C.G.T، وهي الاتحاد المغربي للشغل، هذا التأسيس الذي ظل لمدة طويلة حلما راود كل المغاربة ، أي كان لها السبق والحضور في المجال النقابي . ، وبالرغم من أن العمال جمعت بينهم الظروف المعيشية ،وظروف العمل القاسية التي تنتهي حتما بوحدة المصير والإصابة بالداء المهني االسيليكوز ، وجمعهم كذلك تقاطع ملفهم ألمطلبي ، إلا أن العمل النقابي كان يفرق بينهم ، فأغلبيتهم العددية وهي مركز قوتهم ، ظلت غير مستقرة وتتأرجح : تستقر بالاتحاد المغربي للشغل تارة، وثارة أخرى بالاتحاد العام للشغالين بالمغرب ، ورغم أن ما كان يجمعهم أكثر بكثير مما كان يفرقهم ، إلا أن مصالحهم في الغالب كانت تظهر وكأنها متضاربة بسبب ممارسات القيادات النقابية وتفشي البيروقراطية التي كانت في الغالب تخضع لمساومة الإدارة وتستجيب لضغوطاتها خدمة لمصالحها الضيقة ، مستغلة الأمية المتفشية بين أغلب العمال وقلة الوعي الطبقي والفكر العمالي ، أما الكونفدرالية الديمقراطية للشغل فكان مجيؤها إلى جرادة جد متأخر ، وكان ظهورها الأول سنة 1981 ، إلا أنها لم تبدأ عملها الفعلي إلا سنة 1985 ، وكان عليها أن تبذل مجهودات جبارة لتشق طريقها وتؤسس قاعدة جماهيرية، استطاعت ك.د.ش. في بدايتها خلق مناخ نضالي ملائم مؤطر بخطاب عمالي تقدمي ، واستقطبت من خلال تجمعاتها المتكررة ونشاط أجهزتها التنظيمية أغلبية العمال . إلا أن الطبقة العاملة بنضالاتها من أجل تحسين أوضاعها المزرية تجاوزت في النهاية ما يسمح به سقف كل النقابات محليا ، وأصبحت هذه الأخيرة بالكاد وعلى مضض تساير الأمر الواقع الذي فرضه عليها العمال بقوتهم العددية ، لهذا نعتت الطبقة العاملة بالفرس الجموح الذي لا يروض .
الإصرار على الإغلاق رغم احتياطي الفحم:
إلى حدود 1982 كانت مفاحم جرادة على ما يرام ، بحيث أتبت دراسة قامت بها الشركة أن الأعماق واعدة، وتتوفر على احتياطي من الفحم يصل إلى 100 مليون طن من الأنتراسيت الجيد ، و توقعت تحسنا في الإنتاج سيصل إلى استخراج مليون طن سنويا ابتداء من 1990، ويمكن إنتاج مليوني طن ابتداء من 1992 ، و كان متوقعا أن حاسي بلال وحده ستصل طاقته الاستخراجية 600000 طن سنويا، وغير هذا كثير من الأرقام المتفائلة. إلا أن تعامل الشركة بدأ فجأة يبدد التفاؤل الذي أقرته هذه الدراسة، والبداية دشنت بتسريح عدد من العمال سنة 1989 واجهته الطبقة العاملة بإضراب بطولي دام طويلا، خوفا من أن تتسع حملة الطرد، وكانت له أبعادا دولية، بحيث زار المدينة الكاتب العام للمنظمة العالمية للمنجميين مرفوقا بمحامية أجنبية، ووقفا على أوضاع العمال عن كثب ، مما جعل الدولة تتراجع عن قراراتها ، وتم إرجاع المطرودين.
إلا أن العزم على إغلاق الشركة بلغ أوجه سنة 1997 حيث كان العمال ينزلون إلى الباطن ، ولا يجدون مستلزمات ومعدات العمل، وأصبح وجودهم كعدمه ، وكان القصد هو تسريحهم والتخلص منهم بطرق ملتوية بدعوى أن الشركة أفلست، واعتبر أبناء المدينة أن إغلاق الشركة هو عبارة عن مؤامرة مدبرة ، ويجب محاكمة المسؤولين عن إفلاسها رغم أن الكثير استبعد هذا الإفلاس ، لاحتياطات الفحم الكبيرة التي كشفت عنها الأبحاث، إلا أن الاحتجاجات العنيفة، والاعتصام البطولي الذي نفذه العمال ،بإحدى الفضاءات التابعة للمنجم ، وهو المغسل بحاسي بلال ، والأحداث العنيفة التي سادت كل أرجاء المدينة ، فرضت الحوار على المسؤولين .ليتم في النهاية بتاريخ 17 فبراير 1998 وضع اتفاقية بشقين اقتصادي، واجتماعي ،انطوت على العديد من العيوب ستكون لها هي الأخرى انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة . وتم تنفيذ الشق الاجتماعي ، إلا أن الشق الاقتصادي كبديل عن الفحم تم إهماله ، وتم تهميش المدينة . أما العمل في آبار الفحم لاستخراج بقايا الفحم بعد الإغلاق، فلم يكن سوى تأجيل للأزمة الناتجة عن مؤامرة تسريح حوالي 7000 عامل ، وتبديد ممتلكات شركة كبيرة عمرت لسنوات والتي أدت حتما إلى اندلاع الحراك .
وكان من نتائج الإغلاق ارتقاع معدل البطالة الذي وصلت نسبته إلى 8،37 % وهو أربعة أضعاف المعدل الوطني، منها 5،30 % بالنسبة للذكور ، و1،63 %بالنسبة للإناث ، ضعف الرواج التجاري رغم أن التجارة هي النشاط الثاني بعد الفحم إلا أنها مرتبطة بإنتاجه .فشل فك العزلة على المدينة لضعف التجهيزات والبنية التحتية المنجزة لحد الآن ، وارتفاع نسبة الفقر والأمراض الاجتماعية بسبب التهميش الطويل الأمد، كترويج المخدرات وتعاطيها، واستشراء الانتهازية. انتشار الداء المهني السيليكوز. ظهور متاعب جديدة في إنتاج الفحم بالنسبة لعمال السندريات، لصعوبة استخراج ما تبقى منه، وهو ما يعد شبه إغلاق ثان لمفاحم جرادة. هذه العوامل وغيرها هي التي أدت إلى اندلاع الحراك.
نبدة بسيطة عن الحراك :
بدأت الشرارة الأولى للحراك يوم21/12/2017 بالاحتجاج على فواتير الماء والكهرباء، وهو ما أدى إلى اعتقال ثلاثة شبان، وأطلق سراحهم يوم الجمعة 22/12/2017 بعد وفاة العاملين دعيوي الحسين ودعيوي جدوان، التي أدت إلى مزيد من الاحتقان ،واستمرر الحراك لعدة شهور .
ورغم أن حراك جرادة لقي تعاطفا كبيرا، وتغطية إعلامية على الصعيد المحلي والجهوي والوطني ،وحتى الدولي، إلا أن الجماهير أرادت له أن يكون مستقلا على الإطارات السياسية والنقابية والجمعوية .
وتميز الحراك بسلميته ، ونفسه الطويل ، ومساهمة جميع شرائح الساكنة فيه ،ووفرة وتنوع أشكاله النضالية ، وبحضور العنصر النسوي الوازن في جميع محطاته : الشيء الذي استفز المخزن . وبعد صدور قرار المنع يوم 13/03/2018، الذي منع كل أشكال الاحتجاج بالأماكن العمومية بالمدينة ، نقل العمال احتجاجاتهم إلى الغابة بالقرب من آبار الفحم يوم الأربعا14 /03/2018، إلا أن استفزازات القوات العمومية ، أدت إلى مواجهات عنيفة ، وإصابات متفاوتة الخطورة بين قوات الأمن والمحتجين .واتخذها المخزن كذريعة لعسكرة المدينة بشكل مستفز ولا مثيل له، وبدأت سلسلة الاعتقالات العشوائية في غالبيتها ليصل عدد المعتقلين إلى ما يفوق 73 معتقلا ، من بينهم قاصرون، ومصابين بإعاقات ذهنية ، ولتبدأ المحاكمات بملفات مفبركة , وبتهم ثقيلة ، كان لها الأثر العميق على الأسر التي فقدت معيليها ، أو تلك التي لا تسمح إمكانياتها الضعيفة ، من متابعة معتقليها ، ولا بتوفير أبسط متطلباتهم . وعانى المعتقلون من ثقل التهم وقساوة الأحكام التي بلغت عشرات السنين، وسوء المعاملة في السجون ، مما دفع الكثيرين إلى خوض احتجاجات ، من داخل السجون كالإضراب عن الطعام.
تبخر وعود الدولة بتنمية المنطقة :
وفق المفاوضات مع المسؤولين الذين زاروا جرادة إبان الحراك، فقد تم إغراق المطالب بمائة بند، مما عوم المطالب الحقيقية الرئيسية وشوش عليها، في نظر المحتجين، وجعل رد الحكومة ومقترحاتها غي مقنعة بالنسبة إليهم.
وهذا بعض ما جاء في مقترحات الحكومة :
ـ سحب رخص استغلال الفحم من أصحابها لعدم التزامهم بدفتر التحملات.
ـ إنجاز دراسة لقطاع المناجم بالجهة الشرقية لوجود الرصاص، والزنك، والنحاس بها في أفق استغلالها لتنمية المنطقة.
ـ تعبئة حوالي 2.5 مليون درهم لفائدة الخلية القانونية المكلفة بالتنسيق مع صندوق التقاعد والتأمين، من أجل تيسير ملفات الأمراض المهنية لمستخدمي شركة مفاحم المغرب.
ـ تعبئة 3000 هكتار من الأراضي، منها 1000 هكتار لذوي الحقوق، و2000 هكتار ستوزع عل الشباب لاستغلالها.
ــ تسهيل تشغيل النساء بإسبانيا في جني الفراولة.
ـ تربية النحل .
ـ انتقال الشباب إلى جهات أخرى كجهة طنجة ، والقنيطرة للاشتغال بها .
ـ توزيع أربعة مصابيح اقتصادية على الساكنة بالمجان.
أما ما أنجز على صعيد الواقع ، فهو :
ـ إنجاز معمل لتنقية الجمبري (الكروفيت ) بغلاف مالي بلغ 11مليون درهم ويشغل 1500 عامل أغلبهم من النساء.
ـ الشروع في تدريب 100 عاملة لإعدادهن للعمل في ورشة نسيج ستقام بالمدينة.
ـ توسيع وإعداد الحي الصناعي لتهييئ فضاء الشباب حاملي المشاريع.
ـ الشروع في فتح صندوق بغلاف مالي يبلغ 150 مليون درهم لدعم الشباب حامل المشاريع.
ـ تكوين تعاونيات للفحم الحجري، وتوزيع حوال 11 دراجة ثلاثية العجلات عليها، لتستعين بها في حمل الفحم …
يبقى ما تم إنجازه لحد الآن غير كاف لتلبية حاجيات المدينة، ورقيها كما كانت عليه أيام مفاحم المغرب بجرادة، خاصة وأن البطالة والفقر لا زالا منتشرين بشكل مهول بالمدينة، ولا زالت المدينة تحتاج إلى الكثير من الجهود لتكون بالمستوى المأمول.
تتبعا لتغطيات مجموعة إميضر 96، صارت احتجاجات إميضر اليوم مرادفا لأطول اعتصام في تاريخ المغرب الحديث، بعدما عمّر ثمان سنوات و ما يزال قائما، رغم تراجع وثيرة وزخم الاحتجاج السلمي من حيث تردد الأشكال الاحتجاجية الموازية للاعتصام المفتوح وعدد الأشخاص المستمرّين في الاحتجاج، في ظل تجاهل الدولة وصمتها وكذا تعنت شركة “مناجم”، كون أغلبية الشروط الموضوعية التي أدّت إلى بروز الاحتجاج مازالت قائمة :
* فشركة معادن إميضر تصرّ على استئناف استغلال المياه الجوفية بمنطقة “تيدسى” التي أوقفتها الساكنة منذ صيف 2011، في ظلّ غموض الوضعية القانونية لهذا الاستغلال وعدم إيجاد موارد بديلة.
* الشّركة ما تزال تستغل، مياه بئر “تارڭيط” منذ 1986 عشوائيا وبشكل مستنزف رغم تضرّر الفلاحة المجاورة له، والبئر محمي من طرف القوات العمومية منذ سنة 2011.
* ما تزال النفايات المنجمية تنتشر بشكل كبير في البيئة وتلوث المحيط بفعل الرياح ومياه الفيضانات، إلى جانب الضجيج الذي تحدثه الآليات ليلا ونهارا، في ظل غياب دراسة مستقلة لتأثير المنجم على البيئة وانعدام اية مراقبة لتسربات الزئبق والسيانور إلى المحيط.
* السلطات المحلية ووزارة الداخلية ترفض انتخاب الساكنة لممثلين جدد عن أراضيها، وتستغلّ نائبين فقدا أهليتهما لمزاولة مهامهما، أحدهما تم عزله من طرف السلطة نفسها قبل بضع سنوات والآخر فقد الشروط القانونية المتعلقة بصفة ممثل الأراضي ومتابع قضائيا من طرف جماعته التي يمثلها.
* إقصاء اليد العاملة المحلية من الشغل بالمنجم مع إعطاء الأولوية لأبناء العمال الحاليين (أغلبهم ليس من إميضر) على أساس اتفاق بين الشركة ونقابة العمال..
* حرمان إميضر من نصيبها من الثروة التي تستخرج من أراضيه وضعف البنيات التحتية المتعلقة بالصحة، التعليم، المواصلات وجل المرافق العمومية الضرورية.
* متابعات قضائية في حق عشرات المعتقلين المفرج عنهم على أساس استخلاص تعويضات السجن والغرامات المالية.
وللتذكير فقد تم تسجيل عدم الاستجابة لمطالب الحركة الاحتجاجية التي تعتبر بمثابة مقترحات حلول للمشاكل التي خلفتها الأنشطة المنجمية والسياسات الحكومية الإقصائية، علما أن الساكنة تعبّر دائما عن استعدادها للحوار مع كافة الأطراف المعنية ومناقشة مطالبها التي هي أصلا مطالب باحترام وضمان الحقوق الأساسية التي ينص عليها الفصل 31 من الدستور المغربي.
ولم تقتصر السلطات المحلية والإقليمية على سدّ الطريق نحو الحل بل قامت بفتح لقاءات مع بعض منتخبي المجلس الجماعي الفاقدين للشرعية والمصداقية في محاولة منهم وبتواطؤ مع مسؤولي ” مناجم ” الالتفاف على مطالب الساكنة وفرض مقترحات الشركة عليها، وصولا الى محاولات زرع الفتنة بين الساكنة وتهديد السلم الاجتماعي بالمنطقة، وذلك بالتوقيع على اتفاقية غير قانونية يوم 19 نونبر 2012 مع بعض الانتهازيين من المجلس الجماعي وذوي المصالح الشخصية من السكان المحليين الذين انتحلوا صفة أعيان القبيلة، ورفضت الساكنة مقتضيات هذه الاتفاقية بالكامل.
خلال الأعوام القليلة ما بعد سنة 2013، عرفت القضية تدخّل مجموعة من الشخصيات والهيئات على شكل مبادرات لمحاولة إيجاد حلّ للصراع الاجتماعي القائم، في ظل عجز الحكومة والسلطات المحلية والإقليمية على اعتماد المقاربة القانونية، غير أن هذه المبادرات باءت بالفشل ولم يقم أغلب المبادرين بتقديم أية توضيحات حول الأمر للمحتجين او للرأي العام، فيما بدا وبالملموس أن شركة مناجم تحاول بشكل مستمر مساومة ملف حقوق الساكنة بتمكينها من استئناف استغلال الموارد الطبيعية (الماء، الرمال والأراضي…) مقابل امتيازات اجتماعية وبعض المبالغ المالية.
بعد إحداث جهة درعة تافيلالت ضمن اعتماد الجهوية الموسعة، وكذا تغيير المجلس المسير لجماعة إميضر الترابية سنة 2016، عملت حركة إميضر على تجديد أساليبها التواصلية مع مختلف الأطراف المعنية بملف إميضر الحقوقي، ودخلت في سلسلة من اللقاءات التواصلية انطلاقا من سنة 2017 مع كل من: رئيس ومكتب جماعة إميضر الترابية، رئيس مجلس جهة درعة-تافيلالت، مستشارين لوزير الطاقة والمعادن ( السيد اعمارة)، لقاء مع وزير الطاقة والمعادن السيد الربّاح ثم لقاءات مع مدير من مجموعة مناجم السيد إسماعيل أقلعي.
لقد عبّر كلّ هؤلاء المسؤولين عن استعدادهم للانخراط في عملية تسوية ملف إميضر الحقوقي، كلّ من موقعه وعلى أساس صلاحياته، خلال لقاءاتنا معهم في الفترة الممتدة بين بداية 2017 وأواخر سنة 2018، غير أن إدارة منجم إميضر والسلطات المحلية والإقليمية أفشلت هذا المسلسل التواصلي من جديد، إذ رفض عاملا إقليم تنغير الحالي والذي سبقه طلبنا للقائه في مناسبتين، نفس الشيء بالنسبة لمدير شركة معادن إميضر..
اليوم، وفي غياب أية إرادة حقيقية لدى الدولة لتسوية هذا الملف الحقوقي الواضح، يظل الاحتقان الاجتماعي قائما مع استمرار خرق حقوق المواطنين، تدمير بيئتهم وتهميشهم، وبالتالي استمرار الصراع الاجتماعي وما يخلفه من انعكاسات سلبية على أمن المجتمع واستقراره، ومعه تستمرّ مقاومة السّكان دفاعا عن أرضهم، عن حقّهم في الماء والعيش الكريم.