الثقافة

فرانز كافكا على لوحة والِدَيّ

◆ محمد نايت دراع

الخروج‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬مغامرة،‭ ‬لقد‭ ‬تحول‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬خطير،‭ ‬يعج‭ ‬بالموت‭ ‬والموتى،‭ ‬بالمصابين‭ ‬والمرشحين‭ ‬للإصابة،‭ ‬ومهربي‭ ‬الجثث‭ ‬البشرية‭ ‬والقراصنة،‭ ‬وبات‭ ‬الهلع‭ ‬يزحف‭ ‬من‭ ‬النوافذ‭ ‬وأزرار‭ ‬الإنارة،‭ ‬بالبيوت،‭ ‬وعلب‭ ‬الحليب‭ ‬والسجائر،‭ ‬والسردين،‭ ‬وقطع‭ ‬النقود،‭ ‬ومفاتيح‭ ‬المنازل‭.‬

  ‬لأزيد‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬وأنا‭ ‬أكتفي‭ ‬بمكالمات‭ ‬هاتفية‭ ‬قصيرة‭ ‬مع‭ ‬أمي‭ ‬وأبي‭ ‬للاطمئنان‭ ‬على‭ ‬حالهما،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أستطيع‭ ‬زيارتهما‭ ‬بسبب‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬فيه‭ ‬خفاش‭ ‬متهور،‭ ‬ذلك‭ ‬الأسود‭ ‬الهرم،‭ ‬الشبح‭ ‬الداكن‭ ‬العينين،‭ ‬المجرد‭ ‬من‭ ‬حبات‭ ‬الجمال‭ ‬والزينة‭.‬

فرانز‭ ‬صديقي،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬زيارة‭ ‬والِدَيّ‭ ‬كما‭ ‬تعلم،‭ ‬وكما‭ ‬تعودت‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬أيام‭ ‬السبت‭ ‬والأحد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭! ‬لكن‭ ‬لن‭ ‬أخفيك‭ ‬لقد‭ ‬اشتقت‭ ‬إليهما‭ ‬يا‭ ‬فرانز‭.‬

‭ ‬يا‭ ‬الله‭ ‬لربما‭ ‬أصبت‭ ‬بالهذيان،‭ ‬وإلا‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬فرانز‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يحصل‭ ‬لي،‭ ‬وبأي‭ ‬حق‭ ‬أحشر‭ ‬أنف‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كورونا‭ ‬اللعين؟‭ ‬هو‭ ‬قال‭ ‬كلامه‭ ‬وانصرف،‭ ‬فمن‭ ‬شاء‭ ‬آمن‭ ‬به‭ ‬ومن‭ ‬شاء‭ ‬كفر‭ “‬الخروج‭ ‬من‭ ‬المنزل‭ ‬مغامرة‭”‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يكفي‭. ‬

قبل‭ ‬يومين‭ ‬وأنا‭ ‬أتحدث‭ ‬كالعادة‭ ‬مع‭ ‬أمي‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬سألتني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينقطع‭ ‬الخط‭:‬

‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬امتد‭ ‬هذا‭ ‬الحجر‭ ‬لشهور‭ ‬طويلة‭ ‬يا‭ ‬بني‭…‬؟‭ ‬أيعني‭ ‬هذا‭ ‬أنك‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬زيارتي‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬المدة‭ ‬كلها‭… ‬ثم‭ ‬أطردت‭: ‬سأشتاق‭ ‬إليك‭…‬؟

سؤال‭ ‬أمي‭ ‬درس‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬درس‭ ‬قاس‭ ‬ومحرج‭ ‬وصعب،‭ ‬أشبه‭ ‬بأسئلة‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬زمن‭ ‬كانت‭ ‬الجامعة‭ ‬جامعة‭ ‬فعلا،‭ ‬والعلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬علاقات‭ ‬دولية‭ ‬حقا،‭ ‬وحيث‭ ‬الصراع‭ ‬والحروب‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الأزمات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬والأحلاف‭ ‬كانت‭ ‬واضحة،‭ ‬تشن‭ ‬ببوارج‭ ‬حربية‭ ‬وطائرات‭ ‬مقاتلة‭ ‬وغواصات،‭ ‬وسفن‭ ‬حربية‭ ‬تجوب‭ ‬السواحل،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬يحارب‭ ‬من؟‭ ‬ومن‭ ‬أي‭ ‬ثقوب‭ ‬تتسرب‭ ‬هذه‭ ‬الجراثيم‭ ‬القاتلة،‭ ‬ومن‭ ‬يقف‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬البيولوجية‭ ‬المقيتة،‭ ‬وماذا‭ ‬ينتظر‭ ‬الإنسان‭ ‬فوق‭ ‬هذه‭ ‬الكرة،‭ ‬الدفن‭! ‬حتى‭ ‬الدفن‭ ‬يا‭ ‬فرانز‭ ‬أضحى‭ ‬عملا‭ ‬شاقا‭ ‬ومختلفا‭.‬

  ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬ما‭ ‬العمل‭ ‬إذن؟‭ ‬إزاء‭ ‬هاته‭ ‬الوضعية‭ ‬المشكلة،‭ ‬وهذا‭ ‬الاختبار‭ ‬الذي‭ ‬طمرته‭ ‬أمي‭ ‬في‭ ‬صدري‭ ‬كإسفين،‭ ‬سؤالها‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬منذ‭ ‬الوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬سؤالا‭ ‬لن‭ ‬تنفع‭ ‬معه‭ ‬تحذيرات‭ ‬كافكا‭ ‬من‭ ‬الخروج،‭ ‬ولا‭ ‬السخرية‭ ‬المريرة‭ ‬من‭ ‬كوفيد‭ ‬19‭ ‬المدمر‭. ‬

  ‬المرء‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬يتمنى‭ ‬لو‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬حشرة‭ ‬عشب‭ ‬مضيئة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬فأر‭ ‬صغير،‭ ‬وأين‭ ‬العيب‭ ‬في‭ ‬ذلك؟‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬يتحرك‭ ‬المرء‭ ‬دون‭ ‬قيود،‭ ‬وبحرية‭ ‬خارج‭ ‬المنزل‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬قوائم،‭ ‬دون‭ ‬ريبة‭ ‬ولا‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬أعين‭ ‬وسجن‭ ‬الشرطة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬ضربة‭ ‬غادرة‭ ‬من‭ ‬كوفيد،‭ ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬غاياتك‭ ‬البسيطة‭.‬

‭ ‬عبرت‭ ‬ذهني‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الخيالات‭ ‬وأنا‭ ‬أفكر‭ ‬بجد‭ ‬كيف‭ ‬أخرق‭ ‬هذا‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭ ‬لفائدة‭ ‬أمي‭ ‬وأبي‭ ‬ولقلبيهما‭ ‬الهشين‭.‬

‭ ‬هكذا‭ ‬دبرت‭ ‬الأمر‭ ‬ليلا‭ ‬وفي‭ ‬السر،‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الإجراءات‭ ‬الأمنية‭ ‬المشددة‭ ‬خلال‭ ‬الأيام‭ ‬الأخيرة‭ ‬والجولات‭ ‬الليلية‭ ‬لدوريات‭ ‬الشرطة‭ ‬وضرباتها‭ ‬الخاطفة‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭..‬

‭ ‬وأنا‭ ‬أهم‭ ‬بالخروج‭ ‬تعثرت‭ ‬في‭ ‬الظلمة‭ ‬بحذائي‭ ‬الجديد،‭ ‬أما‭ ‬الأول‭ ‬فقد‭ ‬تمت‭ ‬سرقته‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬بعدما‭ ‬تعودت‭ ‬تركه‭ ‬خلف‭ ‬الباب،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يختبئ‭ ‬الفيروس‭ ‬اللعين‭ ‬أسفل‭ ‬الحذاء،‭ ‬سحبت‭ ‬المعطف‭ ‬من‭ ‬خزانة‭ ‬الملابس‭ ‬بحذر‭ ‬مشوب‭ ‬بالتوجس،‭ ‬فحتى‭ ‬الملابس‭ ‬صارت‭ ‬مصدر‭ ‬شك‭ ‬ورعب،‭ ‬تخيلته‭ ‬معطف‭ ‬ذلك‭ ‬العجوز‭ ‬السبعيني‭ ‬المتقاعد‭ ‬من‭ ‬صفوف‭ ‬الجيش‭ ‬الايطالي،‭ ‬المسكين‭ ‬توقفت‭ ‬حياته‭ ‬لأنهم‭ ‬أوقفوا‭ ‬إمداده‭ ‬بالأوكسجين‭ ‬لأجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬حياة‭ ‬شخص‭ ‬أخر‭ ‬مصاب،‭ ‬لكنه‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬سنا،‭ ‬الأوغاد‭ ‬باعوا‭ ‬معطفه‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬هلا‭ ‬فهمتم‭ ‬الآن‭ ‬لماذا‭ ‬أنا‭ ‬متوجس‭ ‬من‭ ‬المعاطف‭ ‬والأحذية‭ ‬ومن‭ ‬المختبرات‭ ‬ومن‭ ‬الغربان‭ ‬والخفافيش‭ ‬ومن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة‭.‬

‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬طويت‭ ‬المسافة‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬والِدَيّ‭ ‬رغم‭ ‬بعدها،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بحوزتي‭ ‬ترخيص‭ ‬لهذه‭ ‬الغرض،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬للمسؤولين‭ ‬مثلا‭ ‬قبل‭ ‬الخروج‭: ‬أحتاج‭ ‬ترخيصا‭ ‬لزيارة‭ ‬أمي‭ ‬وأبي‭!! ‬كلا‭ ‬لم‭ ‬أفعل،‭ ‬وأريدكم‭ ‬أن‭ ‬تصدقوني‭ ‬لم‭ ‬أفعل،‭ ‬فمتى‭ ‬كان‭ ‬المرء‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ترخيص‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬زيارة‭ ‬أمه‭ ‬أو‭ ‬أبيه؟‭ ‬لهذه‭ ‬تسللت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الساعة‭ ‬المتأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬لزيارتهما‭ ‬في‭ ‬منزلهما‭ ‬بضاحية‭ ‬المدينة،‭ ‬أمشي‭ ‬بعينين‭ ‬مغمضتين،‭ ‬فأنا‭ ‬أعرف‭ ‬الطريق‭ ‬مثلما‭ ‬اعرف‭ ‬أصابع‭ ‬يدي،‭ “‬يقضا‭ ‬مثل‭ ‬حمار‭ ‬الوحش‭ ‬وككلب‭ ‬الصيد‭ ‬ملفوفا‭ ‬خفيف‭”‬،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬ذاهبا‭ ‬لتفجير‭ ‬ماسورة‭ ‬بترول،‭ ‬ولكنني‭ ‬أريد‭ ‬زيارة‭ ‬أمي‭ ‬وأبي‭ ‬وفقط‭ ‬،‭ ‬قطعت‭ ‬الأزقة‭ ‬والدروب‭ ‬المظلمة،‭ ‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬يباغتني‭ ‬الضوء‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬ما،‭ ‬استطعت‭ ‬أن‭ ‬اقطع‭ ‬المسافة‭ ‬في‭ ‬اقل‭ ‬من‭ ‬ساعة،‭ ‬سررت‭ ‬جدا‭ ‬فأبي‭ ‬وأمي‭ ‬صارا‭ ‬أمامي،‭ ‬وربما‭ ‬كانا‭ ‬في‭ ‬انتظاري،‭ ‬واقفين‭ ‬وقد‭ ‬أسندا‭ ‬ظهريهما‭ ‬إلى‭ ‬الحائط،‭ ‬صامتين‭ ‬بعيون‭ ‬مبتسمة،‭ ‬اعرف‭ ‬أن‭ ‬الصورة‭ ‬قاسية‭ ‬جدا‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬مفر،‭ ‬تحية‭ ‬من‭ ‬مسافة‭ ‬قريبة‭ ‬وحديث‭ ‬قصير‭ ‬ثم‭ ‬أعود‭ ‬أدراجي،‭ ‬الاثنين‭ ‬ضلا‭ ‬جامدين‭ ‬في‭ ‬مكانهما‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬ينبسا‭ ‬ببنت‭ ‬شفة،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭ ‬فتحت‭ ‬ذراعي‭ ‬أحضنهما،‭ ‬وأقبل‭ ‬يديهما‭ ‬،‭ ‬ذهلت‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬منهما‭ ‬أحس‭ ‬بوجودي‭ ‬بينهما،‭ ‬لحظتها‭ ‬تناهى‭ ‬إلي‭ ‬صوتهما‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬معذرة،‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نخرج‭ ‬أيدينا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬لمصافحتك‭ ‬ولمعانقتك،‭ ‬نظرت‭ ‬إليهما‭ ‬بأسى،‭ ‬وبيدين‭ ‬مرتعشتين،‭ ‬أعدت‭ ‬تثبيت‭ ‬اللوحة‭ ‬على‭ ‬الجدار‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬نومي،‭ ‬لوحة‭ ‬كانت‭ ‬هدية‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬قديم،‭ ‬بحذر‭ ‬خلعت‭ ‬معطف‭ ‬العجوز‭ ‬الايطالي‭ ‬وبحذر‭ ‬شديد‭ ‬أطفأت‭ ‬الأنوار‭ ‬وتسللت‭ ‬إلى‭ ‬فراشي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أعقم‭ ‬أصابعي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬زر‭ ‬الإضاءة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى