الافتتاحية

الربط الجدلي بين مقاومة الاستبداد ومقاومة الانحراف

افتتاحية العدد 329

هناك‭ ‬مقاربتان‭ ‬للأحداث‭ ‬التاريخية،‭ ‬المقاربة‭ ‬الموضوعية‭ ‬التي‭ ‬يحركها‭ ‬هاجس‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬واستخلاص‭ ‬الدروس‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬الماضي‭ ‬لتجنب‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬أخطائه‭. ‬وهناك‭ ‬المقاربة‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬الحدث‭ ‬عن‭ ‬سياق‭ ‬المرحلة‭ ‬وتفسر‭ ‬حدوثه‭ ‬بالشكل‭ ‬الذي‭ ‬يبرر‭ ‬موقفا‭ ‬أو‭ ‬مواقف‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬الحدث‭ ‬زمن‭ ‬وقوعه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينعته‭ ‬لينين‭ “‬بالتفسير‭ ‬البوليسي‭ ‬للتاريخ‭ “. ‬حيث‭ ‬أنه‭ ‬حينما‭ ‬يقع‭ ‬احتجاج‭ ‬شعبي‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬حكومي‭ ‬مثلا،‭ ‬تنسب‭ ‬التقارير‭ ‬الأمنية‭ ‬السبب‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬محرض‭ ‬أو‭ ‬محرضين،‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬الناس‭ ‬للاحتجاج‭. ‬

مناسبة‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬ما‭ ‬نشر‭ ‬مؤخرا‭ ‬على‭ ‬وساءل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬حول‭ ‬حدث‭ ‬8‭ ‬ماي‭ ‬1983،‭ ‬وفيه‭ ‬تحامل‭ ‬واضح‭ ‬على‭ ‬ضحايا‭ ‬المؤامرة‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬يسار‭ ‬الحركة‭ ‬الاتحادية،‭ ‬بمحاولة‭ ‬تحميلهم‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬لأنهم‭ ‬قرروا‭ ‬التصدي‭ ‬لتوريط‭ ‬الحركة‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬تزكية‭ ‬وتمرير‭ ‬سياسة‭ ‬التقويم‭ ‬الهيكلي‭ ‬سيئة‭ ‬الذكر‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬ما‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬النظام‭ ‬المخزني‭ ‬الاستبدادي،‭ ‬بضغط‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية،‭ ‬أما‭ ‬المشاركة‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مبرمجة،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬أفاضت‭ ‬الكأس‭ ‬كما‭ ‬يقال‭. ‬فالصراع‭ ‬داخل‭ ‬الحركة‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬أبعاد‭ ‬إيديولوجية‭ ‬وسياسية‭ ‬وتنظيمية،‭ ‬ظهرت‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات‭. ‬

ومن‭ ‬دروس‭ ‬التاريخ‭ ‬المعروفة،‭ ‬أن‭ ‬القطائع‭ ‬لا‭ ‬تحدث‭ ‬فجأة،‭ ‬بل‭ ‬تكون‭ ‬تتويجا‭ ‬لصيرورة‭. ‬وحدث‭ ‬8‭ ‬ماي‭ ‬1983‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة،‭ ‬حيث‭ ‬برز‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬التوجهين‭ ‬اليساري‭ ‬واليميني‭ ‬خلال‭ ‬المؤتمر‭ ‬الوطني‭ ‬الثالث،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬بيانه‭ ‬السياسي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬صياغة‭ ‬توفيقية‭ ‬ذكية‭ ‬من‭ ‬المرحوم‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬منع‭ ‬الحكم‭ ‬جريدة‭ ‬المحرر‭ ‬لثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬متوالية‭ ‬بسبب‭ ‬نشره‭. ‬واستمر‭ ‬الصراع‭ ‬وتعمق‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬واقعة‭ ‬الانسحاب‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬البرلمان،‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬الحكم‭ ‬والحزب‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬1981،‭ ‬بعد‭ ‬الإضراب‭ ‬العام‭ ‬لعشرين‭ ‬يونيو‭ ‬لنفس‭ ‬السنة،‭ ‬وما‭ ‬ترتب‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬انتفاضة‭ ‬بالدار‭ ‬البيضاء،‭ ‬والتي‭ ‬قمعت‭ ‬بوحشية‭ ‬وتم‭ ‬اعتقال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناضلين،‭ ‬وإغلاق‭ ‬مقرات‭ ‬الحزب‭ ‬والكونفدراية‭  ‬الديمقراطية‭ ‬للشغل،‭ ‬التي‭ ‬بقي‭ ‬كاتبها‭ ‬العام‭ ‬مهددا‭ ‬بالجنايات‭ ‬طيلة‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬

وكما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬منعطفات‭ ‬حاسمة،‭ ‬اختلف‭ ‬الموقف‭ ‬بين‭ ‬التوجهين‭ ‬داخل‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الهجوم‭ ‬القمعي‭ ‬للحكم،‭ ‬حيث‭ ‬اختار‭ ‬الاتجاه‭ ‬المتنفذ‭ ‬في‭ ‬القيادة‭ ‬التراجع‭ ‬المكشوف‭ ‬عن‭ ‬تطبيق‭ ‬القرارات‭ ‬النضالية‭ ‬المتخذة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الأجهزة‭ ‬التقريرية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬المؤتمر‭ ‬الثالث‭. ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬تجميد‭ ‬التنظيمات‭ ‬الحزبية،‭ ‬خاصة‭ ‬اللجنتين‭ ‬الإدارية‭ ‬والمركزية،‭ ‬وشن‭ ‬حملة‭ ‬تطهيرية‭ ‬طيلة‭ ‬سنتين‭ ‬ضد‭ ‬المناضلين‭ ‬الرافضين‭ ‬للانحراف‭ ‬عن‭ ‬الخط‭ ‬النضالي‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬ومحاولة‭ ‬اختزاله‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬انتخابي‭ ‬مسدود‭ ‬الأفق‭. ‬

ورغم‭ ‬التهديدات‭ ‬والمخاطر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلاحق‭ ‬المناضلين‭ ‬المخلصين‭ ‬لمبادئ‭ ‬الحركة‭ ‬وأهدافها‭ ‬وتضحيات‭ ‬جماهيرها‭ ‬وشهداءها،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬أمامهم‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬غير‭ ‬التصدي‭ ‬للتراجعات‭ ‬والسياسات‭ ‬التي‭ ‬قرر‭ ‬الحكم‭ ‬تمريرها‭ ‬وجر‭ ‬أحزاب‭ ‬المعارضة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬لتزكيتها،‭ ‬أو‭ ‬السكوت‭ ‬عن‭ ‬انتقادها‭ ‬بالضغط‭ ‬والإكراه‭. ‬وقد‭ ‬كشفت‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬الشعبية‭ ‬العفوية‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مدن‭ ‬مغربية‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬يناير1984،‭ ‬صواب‭ ‬تحليل‭ ‬اليسار‭ ‬الاتحادي‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬للتآمر‭ ‬والقمع‭ ‬والحصار،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الحكم‭ ‬رأس‭ ‬الحربة‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬كسره‭. ‬

صحيح،‭ ‬أن‭ ‬الثمن‭ ‬كان‭ ‬باهظا‭ ‬والمعاناة‭ ‬كبيرة،‭ ‬والتضحيات‭ ‬جسيمة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬استفاد‭ ‬خصومنا‭ ‬من‭ ‬مكافآت‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ما‭ ‬قدموه‭ ‬من‭ ‬تغطية‭ ‬لقمعنا،‭ ‬وتحريف‭ ‬للمسار‭ ‬النضالي‭ ‬للحركة،‭ ‬ولم‭ ‬ينتبه‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬مناضلين‭ ‬مخلصين‭ ‬للمشروع‭ ‬التاريخي‭ ‬للحركة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭ ‬وضياع‭ ‬آخر‭ ‬الفرص‭! ‬ولعل‭ ‬مبادرة‭ ‬تقديم‭ ‬مشروع‭ ‬قانون‭ ‬20‭-‬22‭ ‬لتكميم‭ ‬الأفواه‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬وزير‭ ‬العدل‭ ‬الحالي،‭ ‬دليل‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬وأهمية‭ ‬الربط‭ ‬الجدلي‭ ‬بين‭ ‬مواجهة‭ ‬الانحرافات‭ ‬داخل‭ ‬الحركة‭ ‬التقدمية‭ ‬ومحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى