الطبقة العاملة في مواجهة فيروس الطبيعة والرأسمالية
◆ عبد المجيد مصدق
منذ عقود والرأسمالية تتمسك بشعارها “دعه يعمل.. دعه يمر”، كمبدأ اقتصادي يمنع رقابة الدولة على قطاع الاقتصاد الخاص وشركاته، وتعتبر أن منطق العرض والطلب في السوق هو بوصلة تنظيم الأسعار والأجور والعمّال بشكل تلقائي، هذا المبدأ فاقم من أزمة الرأسمالية وفتح الباب للقلّة أن تتملّك الثروات التي تجاوزت موازنات الدولة ذاتها، الأمر الذي أدى إلى ارتباط عضوي بين الرأسمالية وأقطاب الدولة، ومن تم السيطرة على الثروات وترك الأغلبية الساحقة من الناس تحارب وتصارع من أجل ضمان الحصول على الحد الأدنى للقوت اليومي. لقد كشف وباء كوفيد-19 عن عمق البؤس الذي تعانيه الفئات الاجتماعية الفقيرة، والبروليتاريا العالمية، والتي لا زالت ترزح تحت نير الاستغلال والقهر الرأسمالي، كما عرّت الجائحة بؤس جوهر الرأسمالية المتفوقة صناعياً وتكنولوجياً واقتصادياً، وزيف الخطاب المبشر بالرفاهية والتقدم والعدالة الإنسانية وكشفت عن جرائمها التي تقطر دماً من أجساد البائسين الفقراء.
وسيرا على عادة ربط المركز بالمحيط فإن ما ينطبق على الطبقات الشعبية بالمغرب ومنها الطبقة العاملة يسري على أمثالها في جل دول الجنوب وعلى جزء من الطبقة العاملة في دول الشمال والمهاجرين والمجنسين. لقد سقط الخطاب الخشبي والوهمي المعلق على صدر الرأسمالية وجرف معه أدبيات حقوق الإنسان وقدسية الحرية الفردية وحتى تلك الديمقراطية المقننة لمصلحة الطبقة المتحكّمة، أمام امتحان الفيروس القاتل، فقد عجزت الدول الرأسمالية بكل قوّتها العلمية والطبية عن مطاردته وانكشف ضعف قدرتها الفظيع في توفير ادني شروط المستلزمات الإنسانية الطبيّة.
إن هدا الأخطبوط فاقت سرعته سرعة الشركات والكارتيلات العابرة للقارات باحثاً عن ضحاياه، ولم يجد في طريقه تلك القوة العلمية والتكنولوجية التي تشعل الحروب، وتقتل الشعوب بأحدث الأسلحة وتنهب خيراتها، وفي كل صور الواقع بدت الرأسمالية ممثلة بدولها المختلفة، عاجزة عن إنتاج وتوفير الوسائل والإمكانيات والمعدّات الصحية اللازمة لمواجهة الوباء، وهي التي تتمتع بأعلى مستويات البنيات التحتية والتقدّم العلمي والتكنولوجي والبيولوجي، لسبب بسيط كونها رأسمالية متوحّشة وقيمها خارج قيم الإنسانية، لذلك لم تكن معنية بالأساس بتطوير المنظومة الصحّية لأجل حماية الإنسان، ومحاربة الأوبئة والكوارث الطبيعية والصناعية، لقد وجهت الإنتاج العلمي والإبداع التكنولوجي لتحقيق الهيمنة ومراكمة الأرباح، وتحويل الإنسان إلى سلعة في السوق ككل السلع المعروضة للبيع، واشترت العقول والأدمغة الخلاقة لخدمة الرأسمالية وجني المزيد من الأرباح، فإذا كانت الرأسمالية هي صانعة جزء من التقدم العلمي والتقني، فهي صانعة للدمار والخراب كذلك، بفعل عقيدتها في تقديس الربح وسطوة رأس المال على حساب الطبقة العاملة، المحرك الفعلي للدورة الاقتصادية، إن ذلك العجز عن تحقيق متطلبات الإنسان وإنسانيته هو السبب الرئيسي لذلك الإخفاق الكبير الذي واجه الرأسمالية المتوحّشة في محاربتها لهذا الوباء.
إن اجتياح كوفيد-19 ليس له مثيل في التاريخ، فأغلبية سكان المعمور ارتدت الأقنعة الوقائية، حتى لا نقول الطبية لأنها أصبحت عملة نادرة واحتجبت بين الجدران، واعتكف الناس في منازلهم وفقدوا هواية التحرك في الفضاء العام حتى أضحت بعض المدن خالية من الإنسان، مدن أشباح قد يظن البعض أن الإنسان لم يطأها من قبل، تلك هي الأزمة الاجتماعية والنفسية والروحية في زمن فيروس شبح، والذي توسّعت دائرته يوما بعد يوم إلى أن تحولت إلى أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية عميقة، أرخت بضلالها على كل مناحي الحياة ولم يعد بالإمكان فصل أزمة الفيروس وآثاره الاجتماعية الوخيمة عن أزمة الرأسمالية النيوليبرالية المجردة من كل حس إنساني. وبما أن دول الشمال الرأسمالية لم تستطع وقف الجائحة ولا السيطرة عليها فكيف سيكون الحال في دول الجنوب ومنها المغرب؟!!
رأسمالية الدولة في مواجهة الطبقات الشعبية بالمغرب
لقد كانت الطبقة الحاكمة بالمغرب واعية تمام الوعي بضعف وهشاشة البنية الصحية، وبما أن الوباء لم يكن يفرق بين من هم في الفوق أو من هم تحت، فقد اختارت طريقة العزل الشامل والحجر الصحي وربطته بحالة الطوارئ، وبعد ذلك حظر التجول والإغلاق الإلزامي، هادفة من وراء هذه القرارات إلى الخروج من نفق الفيروس بأقل الخسائر لحسابات سياسية أكثر ما هي إنسانية، أهمها الاحتياط من زعزعة النظام السياسي القائم والذي اعترف بفشل نموذجه التنموي، فقد توقّعت الدولة أن تصبح المراكز الطبية في المدن ربما غير قادرة على استيعاب التطورات.
ولأن سياسة الحجر لها تبعات اجتماعية خطيرة، فقد تم إنشاء صندوق لغلق الأفواه الجائعة نتيجة الاعتكاف بين أربعة جدران، وتم بسرعة فائقة طلب الخط المالي الاحتياطي (3 مليار دولار)، والذي كان رهن إشارة المغرب مند مدة من صندوق النقد الدولي، وذلك لإيجاد سيولة شراء المواد الغذائية، والتي لم تستطع الدولة طيلة سبعة عقود من الاستقلال تحقيق الاكتفاء الذاتي منها، ومع مرور الأيام ومن منظور طبقي اتضحت المعاناة بسبب كوفيد-19 على جباه وجيوب الطبقات الشعبية، ابتداء من الجزء الأسفل من الطبقة الوسطى والطبقة الصغرى، رغم التعويضات الهزيلة التي رصدت لهم من الصناديق الاجتماعية، باعتبار اشتغالهم ضمن القطاع المهيكل، أما البقية وهي الشريحة الواسعة من العمال الذين فقدوا أعمالهم والمحسوبين على القطاع غير المهيكل، يضاف إليهم جيش من المياومين والعاطلين والأسر التي تعاني الهشاشة أو الفقر المطلق، فقد كانوا أكثر المتضررين من حالة الطوارئ الصحية، لدرجة أن جزء منهم تمرد عليها غير مبال بالمخاطر، بل يمكن القول أن سياسة خلق صندوق مكافحة الوباء كان هدفها هو إسكات هذه الأفواه برميهم بالفتات، واتضحت للجميع جرائم الاختلالات التي ارتكبها من كانوا يدبرون البلاد والعباد خصوصا في قطاعي الصحة الذي يعاني من خصاص فظيع ومهول والتعليم الذي تراجع بسبب نهب أموال ضخمة من ميزانيته وهدم مدرسته العمومية، واتضح فشل رقمنته، مما أثر على طريقة الدراسة عن بعد بشكل كبير، وخلاصة إنتاجه كما قال الراحل السوسيولوجي محمد جسوس “جيل من الضباع” لا يعرف خطورة الوباء على نفسه وعائلته ومحيطه، كما أن تغول بعض الرأسماليين بعدم قبولهم الإغلاق لحماية العمال من العدوى، واستمرار مقاولاتهم في العمل ودون استعمال الاحترازات الصحية من وسائل النظافة والتعقيم والتباعد الاجتماعي، قد خلق بؤر صناعية للوباء وبالتالي ارتكاب جريمة المس بحياة الإنسان والسلامة الذاتية، ولم يكن لهؤلاء الجرأة على هدا التحدي لولا تواطؤ من يملكون القرار في هدا البلد.
هناك فئة أخرى من الطبقة العاملة تدفع ثمنا أكبر، إنهم أولئك الذين يعملون في الصناعات التي تعتبر ضرورية، مثل إنتاج الغذاء أو صناعة الأدوية، ثم هناك عمال المستشفيات من أطباء وممرضين ومسعفين، والذين كانوا ولازالوا في الصفوف الأمامية لمواجهة الوباء، وكذا عمال النظافة ونظام الصرف الصحي وجمع القمامة، المجبرون على العمل في ظروف فظيعة وصعبة.. إنهم العمال المهددون أكثر بالإصابة بالعدوى، وقد مات البعض منهم وتعرض آخرون للإصابة بالعدوى كما أنه لم يعد بإمكانهم تحمل الضغط النفسي الرهيب الذي يتعرضون له، إذا ما حصل الفشل في الحد من انتشار الفيروس وتطويق الوباء في أمد قصير.
إن هاته الطبقات الشعبية المتضررة من السياسات العمومية والمغلوبة على أمرها، وبعد هذا الدرس القاسي من الوباء، سوف لن تظل مكتوفة الأيدي، خصوصا الطبقة العاملة التي خانتها أو تواطأت ضدها البورصات واللوبيات المنظمة في أكثر من مناسبة مصيرية، لقد ارتفع لديها الحس النضالي في هذه الأزمة، وكانت وستكون في الأفق المنظور الضحية الكبرى لمرور كوفيد-19، وهي واعية بمصيرها الضبابي حول لقمة العيش مستقبلا، والأرقام المؤقتة كفيلة بمعرفة الأفق المظلم فحوالي 113000 شركة أوقفت أنشطتها منذ 15 مارس، وأكثر من 700000 عامل عجزوا عن العمل أو جرى فصلهم نتيجة لذلك، إضافة والى توقف عشرات الآلاف من مناصب الشغل في القطاع السياحي، علما أن التعافي لن يكون سريعا على الأرجح. إن هذه الأرقام توضح بجلاء مدى فداحة الضربة القوية التي تلقتها الطبقة العاملة المغربية، ومن تم فهي مجبرة على خوض معركة الحياة في مواجهة أذيال الرأسمالية المحليين.
فلم يكن يخاف على المغاربة الحالة المتهرئة للمستشفيات والنقص المهول في التجهيزات والموارد البشرية الطبية والتقنية، فقط بسبب كوفيد-19 تعرت الأمور أكثر، حيث وصلت الحالة إلى الأسوأ، والفيديوهات الرهيبة التي تسللت من غرف المستشفيات للنزلاء ضحايا الوباء تكشف هول الأمر، وقد جالت تلك الصور العالم، أنداك فقط تحركت الهواتف من طبقة إلى طبقة ومن سلطة إلى سلطة ومن رئيس إلى مرؤوس، فدبت الحياة جزئيا في الهيكل وتأجلت الحسابات إلى ما بعد العاصفة، والأكيد أن أصحاب تلك الهواتف لم تحركهم الوطنية ولا جسامة المسؤولية، بل الحدود المغلقة المانعة لسفرهم من اجل العلاج كعادتهم في أرقى المستشفيات والمصحات الأوروبية والأمريكية إذا ما زارهم الفيروس اللعين، فوضعية مساواة المرضى بين علية القوم وباقي طبقات الشعب في حالة العدوى والخضوع لنفس بروتوكول العلاج داخل نفس المستشفيات والغرف المهترئة زرعت الرعب في من بيدهم القرار الفعلي، واحتراسا وتجنباً للسقوط بين تلك الجدران تم التحرك بسرعة قياسية، ولو من أجل التنظيف والتنظيم والأكل، وإجراء التحاليل المخبرية على قلتها، وعلاج المصابين بالبرتوكول الدوائي الذي تم اختياره والذي يهم بالأساس مرضى الملاريا، وإنقاذ الأرواح بما هو متوفر من إمكانات، فحتى المساهمة في صندوق مكافحة الوباء لم تكن بأريحية وعن طيب خاطر وبإرادة حرة وحس وطني، بل مجبر أخوك لا بطل، وقد صاحب فرض الحجر الصحي بعض الأخطاء القاتلة، الاختلالات والبطء أو التسرع في تنفيذ بعض القرارات، وهي حالة عامة عاشتها كل دول العالم وتعاملت مع الوضع بارتجالية وتردد نظرا لانعدام الخبرات في هذا المجال وفجائيته، بيد أن نتيجة القرارات الاحترازية المتخذة، ومع الإكراهات المجتمعية من فقر وجهل اللذان هما نتاج الاستبداد السياسي والنماذج التنموية الفاشلة، والخاضعة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، لن يعرف أُكلها إلا بعد نهاية التمديد، والعودة التدريجية للحياة العامة، ورغم سوابق الدولة بعدم أخد الدروس والعبر من الأزمات المجتمعية والصحية، إلا أن الأكيد هو أن مغرب ما قبل كورونا لن يعود بأي وجه من الوجوه، حتى لو أراد المسؤولون نهج سياسية عادت حليمة إلى عادتها القديمة فلن يفلحوا، فالطبقات الشعبية اكتوت بنار الفيروس وتبعاته نفسيا وماديا ومعنويا واستفادت من الدرس القاسي، لأنها أدت الثمن غاليا من قوتها وحريتها، وعانت الحرمان من الفضاء العام، وكادت بعض الأسر أن تموت جوعا في صمت لولا تطوع بعض الشباب وطلب جمع المساعدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لانقاذ ما يمكن إنقاذه، فمن الوارد أن يستغل المدبرون لهذه البلاد نجاح ونجاة المجتمع من الوباء بأقل الخسائر لكي يوطدوا استبدادهم، لكن الأهم هو حصول انسجام بين من هم تحت، وعلى القوى الحية والديمقراطية والتقدمية أن تتكل وسط هاته الظرفية، قبل أن تصبح في مهب الريح رفقة الطبقة العاملة، من أجل فرض مطالب التغيير من أجل الصالح العام، بكل الطرق والوسائل، والتخلي عن أنانية امتلاك البديل الوحيد ونبذ الحساسيات الفكرية والسياسية والقبلية التي تفرق اللحمة الوطنية، إن الركود الاقتصادي قد حل فوق الرؤوس ومئات الآلاف من مناصب الشغل قد أصبحت في خبر كان، خصوصا وأن وضعية المغرب الاقتصادية كانت صعبة قبل الوباء بفعل النهب والتبذير وسوء التدبير وارتفاع المديونية وفوائدها، وستضاف إليها وضعية الجفاف، ونسجل النقص المنتظر لسيولة المهاجرين والذين كان 70 في المائة منهم يحولون حوالي ربع مداخليهم السنوية للمغرب، دون نسيان آثار الوباء على القطاع السياحي ومجالات التصدير.
بين رأسمالية كورونا و الحقوق المهضومة للطبقات
إن فيروس كورونا المستجد الذي أفقر الطبقات وأغلق الحدود البرية والجوية والبحرية رغم شروره القاتلة، إلا أنه قد أنصف الضعفاء من الدول في مواجهة القوى العظمى، فساوى بين الفقراء والطبقات العليا في كل المجتمعات، وأضحى اسمه على كل لسان من بكين إلى واشنطن، ومن أسلو إلى جوهانسبورغ، كما أصبح الحاكم الفعلي الذي استطاع إفراغ الساحات والشوارع والشواطئ، وتطويق المدن وفرض على الجميع الحجر وحضر التجول، ووضع ميزان المساواة بين الدول والطبقات والأعراق، مع أنه ليس إلا شبحا ناقلا للخوف والرعب والموت يحبس الأنفاس بدون حساب ولا عقاب..
إن الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولون مباشرة عن الكوارث التي تجتاح العالم، بما فيها الكوارث الطبيعية، فالعلاقة بين غضب وكوارث الطبيعة والنشاط الرأسمالي هي علاقة اطرادية، فكلما تدخّل الإنسان في قانون الطبيعة كلما تحركت قوى الطبيعة لتفرض قانونها الجديد، عبر موجات الكوارث والزلازل والحرائق والفيروسات… الخ، وما خروج أمريكا من اتفاقية “كيوتو” للمناخ إلا إقرارا بدورها الكارثي اتجاه الأرض والإنسان.
وفي هذا الصدد وبعيدا عن لغة المؤامرة، فمن غير المستبعد علمياً أن تكون الدول الرأسمالية وراء انتشار الفيروس، قصداً أو بغير قصد، والزمن كفيل بإظهار الحقيقة، فلها القدرة العلمية، لصناعة وإنتاج الفيروسات والجراثيم والبكتيريا والأوبئة في المختبرات البيولوجية السرية العسكرية منها والمدنية، ونقلها إلى ساحة المعارك، ولأن التاريخ هو عبارة عن دروس نستخلص منه الأحداث، ففي سنة 1763 استخدمت القوات البريطانية السلاح البيولوجي للقضاء على القبائل الهندية، عبر إرسال الأغطية والمناديل الملوّثة بالجُذري إلى رؤساء القبائل، والقوات اليابانية استخدمت القنابل التي تحتوي على البراغيث الناقلة للطاعون ضد القوات الصينية عام 1940، والجمرة الخبيثة تسربت سنة 1979 من المركز البيولوجي العسكري في “سفيردولفسدك” بتشيرنوبل في روسيا، وقبلها الجمرة الخبيثة التي استخدمت في حرب فيتنام من قبل الولايات المتحدة، والأسلحة الكيماوية أثناء غزو هذه الأخيرة للعراق، وكل هذا لا ينفي أن يكون الأمر طبيعيا حسب علماء الأوبئة و خبراء الصحة والبيولوجيا، ففي الوقت الذي يؤكدون فيه على أن فيروس كوفيد-19 ليس من صنع الإنسان أو معدلاً جينيا لأنه لا يوجد في التركيب الجيني للفيروس ما يشير إلى أنه تم التلاعب به في مختبر أو تصنيعه مختبريا، يبقى أيضا احتمال أن يكون الفيروس تسلل خطأ من أحد المختبرين في ووهان واردا إلى أن تنجلي الغيوم عن الكارثة، كما يروج الإعلام الأمريكي مؤخرا، أو احتمال التسرب عبر مختبرات أمريكية..
إن كل هذه الفيروسات كانت متواجدة منذ قرون، وتصيب بشكل أساسي الحياة البرية، كالخفافيش والجمال في آسيا وإفريقيا، في مرحلة لاحقة وقعت لها طفرة وتحولت واكتسبت القدرة على إصابة البشر أيضا، هذه الأمراض أصبحت أوبئة لأن حاجة الرأسمالية المتوحشة لأراض جديدة بغية استغلالها دفعت بالتطور البشري إلى مناطق إحيائية غير مستقرة بعد، معطلة النظم البيئية الطبيعية، ومعرضة الناس لحيوانات تحمل هذه الأمراض الجديدة.
فلا يمكن الجزم أو القطع بأن هذه ليست “ظاهرة طبيعية”، بل هي تداعيات محددة لحرب الرأسمالية الدائمة على الطبيعة، والتي تسببت بتغيير المناخ، وإزالة الغابات، والتصحر وتلوث الهواء والمياه وأحدثت خللا في النظام الفيزيائي لكوكب الأرض ومن تم مس الضرر الكائنات الحية.
إنه من الطبيعي أن يؤثر فيروس من هذا النوع الخفي على الاقتصاد، لكن عمق الأزمة الحالية وسرعتها يعكسان أيضا التناقضات الهائلة التي تراكمت داخل النظام الرأسمالي، والذي صارت بنيته هشة جدا إلى درجة أنه حتى أقل هزة يمكنها أن تسقطه مثل جائحة كوفيد-19.
وبسبب هذا الوباء تم اتخاذ التدابير الاحترازية في أغلب دول العالم والعزل الشامل والحجر الصحي والتجميد والتطويق خاصة بعد فرض إجراءات الإغلاق الكامل أو الجزئي في العديد من الدول وتوقف حركة التنقل عبر الحدود البرية والبحرية والمجال الجوي، وكان لهذه التدابير الصحية أثر كبير على الحركة الاقتصادية في كل دول العالم حتى التي لم يصلها الوباء، حيث توقف أو تقلص بشكل كبير نشاط عدد كبير من الشركات والمقاولات بكل أصنافها وأنواعها، وتراجعت التجارة الدولية والطلب الداخلي والخارجي والاستثمار، إلى مستويات كارثية، وبالتالي كان أول ضحايا تداعيات الوباء، الطبقة العاملة سواء التي تخضع للنظام المهيكل بقوانينه الاجتماعية والتي تصرف لها الصناديق الاجتماعية اقل من الحد الأدنى للأجور كتعويض عن فقدان الشغل، أو أولئك المياومون والعرضيون الذين يعملون في القطاع غير المهيكل وغيرهم الذين لا يتوفرون على أي ضمان اجتماعي وصحي، وأصبحوا بدون أي مصدر دخل، كما أن لأزمة فيروس كورونا تأثير مدمر على العمال وأصحاب العمل في جميع القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، إذ يتعرض العاملون في الخدمات الأساسية مثل الصحة والاستجابة للطوارئ في الخطوط الأمامية لخطر الإصابة بالعدوى في كل الدول، كما أن عمال البقالة ومضيفي الطيران والعمال المستقلين هم أيضا من بين من تهددت صحتهم ومعيشتهم جراء الوباء.
لقد أفرز الوباء الصورة الحقيقية لأصحاب عقيدة الشر والجشع فكانت أهم عناوين العقلية الرأسمالية المجردة من الحس الإنساني والتي تقدس المال قبل الإنسان:
* عدم قبول الإغلاق الشامل وترك مؤسساتهم الإنتاجية تعمل بطاقتها العادية.
*عدم احترام الاحترازات الصحية في أماكن العمل.
* تلاعبات ووعود ضبابية لتأجيل القروض وفوائدها.
* نهج سياسة القطيع لحل المشاكل المالية المزمنة للصناديق الاجتماعية واستهداف العمال المتقاعدين في البلدان ذات قاعدة الهرم الشائخة.
* المس بحقوق الشغيلة بالسلامة الجسدية والصحية والحياتية والمعيشية.
الطبقة العاملة عالميا من خلال المأساة الإيطالية
تبرز الأزمة الحالية، الطبيعة الطبقية الحقيقية للمجتمع الحالي، وجميع البلدان التي تأثرت بانتشار فيروس كورونا، فقد شهد العالم كيف أن الرأسماليين وسياسييهم استهانوا بخطورة الفيروس في البداية، مقدمين المصالح المادية على ما عداها، بدءا بإيطاليا وإسبانيا تم فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وسنكتفي هنا بالنموذج المأساوي الذي وقع بايطاليا.
لقد كان لجشع الرأسماليين الإيطاليين يد كبرى في المأساة التي عرفها هذا البلد العريق، بعد أن أصروا بتواطؤ مع لوبيات التشغيل على أن تظل آلة الإنتاج مستمرة رغم اجتياح الشبح القاتل، وبما أن الاتصال الوثيق عامل رئيسي في انتشار الفيروس، فقد كان من الواضح لجميع العمال أنهم سيتعرضون للخطر بسبب إجبارهم على الذهاب إلى العمل. فإذا نظر المرء إلى خريطتين، واحدة لتركيز حالات الإصابة المسجلة، والأخرى لتركيز المصانع في مختلف أجزاء إيطاليا، سيتضح له بشكل كامل أن هناك ارتباط بين الاثنين، فلومباردي هي المنطقة الأكثر تصنيعا في إيطاليا، وتعرف منطقة بيرغامو وبريشيا أحد أعلى تركزات المصانع، هاتان المقاطعتان هما اللتان تعيشان في الوقت الحاضر أسوأَ الكوابيس، مع أعداد هائلة من القتلى. إنها المكان الذي شاهد فيه العالم بأسره الشاحنات العسكرية وهي تأخذ التوابيت بعيدا لأن المقابر المحلية لم تعد قادرة على تحمل المزيد، حيث كانت النسبة الأكبر من العمال، فكان لهذه المشاهد تأثير كبير على نفسية ملايين الناس في إيطاليا والعالم اجمع، إضافة إلى أن ايطاليا كانت ضحية للشوفينية المتجذرة في الاتحاد الأوربي، والذي لم يعد اتحادً أمام الوباء وترك إيطاليا تواجه مصيرها لوحدها.
إن الخاسر الأكبر من تدعيات كوفيد-19 حسب منظمة العمل الدولية، هي الطبقة العاملة التي حرمت هذه السنة من الاحتفال بعيدها الأممي، حيث سيفقد العالم ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل، من بينها 5 ملايين في الدول العربية.
مع تعمق الأزمة الاقتصادية أكثر، وتأثيراتها الاجتماعية المباشرة على الطبقة العاملة، بدأت تتجدد نبرة الحديث عن الاشتراكية، كحل جذري للأزمة، دون مواربة أو خوف. وبلمحة بصر، تحولت أجزاء من أدبيات “رأس المال” عند “ماركس” إلى مراجع اقتصادية صالحة لخروج النظام الرأسمالي من أزمته، بأفكار اشتراكية وبعقلية رأسمالية، وليتم توظيفها واستخدامها في جملة من القرارات بصورة مجتزئة ومشوهه، كمحاولة منها لإنعاش اقتصاد السوق، وعلى الرغم من كل الدعاية البرجوازية، التي ربما صدقها بعضهم، فإن الطبقة العاملة لم تختف، بل العكس هو الصحيح، إذ أن الطبقة العاملة لم تكن في أي وقت مضى بهذه القوة العددية كما هي اليوم، حيث يبلغ عدد القوى العاملة العالمية حوالي 2,5 مليار، بينما يبلغ عدد عمال الصلب لوحدهم حوالي 400 مليون. ويدرك البرجوازيون جيدا حقيقة أنه لا يمكن كبح مثل هذه القوة الضخمة بواسطة القمع وحده، فالحركات الاحتجاجية قادمة لا محالة بفعل الآثار السلبية للوباء على القوت اليومي للطبقة العاملة، وأي تصعيد زمني سيزلزل الرأسمالية، خصوصا وأنها جربت كل الوصفات العلاجية وفقدت بوصلة الطريق، وها هي تسقط في براثن الركود الاقتصادي والمالي بفعل فيروس شبح.