الطبقات الاجتماعية الحضرية في المغرب
André Adam, Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée Année 1970 8 pp. 223-238
André Clément Henri Adam (1911 – 1991) باحث وعالم كولونيالي فرنسي في علم الاجتماع مهتم بالآداب والعربية الفصحى والإدارة وشمال إفريقيا. كان كذلك مدير المدرسة الوطنية العليا للإدارة بمدينة الرباط. كان أيضا عضوا في القسم الخامس لأكاديمية علوم ما وراء البحار، وهي جمعية علمية، وأستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب آكس أون بروفانس.
ليس في نيتنا أن نرسم في هذا المقام صورة عامة للطبقات الاجتماعية في المغرب، بل نقترح فقط تسليط الضوء على بعض المميزات التي تبدو لنا أنها تعطي لتشكيلة الطبقات الاجتماعية لدى سكان المدن في مغرب اليوم عنصرا أصيلا مقارنة بطبقات البلدان الصناعية سابقا (….)
كان الاقتصاديون هم أول من استخدم مفهوم “الاقتصاد الثنائي” في دراسة البلدان المتخلفة، لأن هناك تعايش اقتصاد تقليدي، في بعض الأحيان عتيق – ويبدو جليا في ميدان الفلاحة ولكن ليس لوحدها- واقتصاد حديث تم جلبه أصلا من الخارج سواء بواسطة الاستعمار أو غيره. في الفلاحة المغربية على سبيل المثال، هذه الثنائية واضحة حتى في أعين سائح عادي: الآليات الحديثة للمستعمر الأوروبي أو الفلاح المغربي الحديث، وبين الأدوات العتيقة للفلاح المغربي التقليدي، سكك يتم سحبها بواسطة جرار من جانب، ومن جانب آخر محراث قديم يسحبه حمار أو بقرة والسكة تخدش الأرض برفق فقط.
وتوجد هذه الثنائية أيضا في الصناعات التحويلية في أحياء مختلفة بشكل عام، ولكن في نفس المدينة، يمكن القيام بزيارة في نفس اليوم، لمصنع نسيج عصري جدا، تليها زيارة لورش النساجين الذي ظهر قبل قرن جاكوار (نسبة لجوزيف ماري جاكوار الذي ولد لعائلة من النساجين في ليون بفرنسا عام 1752).
وأيضا التباين الملحوظ بين متاجر الخدمة- الذاتية الكبيرة في المدن الجديدة، وبين المتاجر والدكاكين الصغيرة الضيقة في أسواق المدن العتيقة..
ويعرف الاقتصاد كذلك نوعا من الثنائية هي جزئيا نتيجة للأولى، والتي لها تأثير على ظروف العمال: إنه التمييز الحاصل بين ما سأسميهم “العمال النشيطين” و”العمال غير النشيطين”. بسبب التخلف في الاقتصاد والانفجار الديموغرافي، توجد البطالة، وهي ليست “ظرفية” أو دورية كما هو الحال في اقتصادات الدول المتقدمة، ولكنها “بنيوية” بمعنى مرتبطة ببنية الاقتصاد نفسه، وبالتالي لا توجد أية فرصة كيفما كانت لإعادة امتصاصها في المستقبل القريب؛ فخلق فرص الشغل لحد الساعة لم يساعد إلا على استيعاب النمو السكاني تقريبا، وليس على امتصاص البطالة التي هي ثمن التخلف…. (…)
إن هذه الثنائيات وغيرها لها نتائج مباشرة ومؤثرة حول بنية وسلوك التشكيلات الاجتماعية، فكل طبقة تبدو لنا منقسمة إلى تقسيم واحد أو إلى عدة تقسيمات، أكثر أو أقل عمقا حسب الحالات، ولكنها كافية هنا أو هناك لإثارة اختلافات وتناقضات أكثر. (وسنكتفي بمثال واحد يهمنا هنا هو الطبقة العاملة =المترجم) والتي تبدو لنا – أي الطبقة العاملة- منقسمة إلى خطين من التقسيمات التي ذكرناها أعلاه: الأول يخترق الحرفيين، ونحن نعلم بأن الصناعة الحديثة قضت على الحرف والصناعة التقليدية بإنتاجها الذي لا يمكن منافسته (باستثناء الحرف الفنية والترفيهية) والذي بالمقابل أثار ظهور مهن وحرف الإصلاح والصيانة التي بدأت تتكاثر وتزدهر في كثير من الأحيان : الميكانيكي صاحب الكاراج، المصور صاحب الأستوديو، مصلحي الراديو والساعاتيين والكهربائيين..الخ
في المغرب، على الرغم من الأزمة القاتلة لم تختف بعد المنتجات الصناعية. هناك دائما النساجون والدباغون،الإسكافيون صانعو الأحذية، صانعو الخزف، النقش على النحاس.. كل هؤلاء في صناعتهم يتبعون نفس العمليات وبنفس الوسائل مثل أسلافهم؛ كما يمكننا مشاهدتهم وهم يعملون ليس فقط في المدن العتيقة مثل مدن فاس ومراكش وتطوان، ولكن حتى في المدينة الجديدة للدار البيضاء، على بعد خطوات قليلة من معامل المدينة الصناعية العملاقة.
لا يزال هناك 58 ألف حرفي في البلد بأكمله في سنة 1960، وفقا لتقرير في ذلك التاريخ، يعرف باسم. “تقريرMartinel” في المائة متوسطو الدخل أقل من 400 فرنك يوميا وأحيانا ينخفض إلى 38 فرنكا (بالطبع الفرنك القديم). وهذا يعني بأن هؤلاء الرجال، من خلال تقنياتهم الإنتاجية، ومستوى عيشهم، ينتمون إلى الاقتصاد التقليدي، إنهم أيضا، في أكثر الأحيان، ينتمون إلى المجتمع التقليدي من خلال ثقافتهم وارتباطهم بقيم وعادات الماضي (نادرا ما يذهبون إلى المدرسة ولكنهم غالبا ما يذهبون إلى المسيد).
تتميز مهن الإصلاح والصيانة بخصائص مختلفة للغاية، ومستوى العيش في هذا المجال أعلى بكثير: فحسب تقرير Martinel، يبلغ متوسط الدخل أو يتجاوزه سنة 1960 الحد الأدنى القانوني للأجور، وهو بعيد كل البعد عن العديد من الحرفيين التقليديين، غالبا ما تلقى هؤلاء المهنيون بعض التعليم، ومنهم من تلقى تكوينا مهنيا، وجميعهم على الأقل لديهم خبرة في التقنيات الحديثة، وطريقتهم في الحياة أقرب إلى الطريقة الأوروبية، هم أكثر انفتاحا على الأفكار الجديدة في السياسة، ولديهم القدرة على التجاوب مع الأحزاب حتى أولئك الذين يعيشون ظروفا صعبة، عكس الحرفيين التقليديين…
التقسيم الثاني يفصل أولئك الذين أطلقنا عليهم “العمال النشيطين” و”العمال غير النشيطين”، أولئك الذين لهم عمل أو وظيفة وأولئك الذين ليست لديهم، أو الذين لم يسبق لهم أبدا أن مارسوا أي عمل من قبل ولن يمارسوه من بعد ؛ وقد بلغ عدد ضحايا “البطالة البنيوية” بالدار البيضاء سنة 1958، طبقا لمسح رسمي، بنسبة واحد عن كل خمسة بلغوا سن العمل. ومن المرجح أنه في عام 1965 بعد عمليات التسريح الجماعي وإغلاق المعامل والتي أدت إلى انتفاضات مارس، كان المعدل لا يزال أعلى قليلا. ولا ضرورة أن نؤكد على البؤس الجسدي لهؤلاء العاطلين عن العمل لكن ألمهم وبؤسهم الداخلي أكثر، فمن وجهة النظر التي تشغلنا هنا، إنهم غير قادرين على تلبية الحاجيات الضرورية لهم ولأسرهم. ومن أجل البقاء على قيد الحياة، فإنهم يضطرون إلى ممارسة “مهن” طفيلية ومثيرة للسخرية أو استغلال التضامن الأسري، وهم يشعرون بكرامتهم مهدورة. فبين ظروف العاطل عن العمل في الاقتصادات المتقدمة، بسبب ركود أو أزمة تكيف، لكنه يأمل في العثور عن العمل في وقت قصير إلى حد ما وفي نفس الوقت يمد له المجتمع يد العون، وبين ظروف العامل العاطل عن العمل في الاقتصادات المتخلفة ضحية نقص مزمن في عروض العمل، والذي لم يبق له سوى الحظ أو الصدفة للحصول على حماية وظيفة قارة يحلم بها، ليس هناك اختلاف في الدرجة، بل هو اختلاف في الطبيعة ، أحدهما ينتمي إلى العقلانية حيث يتحرك الاقتصاد الحديث، والآخر يبقى خارج هذا العالم نفسه، في الظلام الخارجي للصدفة، والسحر واللاعقلانية والتعسف…
أكثر ما يهدد هؤلاء هو الضعف والاستسلام، والخنوع الذي يزيد من الضعف الجسدي، وهم الآن ليس لديهم ما يخسرونه للقيام بثورة عمياء مثل الثورة الجاكية المدينية (Jacquerie اسم أطلق على ثورة قام بها الفلاحون عام 1385) التي تحطم كل شيء في طريقها لأنها تعبر عن كائنات بشرية بلغت قمة اليأس. هذا ربما ما حدث في الدار البيضاء مارس 1965 خلال مظاهرات طلاب المدارس الثانوية، عندما توافدت جحافل يائسة من مدن الصفيح والأحياء الفقيرة للمدينة العتيقة نحو وسط المدينة، وعلينا أن نشير مرة أخرى، أنه في الأسابيع السابقة، تمت العديد من التسريحات الجماعية عن العمل، وبذلك انفجر البارود الجاف المتراكم على مر السنين.
وفي مقابل هذه البروليتارية الرثة، بروليتاريا أقرب إلى مفهوم البروليتاريا المتواجدة في البلدان المتقدمة؛ من المؤكد أن العامل المغربي لديه مستوى من العيش أقل بكثير من مستوى العيش لدى العامل الفرنسي والألماني، ومنخفض بكثير من العامل الأمريكي. لكن ظروفه أحسن من البروليتاريا الأوروبية في القرن التاسع عشر.
صراع طبقي خاضته الطبقة العاملة أزيد من 150 سنة ومكتسبات نقابية، فقانون الشغل الآن لا علاقة له بقانون عهد لويس فيليب أو نابليون الثالث. والحد الأدنى من الأجور، يتم تحديده بموجب القانون، وتحديد ساعات العمل (8 ساعات) وتتحقق مفتشية الشغل من سلامة وصحة ظروف العمل ….الخ (…)
إن الانقسامات التي نلاحظها في المجتمع المغربي لها تأثير حاد لا يمس فقط بوحدة طبقات معينة، بل إنها تؤدي إلى ظهور طبقات جديدة، والتي لا شك أننا سنجد ما يوازيها في المجتمعات المتقدمة، لكنها هنا تتميز بوضوحها لأن وجودها يعتمد أساسا على أحد شروط الثنائية أو الازدواجية التي تقسم المجتمع المغربي.
ويبقى أن الشعوب السائرة على درب التنمية، هي في حالة انتقالية، فالانقسامات داخل الطبقات المغربية رهينة بتقدم سياسة تنمية المجتمع كله، فالأمر يتعلق بالمستقبل الذي هو ليس موضوعا للعلم، ولكن نجرؤ على تقديم تأكيد يبدو لنا أنه لن يتجاوز التحليل الموضوعي، هو أن المجتمعات المعنية، عندما تكون أخيرا، قد تخلصت من التخلف – ولكن ليس غدا إذا كان الأمر بهذه الوثيرة الحالية – ستشهد نوعا مختلفا من الاقتصاد مغاير تماما عن اقتصادهم اليوم وربما عن اقتصادنا، لأن تقدم التقنية الذي يتبع تقدم العلم يتسارع بدون توقف، إن الأمر لا يتطلب أن يكون المرء مثقفا عظيما ليتخيل أن الخطاطات الجديدة ضرورية لشرح بنية هذا المجتمع الجديد، بينما يمكن لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه الخطاطة التي نقدمها اليوم الأكثر شيوعا والتي تم تطويرها بعد الثورة الصناعية الأولى هل هي لازالت صالحة بعد الثورة الصناعية الثالثة.