في بداية حصول المغرب على الاستقلال المنقوص، كان واضحا لبعض القادة الوطنيين، أن إصلاح التعليم وتحديثه هو المدخل الإجباري لخروج البلاد من التخلف وكسر القيود الثقيلة للفقر والعبودية والعلاقات الإقطاعية التي تكبل ملايين المغاربة، بسبب الفقر والجهل والاستبداد. لكن عملاء الاستعمار الجديد كان لهم رأي آخر. وهكذا أصبح الجميع يتحدث عن إصلاح التعليم، خاصة وأن الإقبال المنقطع النظير للمغاربة آنذاك على تعليم أبناءهم وبناتهم، كان يعكس تطلعاتهم لضمان مستقبل أفضل لفلذات أكبادهم. كيف لا وهم كانوا يتابعون كيف استولى أبناء الأعيان والبورجوازية المدينية على المناصب في الإدارة، والمؤسسات الاقتصادية، والقطاعات العمومية. في هذا السياق تم التوصل إلى التوافق بعد جدال كبير، حول المبادئ الأربعة: المغربة والتعريب والتوحيد والمجانية. وباستثناء المبدأ الأول الذي تحقق تدريجيا، بقي تجسيد المبادئ الثلاثة الأخرى معلقا إلى الآن، رغم توالي محاولات الإصلاح بمعدل “إصلاح” كل ست سنوات، إذا احتسبنا العقود الستة المنصرمة منذ أول محاولة سنة 1957.
لقد اعتبر عجز حركة التحرر الوطني المغربية في فرض توجهها في مجال التربية والتكوين أكبر إخفاق، ستترتب عنه عواقب وخيمة عليها وعلى المجتمع المغربي. ورغم إلحاح الشهيد المهدي بن بركة، كان تنازلها عن قطاع التعليم خطأ استراتيجيا كبيرا. وقد تمكنت القوى المخزنية والمحافظة منذ ذلك الحين من توظيف التعليم لإعادة إنتاج علاقات الاستعباد والاستغلال والتخلف الفكري بدعوى الحفاظ على الهوية والدفاع عن الأصالة، وهي الراعية لروابط التبعية المتعددة الأوجه للمراكز الاستعمارية! ولم تكتف هذه القوى الرجعية بأدلجة وتسييس التعليم فحسب، بل بلورت وطبقت استراتيجية شاملة وشمولية لترسيخ بنيات التخلف والتبعية. ففي هذا الإطار تم استقدام قادة الإخوان المسلمين المطاردين من سوريا ومصر وكلفتهم بالإشراف على المؤسسات الأيديولوجية للدولة. كما تم تعميم الكتاتيب التقليدية، ودعم الزوايا الطرقية، وإحياء مواسم “الأولياء” والأضرحة التي كانت الحركة الوطنية قد منعتها في مرحلة المواجهة مع الاستعمار الفرنسي. ونظرا للدور الطليعي الذي لعبه الأساتذة والطلبة والتلاميذ في المواجهة مع الاستبداد المخزني خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي بتأطير اليسار وقيادته، سينتقل المخزن إلى نهج سياسة استئصال الفكر التقدمي من الكتب والبرامج التعليمية في بداية ثمانينات القرن الماضي، من خلال تعويض الفلسفة بالدراسات الإسلامية، وشحن الكتب المدرسية بالفكر الخرافي والغيبي، وفرض ما سماه المرحوم جسوس بحق: “سياسية التضبيع”.
بعد أربعة عقود من الإصرار على تطبيق تلك السياسية التعليمية، رغم تنوع وتعدد محاولات “الإصلاح” أصبحت النتائج واضحة، بل ومفجعة، وتجاوزت حتى أحلام عتاة الرجعية. وأصبح الجميع يقر بإفلاس التعليم العمومي، وغرق التعليم الخصوصي في التسليع والتبضيع، لدرجة لم يعد هناك من فرق بين المضاربة في العقار، والمضاربة في التعليم العالي الخصوصي! فمهن مثل الطب، والتمريض والهندسة المعمارية، أصبحت خاضعة لمنطق العرض والطلب مثل ما يحدث في السوق المالي.
وأخيرا، جاءت جائحة كورونا، فعمقت الجراح، وزادت في فضح المفضوح، وتوحد تجار الدين، وتجار الصحة، وتجار التعليم في الدفاع عن الغلط على حد قول الشاعر الكبير محمود درويش..
رغم ذلك وضد كل عوامل الإحباط، واليأس والغضب، لازالت هناك فسحة من الأمل والشعور بالاعتزاز، الذي يبعثه فينا، تفوق تلاميذ مغاربة في المسابقات الدولية، مثل ما حدث مؤخرا في مسابقة وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا). وقد أصبح من البديهيات أنه لا تقدم، ولا حداثة، ولا ديمقراطية بدون الاستثمار في الإنسان، أي بدون إعطاء الأولوية للتعليم والصحة.