الافتتاحية

أدلجة التعليم لإدامة علاقات الاستعباد والاستغلال

افتتاحية العدد 330

في‭ ‬بداية‭ ‬حصول‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬الاستقلال‭ ‬المنقوص،‭ ‬كان‭ ‬واضحا‭ ‬لبعض‭ ‬القادة‭ ‬الوطنيين،‭ ‬أن‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬وتحديثه‭ ‬هو‭ ‬المدخل‭ ‬الإجباري‭ ‬لخروج‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬وكسر‭ ‬القيود‭ ‬الثقيلة‭ ‬للفقر‭ ‬والعبودية‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإقطاعية‭ ‬التي‭ ‬تكبل‭ ‬ملايين‭ ‬المغاربة،‭ ‬بسبب‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والاستبداد‭. ‬لكن‭ ‬عملاء‭ ‬الاستعمار‭ ‬الجديد‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬رأي‭ ‬آخر‭. ‬وهكذا‭ ‬أصبح‭ ‬الجميع‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬الإقبال‭ ‬المنقطع‭ ‬النظير‭ ‬للمغاربة‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬أبناءهم‭ ‬وبناتهم،‭ ‬كان‭ ‬يعكس‭ ‬تطلعاتهم‭ ‬لضمان‭ ‬مستقبل‭ ‬أفضل‭ ‬لفلذات‭ ‬أكبادهم‭. ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتابعون‭ ‬كيف‭ ‬استولى‭ ‬أبناء‭ ‬الأعيان‭ ‬والبورجوازية‭ ‬المدينية‭ ‬على‭ ‬المناصب‭ ‬في‭ ‬الإدارة،‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬والقطاعات‭ ‬العمومية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬تم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬التوافق‭ ‬بعد‭ ‬جدال‭ ‬كبير،‭ ‬حول‭ ‬المبادئ‭ ‬الأربعة‭: ‬المغربة‭ ‬والتعريب‭ ‬والتوحيد‭ ‬والمجانية‭. ‬وباستثناء‭ ‬المبدأ‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬تدريجيا،‭ ‬بقي‭ ‬تجسيد‭ ‬المبادئ‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأخرى‭ ‬معلقا‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬رغم‭ ‬توالي‭ ‬محاولات‭ ‬الإصلاح‭ ‬بمعدل‭ “‬إصلاح‭” ‬كل‭ ‬ست‭ ‬سنوات،‭ ‬إذا‭ ‬احتسبنا‭ ‬العقود‭ ‬الستة‭ ‬المنصرمة‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬محاولة‭ ‬سنة‭ ‬1957‭.‬

لقد‭ ‬اعتبر‭ ‬عجز‭ ‬حركة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬توجهها‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التربية‭ ‬والتكوين‭ ‬أكبر‭ ‬إخفاق،‭ ‬ستترتب‭ ‬عنه‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭. ‬ورغم‭ ‬إلحاح‭ ‬الشهيد‭ ‬المهدي‭ ‬بن‭ ‬بركة،‭ ‬كان‭ ‬تنازلها‭ ‬عن‭ ‬قطاع‭ ‬التعليم‭ ‬خطأ‭ ‬استراتيجيا‭ ‬كبيرا‭. ‬وقد‭ ‬تمكنت‭ ‬القوى‭ ‬المخزنية‭ ‬والمحافظة‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬من‭ ‬توظيف‭ ‬التعليم‭ ‬لإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬علاقات‭ ‬الاستعباد‭ ‬والاستغلال‭ ‬والتخلف‭ ‬الفكري‭ ‬بدعوى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬الأصالة،‭ ‬وهي‭ ‬الراعية‭ ‬لروابط‭ ‬التبعية‭ ‬المتعددة‭ ‬الأوجه‭ ‬للمراكز‭ ‬الاستعمارية‭! ‬ولم‭ ‬تكتف‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬الرجعية‭ ‬بأدلجة‭ ‬وتسييس‭ ‬التعليم‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بلورت‭ ‬وطبقت‭ ‬استراتيجية‭ ‬شاملة‭ ‬وشمولية‭ ‬لترسيخ‭ ‬بنيات‭ ‬التخلف‭ ‬والتبعية‭. ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬تم‭ ‬استقدام‭ ‬قادة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬المطاردين‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬ومصر‭ ‬وكلفتهم‭ ‬بالإشراف‭ ‬على‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬للدولة‭. ‬كما‭ ‬تم‭ ‬تعميم‭ ‬الكتاتيب‭ ‬التقليدية،‭ ‬ودعم‭ ‬الزوايا‭ ‬الطرقية،‭ ‬وإحياء‭ ‬مواسم‭ “‬الأولياء‭” ‬والأضرحة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬قد‭ ‬منعتها‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭. ‬ونظرا‭ ‬للدور‭ ‬الطليعي‭ ‬الذي‭ ‬لعبه‭ ‬الأساتذة‭ ‬والطلبة‭ ‬والتلاميذ‭ ‬في‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬الاستبداد‭ ‬المخزني‭ ‬خلال‭ ‬الستينات‭ ‬والسبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بتأطير‭ ‬اليسار‭ ‬وقيادته،‭ ‬سينتقل‭ ‬المخزن‭ ‬إلى‭ ‬نهج‭ ‬سياسة‭ ‬استئصال‭ ‬الفكر‭ ‬التقدمي‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والبرامج‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعويض‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالدراسات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وشحن‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭ ‬بالفكر‭ ‬الخرافي‭ ‬والغيبي،‭ ‬وفرض‭ ‬ما‭ ‬سماه‭ ‬المرحوم‭ ‬جسوس‭ ‬بحق‭: “‬سياسية‭ ‬التضبيع‭”. ‬

بعد‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬تلك‭ ‬السياسية‭ ‬التعليمية،‭ ‬رغم‭ ‬تنوع‭ ‬وتعدد‭ ‬محاولات‭ “‬الإصلاح‭” ‬أصبحت‭ ‬النتائج‭ ‬واضحة،‭ ‬بل‭ ‬ومفجعة،‭ ‬وتجاوزت‭ ‬حتى‭ ‬أحلام‭ ‬عتاة‭ ‬الرجعية‭. ‬وأصبح‭ ‬الجميع‭ ‬يقر‭ ‬بإفلاس‭ ‬التعليم‭ ‬العمومي،‭ ‬وغرق‭ ‬التعليم‭ ‬الخصوصي‭ ‬في‭ ‬التسليع‭ ‬والتبضيع،‭ ‬لدرجة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬المضاربة‭ ‬في‭ ‬العقار،‭ ‬والمضاربة‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬العالي‭ ‬الخصوصي‭! ‬فمهن‭ ‬مثل‭ ‬الطب،‭ ‬والتمريض‭ ‬والهندسة‭ ‬المعمارية،‭ ‬أصبحت‭ ‬خاضعة‭ ‬لمنطق‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬المالي‭. ‬

وأخيرا،‭ ‬جاءت‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬فعمقت‭ ‬الجراح،‭ ‬وزادت‭ ‬في‭ ‬فضح‭ ‬المفضوح،‭ ‬وتوحد‭ ‬تجار‭ ‬الدين،‭ ‬وتجار‭ ‬الصحة،‭ ‬وتجار‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬الغلط‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬قول‭ ‬الشاعر‭ ‬الكبير‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭..‬

رغم‭ ‬ذلك‭ ‬وضد‭ ‬كل‭ ‬عوامل‭ ‬الإحباط،‭ ‬واليأس‭ ‬والغضب،‭ ‬لازالت‭ ‬هناك‭ ‬فسحة‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬والشعور‭ ‬بالاعتزاز،‭ ‬الذي‭ ‬يبعثه‭ ‬فينا،‭ ‬تفوق‭ ‬تلاميذ‭ ‬مغاربة‭ ‬في‭ ‬المسابقات‭ ‬الدولية،‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬مؤخرا‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭ ‬وكالة‭ ‬الفضاء‭ ‬الأمريكية‭ (‬ناسا‭). ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬البديهيات‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬تقدم،‭ ‬ولا‭ ‬حداثة،‭ ‬ولا‭ ‬ديمقراطية‭ ‬بدون‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ ‬أي‭ ‬بدون‭ ‬إعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬للتعليم‭ ‬والصحة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى