الافتتاحية

الحاجة للإنقاذ قبل فوات الأوان

افتتاحية العدد 332

بعد‭ ‬مرور‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬ظهر‭ ‬الفرق‭ ‬واضحا‭ ‬وكبيرا‭ ‬بين‭ ‬نموذجين‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬الشأن‭ ‬العام‭ ‬والتنمية‭ ‬في‭ ‬إفريقيا،‭ ‬نموذج‭ ‬رواندا،‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭ ‬الإفريقي‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬تمزقه‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬والمجاعة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬صاعدة‭ ‬بأعلى‭ ‬نسبة‭ ‬نمو،‭ ‬بفضل‭ ‬قيادة‭ ‬وطنية،‭ ‬ديموقراطية‭ ‬وحكيمة‭ ‬خصصت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ %‬40‭ ‬من‭ ‬ميزانية‭ ‬الدولة‭ ‬للصحة‭ ‬والتعليم،‭ ‬وأعادت‭ ‬هيكلة‭ ‬مجتمع‭ ‬قبلي‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬الحرية‭ ‬والمواطنة‭ ‬والديموقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وبذلك‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬نمودج‭ ‬ناجح‭ ‬يحتدى‭ ‬به‭ ‬عالميا‭. ‬أما‭ “‬النمودج‭ ‬المغربي‭” ‬فقد‭ ‬انطلق‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الفترة‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالعهد‭ ‬الجديد،‭ ‬لكن‭ ‬برؤية‭ ‬مخزنية‭ ‬هاجسها‭ ‬الدائم‭ ‬الانفراد‭ ‬بالقرار،‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬بما‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬اختيارات‭ ‬طبقية‭ ‬ضيقة‭ ‬الأفق‭ ‬وإن‭ ‬بصيغة‭ ‬جديدة،‭ ‬موجهة‭ ‬بالأساس‭ ‬لخدمة‭ ‬مصالح‭ ‬طبقة‭ ‬ريعية‭ ‬لا‭ ‬هم‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬مراكمة‭ ‬الثروات‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الاغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭. ‬

هكذا،‭ ‬وبدل‭ ‬إنجاز‭ ‬انتقال‭ ‬ديموقراطي‭ ‬حقيقي،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬سابقا‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬وبلورة‭ ‬خطط‭ ‬تنموية‭ ‬شاملة‭ ‬ومتكاملة،‭ ‬تم‭ ‬اللجوء‭ ‬لسياسات‭ ‬ترقيعية،‭ ‬كأسطورة‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية،‭ ‬وخطط‭ ‬قطاعية‭ ‬متضاربة‭ ‬عمقت‭ ‬الاختلالات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬التطوير‭ ‬النسبي‭ ‬للبنيات‭ ‬التحية‭ ‬والتي‭ ‬كلفت‭ ‬مبالغ‭ ‬خيالية‭. ‬لكن‭ ‬القطاعات‭ ‬الحيوية‭ ‬مثل‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬والإعلام‭ ‬العمومي‭ ‬والثقافة‭ ‬تعاني‭ ‬الإهمال‭ ‬المقصود،‭ ‬والدفع‭ ‬المستمر‭ ‬بها‭ ‬لخوصصة‭ ‬خدماتها،‭ ‬في‭ ‬انصياع‭ ‬تام‭ ‬للمؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تغولت‭ ‬لوبيات‭ ‬الفساد‭ ‬ونهب‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬القطاعات‭ ‬مستفيدة‭ ‬من‭ ‬تواطؤ‭ ‬الإدارات‭ ‬البيرُقراطية‭ ‬والمرتشية‭. ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬السنوات‭ ‬،ظهرت‭ ‬النتائج‭ ‬واضحة‭ ‬ومكشوفة‭ ‬بشهادة‭ ‬تقارير‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬وبعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬الرسمية‭ ‬نفسها،‭ ‬مثل‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للحسابات،‭ ‬والمجلس‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والبيئي،‭ ‬والمجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للتعليم‭ ‬والبحث‭ ‬العلمي‭ ‬ومجلس‭ ‬المنافسة،‭ ‬بمعطيات‭ ‬صادمة‭ ‬تنشرها‭ ‬التقارير‭ ‬الدورية‭ ‬لهذه‭ ‬المؤسسات‭. ‬فالفوارق‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمجالية‭ ‬ازدادت‭ ‬اتساعا،‭ ‬وتدهورت‭ ‬أوضاع‭ ‬المأجورين‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬وتوسعت‭ ‬ظواهر‭ ‬البطالة‭ ‬و‭ ‬الفقر‭ ‬والهشاشة،‭ ‬بدليل‭ ‬اضطرار‭ ‬الدولة‭ ‬لتقديم‭ ‬الدعم‭ ‬المباشر‭ ‬خلال‭ ‬أشهر‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭ ‬لحوالي‭ %‬70‭ ‬من‭ ‬الأسر‭ ‬المغربية،‭ ‬أي‭ ‬مايزيد‭ ‬عن‭ ‬ثلثي‭ ‬الأسر‭. ‬وهذا‭ ‬المعطى‭ ‬وحده‭ ‬كاف‭ ‬لفضح‭ ‬فشل‭ ‬الاختيارات‭ ‬الرسمية،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬تضخم‭ ‬أنشطة‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬غير‭ ‬المهيكل‭.‬

وجاءت‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬فعرت‭ ‬هشاشة‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬وألقت‭ ‬بسبب‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ‭ ‬الصحية‭ ‬بملايين‭ ‬الأسر‭ ‬في‭ ‬الفقر‭ ‬والعجز‭ ‬عن‭ ‬تلبية‭ ‬الحاجات‭ ‬الأولية‭ ‬من‭ ‬الغذاء‭ ‬والدواء،‭ ‬ولجأت‭ ‬الدولة‭ ‬لإحداث‭ ‬صندوق‭ ‬خاص‭ ‬لمواجهة‭ ‬تداعيات‭ ‬الجائحة‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثة‭ ‬اشهر،‭ ‬وهي‭ ‬مبادرة‭ ‬حدت‭ ‬من‭ ‬الكارثة،‭ ‬لكن‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬ارتكبت‭ ‬الدولة‭ ‬وحكومتها‭ ‬أخطاء‭ ‬فادحة‭ ‬في‭ ‬التدبير،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬زج‭ ‬بالبلاد‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬المجهول،‭ ‬بعدما‭ ‬تدهور‭ ‬الوضع‭ ‬الوبائي‭ ‬عند‭ ‬رفع‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي،‭  ‬عكس‭ ‬كل‭ ‬التوقعات‭. ‬

هكذا‭ ‬أصبح‭ ‬المغرب‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬ومطالب‭ ‬بوقف‭ ‬الإنتشار‭ ‬السريع‭ ‬للوباء،‭ ‬وإنعاش‭ ‬الدورة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وتأمين‭ ‬إنتاج‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬والأدوية،‭ ‬وكل‭ ‬مستلزمات‭ ‬العيش‭ ‬لكافة‭ ‬المواطنين‭ ‬والمواطنات‭. ‬وهذا‭ ‬ورش‭ ‬كبير،‭ ‬يتطلب‭ ‬تعبئة‭ ‬استثنائية‭ ‬لكل‭ ‬الطاقات‭ ‬الوطنية،‭ ‬واسترجاع‭ ‬الأموال‭ ‬المهربة،‭ ‬ومحاربة‭ ‬حقيقية‭ ‬لأوكار‭ ‬الفساد،‭ ‬ووضع‭ ‬استرتيجية‭ ‬وطنية‭ ‬شاملة‭ ‬متعددة‭ ‬الأبعاد‭ ‬والسنوات‭ ‬لإنقاذ‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الإفلاس‭ ‬والانهيار‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى