البعد الطبقي والتقليدي للتعليم
◆ محمد الصدوقي
سوسيولوجياً، جل المقاربات المنهجية والمعرفية التربوية الرسمية التي قاربت منظومة التربية والتعليم في أبعادها الإصلاحية التدبيرية والتقييمية خاصة، كانت تنتظم أساسا وفق مقاربة وظيفية-أمبريقية؛ حيث إن المقاربة الوظيفية تهتم “بعلاج الخلل القائم في النظام التعليمي من خلال التركيز على نظام التعليم ذاته، أو في علاقته بالنظم الفرعية الأخرى في المجتمع دون أن تشير إلى الخلل القائم في النظام الاجتماعي العام. وعليه فإن طبيعة المعرفة التربوية، حسب هذه المقاربة، هي معرفة وظيفية، تبريرية ومحافظة، تكرس النظام القائم (الاجتماعي والمعرفي والإيديولوجي والقيمي..) وتعيد إنتاجه.” ؛أما المقاربة الإمبريقية فإنها “تتجه إلى التركيز على المجالات المحدودة، والاهتمام بالمشكلات الجزئية، والوقائع المعرفية المعزولة عن سياقها التاريخي والذاتي وإطارها الاجتماعي، والعناية بالمنهج، والتصاميم والمقاييس والنماذج الكمية والإحصائية، والاعتماد على المعطيات التجريبية، دون اعتبار النظريات التفسيرية، واستبعاد التصورات القبلية والذاتية.”
في حين يتم الإبعاد الكلي (بطريقة مقصودة أو جاهلة) للمقاربات المنهجية والمعرفية للمدرسة النقدية أو الراديكالية في السوسيولوجيا وسوسيولوجيا التربية (من بين روادها المعروفين بيير بورديو صاحب مقولات الرأسمال ثقافي أو الرمزي وإعادة الإنتاج…)؛ حيث نجد” ربط المعرفة التربوية (المدرسة) بالأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما أنها تطرح الأسئلة حول إنتاج المعرفة وشرعيتها وتوزيعها وتقويمها داخل المدرسة، ونوع المصالح التي تدافع عنها، والفئات التي ترتبط بها خارج المدرسة (خاصة الانتماء الاجتماعي الطبقي)، وشكل العلاقات والمبادئ التي تؤكدها، والسياسات التي تحكمها، والمؤسسات التي تتحكم فيها في إطار ثقافة ومجتمع معينين.”
ما يهمنا في هذا المقال، كتقييم لتطبيق الوزارة للتعليم عن بعد، هو أن نبين بعض مواطن فشل وقصور وزارة التربية في تدبيرها وتصورها وتقييمها للتعليم عن بعد في المدرسة المغربية، من خلال اعتماد مقاربة وظيفية – أمبريقية داخل مجال مدرسي ومجتمعي تقليدي وهش (التجهيزات والبنيات الرقمية والتكنولوجية الحديثة)، معتمدين في تقييمنا هذا على المدرسة النقدية في سوسيولوجيا التربية (خاصة مسألة النظام التعليمي والانتماء الاجتماعي/الطبقي).
من المعروف انه تم توقيف الدراسة الحضورية انطلاقا من يوم 16 مارس 2020 نتيجة جائحة كورونا (كوفيد 19)،
واعتقدت الوزارة أنها بتوظيفها للتعليم عن بعد كعلاج لهذا الخلل الطارئ، يكفي توظيف التعليم عن بعد كإجراء تقني جزئي لانقاد السنة الدراسية والمنظومة التعليمية ككل (خلفية وظيفية)، متغافلة وجاهلة لمدى العلاقة البنيوية والجدلية بين متغيرات المدرسة (كبنيات وتجهيزات) وأنواع المدارس، وباقي الأنظمة والمتغيرات المجتمعية الأخرى (التجهيزات والبنيات العمومية، الفوارق الاجتماعية الطبقية والمجالية)؛ حيث نجد أن أغلب المدارس العمومية ما زالت تقليدية على مستوى البنيات والتجهيزات البيداغوجية (الرقمية والتكنولوجية الحديثة للمعلومات والاتصالات)، إذ نلاحظ تمايزات ولا تكافؤ للفرص بينها وبين مدارس التعليم الخصوصي ومدارس البعثات، ناهيك عن التمايزات المجالية في هذه التجهيزات بين المدارس العمومية نفسها: مدارس الأحياء المهمشة ومدارس الأحياء المتوسطة والغنية، مدارس الوسط الحضري ومدارس الوسط القروي التي تشكل حسب آخر إحصاء للوزارة (2018/2019) نسبة 54.36% (5276 مؤسسة ابتدائية وإعدادية وتأهيلية)؛ هنا نلاحظ مدى تأثير خلفية الانتماء الطبقي على تشكل أنواع المدارس ونسبة تحديثها، خصوصا بالتجهيزات البيداغوجية الرقمية وتكنولوجيا التعليم الحديث. ناهيك عن شبه غياب كلي لأي تكوين أساسي أو مستمر للأطر التربوية ولأي منهاج أو مواد دراسية رقمية ومعلوماتية تستهدف المتعلمين، لاكتساب المعارف والكفايات المعلوماتية والرقمية؛ وهنا نتذكر مختلف التقييمات السلبية التي عرت عن مدى فشل برنامج جيني وتوقفه العملي، حيث كان من بين أهدافه تجهيز كل المؤسسات المدرسية العمومية بهذه التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصالات (حيث ما تم انجازه منها اغلبه غير صالح أو لا يستعمل أو أصبح خرذة)، وضعف تكوين المدرسين والمتعلمين في هذا المجال. كل ذلك عمل سلبا في إفشال تطبيق التعليم عن بعد، سواء بالنسبة لأغلب المدرسين والمتعلمين الذين يفتقدون للكفايات البيداغوجية الرقمية كمعرفة ومهارات ،سواء للتعلم الرقمي بالنسبة للمتعلمين أو للإنتاج والتدريس الرقمي البيداغوجي الجيد بالنسبة للمدرسين.هذا يظهر لنا مدى حاجة نظامنا التعليمي التقليدي الملحة والضرورية لطفرة وثورة تحديثية فيما يخص دمج التكنولوجيات الحديثة والرقمية منهاجيا وتجهيزيا وتكوينيا، ومحاربة التمايزات الطبقية مدرسيا بتوحيدها من حيث العمران والتجهيزات والبنيات والمناهج التعليمية الحديثة.
في جواب وزير التربية الوطنية على سؤال محوري حول حصيلة التعليم عن بعد وأفاق استكمال السنة الدراسية بمجلس المستشارين، الثلاثاء 12 ماي 2020 ،نلمس كذلك خلفيته الامبريقية في تقييم هذه الحصيلة، حيث اكتفى فقط بتقديم معطيات تقنية وإحصائيات رقمية ،وكانت كالتالي:
لتوفير موارد رقمية للمتعلمين والمتعلمات (6000 مورد رقميTelmedTice- لاستكمال الدروس المتبقية تم استعمال
لكل الأسلاك المدرسية)، بتتبع يومي قدر بـ 600 ألف تلميذ؛ وببث الدروس عبر القنوات التلفزية الوطنية (الثقافية، الأمازيغية، العيون)، وبلغ عدد الدروس التي تم بثها تلفزيا 59 درسا، وعدد الدروس المصورة3127 درسا؛
وتم تكوين 23290 من أساتذة اطر الأكاديميات واطر الإدارة التربوية عبر منصة e-takwine. المدمجة في منظومة مسار لتمكين الأساتذة من التواصل مع التلاميذ، والتعليم عن بعدTeams – إطلاق الخدمة التشاركية وإطلاق الخدمة من خلال إنشاء أقسام افتراضية، والتي بلغ عددها في التعليم العمومي أزيد من 725 ألف قسم نسبة تغطيتها 95.85%، وفي التعليم الخصوصي أزيد من 108 ألف قسم بنسبة تغطية وصلت إلى 70.64%. وبلغ عدد مستعملي هذه الخدمة حوالي 85 ألف أستاذ و300 ألف تلميذ.
هنا نلاحظ أن الوزارة في تقييمها لحصيلة تطبيق التعليم عن بعد اكتفت بالمعطيات الرقمية والتقنية المستعملة، ولم تقيم مدى الاستفادة الفعلية للمتعلمين من التعليم عن بعد، بإجراء مثلا تقييمات بيداغوجية رقمية، ومعرفة المعوقات الموضوعية والحقيقية لفشل التعليم عن بعد، بذات الأسباب البيداغوجية (عدم تملك الكفايات الرقمية لدى المتعلمين والمدرسين)، أو ذات الأسباب الاجتماعية الطبقية، كعدم توفر جل المتعلمين خاصة المنتمين للفئات الهشة على الحوامل الرقمية أو أكثر من جهاز تلفاز بالنسبة للأسر التي لها أكثر من ابن، وعدم الربط بالانترنيت أو ضعفه، وخاصة النسبة الكبيرة التي يشكلها متعلمي الوسط القروي والأحياء الشعبية للوسط الحضري؛ وهذا له علاقة بالسياسات والاختيارات العمومية التي تنتج الفوارق الطبقية والتمايزات والتفاوتات المجالية، من حيث الاستفادة من الخدمات العمومية التجهيزية والتعليمية الجيدة وغيرها وهذا بالطبع يؤثر سلبا على فعالية ونجاح المتعلمين وفشل أي برامج إصلاحية أو خدماتية تعليمية، بما فيها التعليم عن بعد.
في الختام، نستنتج ونلاحظ أن تجربة التعليم عن بعد لهذه السنة، كشفت للعيان الاختلالات الحقيقية للنظام التعليمي المغربي وللمدرسة العمومية المغربية، حيث مازالت غارقة في التخلف والتقليدانية، وتعج بأشكال التمايزات الطبقية والمجالية وغياب تكافؤ الفرص في النجاح والتعليم أمام كل أبناء المغاربة.. ومازلت مدارسنا المغربية (ونظامنا المجتمعي) في حاجة إلى إصلاحات تحديثية علمية وديمقراطية وحقوقية ومواطنة حقيقية..