التعليم العمومي والنموذج التنموي: أية علاقة؟
◆ ذ. عبد اللطيف قيلش
مدخل:
برز مفهوم التنمية بصفة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية، قبل هذه المرحلة كان يستعمل مصطلحي التقدم المادي أو التقدم الاقتصادي للدلالة على التطور الحاصل في المجتمع، ومن ثم أضحى هذا المفهوم من أهم مفاهيم القرن العشرين.
لقد برز مفهوم التنمية في علم الاقتصاد “للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغييرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية حياة كل فرد، وبمعنى آخر، زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه، بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات، عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائدات ذلك الاستغلال. » (لحسن مادي، محاربة الأمية، مدخل لتحقيق التنمية البشرية- ص10).
كما انتقل هذا المفهوم إلى الحقل السياسي منذ الستينات للدلالة على التغيير الاجتماعي في أبعاده المتعددة. يتعلق الأمر بنظم تعددية وتحقيق النمو الاقتصادي والمشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية وترسيخ مفهوم الوطنية والسيادة والولاء للدولة القومية. بعد ذلك انتقل هذا المفهوم إلى حقول معرفية أخرى، ويتعلق الأمر بالتنمية الثقافية والتنمية الاجتماعية، (نفس المرجع). إنه مفهوم متعدد الأبعاد- فهو مفهوم شامل ومتغير غيرثابت – يتميز بدينامية مستمرة ، وهذا بديهي لأن المفاهيم تتطور بتطور التاريخ، فهي وليدة السياقات ومنها تستمد حمولتها. في إطار هذا التطور الذي عرفه هذا المفهوم برز الحق في التنمية، والذي يندرج ضمن الجيل الثالث لحقوق الإنسان، وهو ما تم الإعلان عنه بتاريخ 04/12/1986 من خلال التوصية رقم 128/41 الصادرة عن الأمم المتحدة وقرارها الذي تنص مادته الأولى على ” أن الحق في التنمية، حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف، وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية نحو التمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان ، والحريات الأساسية إعمالا تاما ” فالحق بهذا المعنى حق شامل يتعلق الأمر بالحقوق الفردية والجماعية وحق الشعوب في تقرير مصيرها الاقتصادي والتحكم في ثرواتها وخيراتها فهو تركيب للحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .مركز التنمية من هذا المنظور فهو الإنسان ، ولامعنى لوجوده إذا لم يكن حقه في التعبير وحقه في الحياة وحقه في شغل لائق وحقه في تعليم جيد ومجاني وحقه في الحرية، حقوق مكفولة.
في إطار تطورات هذا المفهوم سيبرز مفهوم التنمية البشرية الذي استعمل أول مرة سنة1990في التقرير العالمي حول التنمية البشرية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية (PNUD)، حيث اعتبرهذا التقرير أن الإنسان يشكل مركز التنمية وأضحى المفهوم قضية جوهرية في العملية المجتمعية للقيام بتحويل عميق في الحياة الإنسانية في مستوياتها المتعددة بهدف مواجهة التحديات المطروحة، خصوصا ما يتعلق بقضايا التخلف والتأخر والأخطار البيئية والبطالة والفقر والهشاشة والتبعية والتمييز العرفي والجنسي والاستغلال وتقييد الحرية…(نفس المرجع).
إن النقاش في موضوع التنمية بات مرتبط بقضايا الانصاف والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، وموقع الدولة.
إذ حصل أنقسام وسط المدرسة اللبيرالية الجديدة بين دعاة عدم تدخل الدولة «إذ يمثل حصول كل شخص على ما يستحقه، وفقا لقدراته قمة تحقيق العدالة الاجتماعية، وأبرزمن عبر عن هذه الفكرةهو روبيرت نوزيك ROBERT NOZIK ، ودعاة تدخل الدولة، وهم أنصار نظرية العدالة الجدد (أمثال جون رولزJOHN RAWLZ وأمارتياسين(AMARTYASEN) وتوماس نيجال THOMASNAGEL)، إن العدالة الاجتماعية تتطلب سياسات تعالج المساوئ الاجتماعية والاقتصادية وتعطي كل فرد فرصة عادلة في النجاح. (إنحي محمد عبد الحميد، تطورمفهوم العدالة الاجتماعية في أدبيات التنمية الدولية: رؤية نظرية- مجلة الديمقراطية –العدد68 – سنة 2017 ص11-12).
يبدو أن هذا النقاش شكل الخلفية التي انطلق منها تقريرالبنك الدولي سنة 2006 المعنون ب”الإنصاف والتنمية المستدامة “، والذي حمل تصورا جديدا حول الفقر متعدد الأبعاد .
انطلاقا من ذلك، يطرح السؤال: ما موقع التنمية في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة؟
1. موقع التنمية في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للدولة –(تم الاعتماد على كتاب ذ.نجيب أقصبي:
الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية ).سن المغرب منذ الاستقلال سياسة اقتصادية مبنية على المخططات سواء ما عرف بالخماسية والثلاثية أو ما عرف بالمخططات (الأزرق- الأخضر. الصناعي…) بعد 1999. وإن كانت الخلفيات المعلن عنها تتمثل في رهانات التنمية، والقيام بإصلاحات للنهوض بالفلاحة والصناعة وتكوين الأطر ومغربتها وفك الارتباط بين الفرنك الفرنسي والفرنك المغربي، ومحاربة التضخم… فإن الاختيارات لم تخرج عن تأطير التوجهات الليبرالية والنيوليبرالية لها.
وقد شكلت مرحلة 1983 مع سياسة التقويم الهيكلي تجسيدا لهذه التوجهات، والشروع في تخلي الدولة عن أدوارها ووظائفها الاجتماعية تجاه الخدمات الاجتماعية لفائدة سياسة التقشف وتقليص ميزانية القطاعات الاجتماعية. وهو ما تعزز مع تبني سياسة الخوصصة التي تم اعتمادها عبر الإعلان عنها في البرلمان سنة 1988 كاختيار استراتيجي لحل الأوضاع الاجتماعية (القدرة الشرائية- أزمة التشغيل…) إلا أن هذه الرهانات لم تتحقق، وعلى عكس ذلك وجد المغرب نفسه في وضعية تفاقم الأزمة، وهو ما عبر عنه تقرير البنك الدولي الشهير لسنة1995، وتلاه خطاب السكتة القلبية. وفي هذا الإطارأيضا تطرق تقرير الخمسينية إلى الفترة 1988 – 1995: “شهدت هذه المرحلة أضعف نمو في الخمسين سنة الأخيرة، وذلك بمعدل %2،7 ، وقد تميزت هذه الفترة بجفاف متواتر وبطيء الاستثمار العمومي والخصوصي وتدهور تنافسية الصادرات المغربية، بالنظر إلى صادرات البلدان النامية…”، بذلك لم تكن هذه الظروف تؤهل المغرب للإقدام على الانفتاح وتوقيع الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة(الجات) في مراكش سنة 1994، لكن هذا الانفتاح أملاه الخضوع لتوصيات المؤسسات المالية الدولية المانحة.
ترتب عن هذه الاختيارات، ارتفاع البطالة وتزايد الفوارق الاجتماعية والفوارق المجالية – وانخفاض المؤشرات الاجتماعية المتعلقة بالتعليم والصحة والشغل. رغم القيمة التشخيصية للأعطاب والاختلالات الواردة في التقريرالخمسينية، والتي كان يمكن أن يشكل أرضية للقطع مع الاختيارات السابقة، فإن المقترحات والبدائل ظلت بعيدة المنال، لأن الاختيارات محكومة بالتوجهات النيوليبرالية، فاللجوء إلى التدبير المفوض، والشراكة عام/خاص، عنوانها هو استقالة الدولة من مسؤوليتها الاجتماعية. إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بدورها لم تحقق المبتغى. وكان الاعتراف الرسمي أنها لم تخلص 12 مليون مواطن من حالة “الخصاص الفادح” (الصحة-التعليم- الوقاية- الدخل- النقل…)، وجاء ترتيب المغرب من مؤشر التنمية البشرية 126 من ضمن 188 الوارد في تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية سنة 2015، ليؤكد فشل كل هذه الاختيارات. فالاقتصاد المغربي ظل يشكو من الهشاشة والتنمية الإنسانية مؤشراتها مخجلة.
تدل مختلف المؤشرات أن اختيارات الدولة ظلت أسيرة التوازنات المالية، على حساب البعد الاجتماعي، وظلت أسيرة فهم تقنوي لمفهوم التنمية، الغائب فيه هو الإنسان والذي ينبغي أن يكون المحور فيه، وفي هذا الإطار يشكل التعليم قاطرة نحو التقدم والتنمية، ولعل النموذج الأسيوي جدير باستخلاص عبره ” ففي ستينات القرن الماضي، كان حجم اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة مثلا بحجم اقتصاد مصر أو أقل منه بقليل، علاوة على أنها كانت خارجة من استعمار كبل قدراتها واستغل مواردها، أو أنهكتها حروب أهلية، منذ 60 سنة كان 80% من الكوريين غير متعلمين، تنفق حاليا %20 من ميزانيتها العامة على التعليم: (الحسن المصدق، تحديات التنمية المستدامة الحلقة المفقودة بين القطاع العام والقطاع الخاص- جريدة أخبار اليوم – 28 يناير2020 – العدد 3102) فما هو موقع التعليم في اختيارات الدولة؟
2. موقع التعليم في اختيارات الدولة:
منذ لجنة إصلاح التعليم سنة 1957 واللجنة الثانية سنة 1958. ومناظرة معمورة سنة 1964 ووثيقة المذهب الجديد للتعليم (بن هيمة سنة 1966) ومناظرة إفران سنة 1970، وأيام التربية بإفران نهاية غشت 1980، و1983 مع سياسة التقويم الهيكلي، والميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)، والبرنامج الاستعجالي (2015-2030) والاتفاقية الإطار2007 وقانون الإطار17-51، ودستور2011 في الفصل 31، لم تتخلص الدولة من مقاربتين في تعاطيها مع موضوع التعليم، يتعلق الأمر بالمقاربة الأمنية- الضبطية، ولعل حذف مادة الفلسفة، وحذف معهد السوسيولوجيا القروية، وعسكرة الجامعة… إحدى المؤشرات الدالة على ذلك، ثم مقاربة التوازنات المالية والتي تجسدت مع سياسة التقويم الهيكلي، ومنطق اعتبار التعليم قطاع مستهلك وغير منتج. إن المدرسة والجامعة العموميتين لم يتم تهميشهما فقط، بل تمت محاربتهما.
تعاطت الدولة مع التعليم بمنطق التخلي والتخلص من هذه الخدمة العمومية، ولم تتوفر تاريخيا الإرادة السياسية للإصلاح ولا الاقتناع بنجاعة الإصلاح. فأزمة المدرسة العمومية ليست أزمة حكامة، فهي أزمة سياسية أولا، وهي أزمة بنيوية هيكلية، ترتبط بطبيعة المشروع المجتمعي، وهو موضوع صراع تاريخي بين الدولة والقوى الديمقراطية، لذلك كان الجدال في موضوع التعليم في أبعاده حاضنا لهذا الصراع السياسي. فرغم الخطاب الذي يتم تسويقه حول الإصلاح، صممت الدولة والأغلبية الحكومية على تمرير قانون الإطار17-51، والرامي إلى تنويع الوضعيات النظامية بهدف اعتماد التعاقد كآلية وهو ما يمكن من إدخال الهشاشة إلى القطاع، والتنصيص بتحايل على تنويع مصادر التمويل بهدف الإجهاز على مكتسب المجانية، ونفس الأمر بالنسبة للشراكة عام/خاص. إن الأمر هنا يتعلق بضرب مبادئ المساواة والإنصاف والتماسك الاجتماعي. إن توجه الدولة، وانطلاقا من الفصل31 لدستور2011 ومضامين الرؤية الاستراتيجية وقانون الإطار بهدف إلى تثبيت أسس خوصصة التعليم وتسليعه جل التقارير الدولية والوطنية تكشف عن مؤشرات كمية ونوعية حول طبيعة الأزمة، وحول نخبوية وطبقية النظام التعليمي، وتكريسه للتفاوتات الاجتماعية، ف450 ألف طالب يغادرون الجامعة بدون شهادة، و400 ألف تلميذ يتركون المدرسة سنويا، ففي سنة 2017، ما يقارب 160 ألف من حملة الشهادات الجامعية(إجازة- ماستر- دكتوراه) في وضعية بطالة مزمنة، وبنسبة13% من الحجم الوطني العام الذي يشمل مليون و160 ألف مواطن أغلبهم من الشباب تتراوح أعمارهم بين 15 و34 سنة. من الناحية النوعية، يشكو النظام التعليمي من الازدواجية بين النمط التقليدي والعصري، وهو ما يعرض التلميذ للتمزق لأن مرتكزات المنظومة وأسسها تقليدية جامدة غير مستوعبة للتحولات والمتغيرات وللقيم الكونية لروح العصر، والغياب التام للعدالة التربوية إذا كان مفهوم التنمية المستدامة شامل ومركزها الإنسان وللتعليم دور محوري فما هي طبيعة النموذج التنموي الذي من شأنه أن يفتح آفاقا للمغرب الممكن.
خلاصات:
إن مرتكزات النموذج التنموي تتمثل في الإصلاح الدستوري والسياسي والمؤسساتي يمكن المغرب من الانتقال إلى الديمقراطية عبر الملكية البرلمانية.
- العدالة الاجتماعية عبر سياسات اقتصادية واجتماعية مبنية على التوزيع العادل للثروة المادية والمعرفية.
- دولة الحق والقانون حيث لا سمو إلا للقوانين ويلعب القضاء النزيه المستقل دورا رياديا في ذلك.
- توسيع مجال الحريات الفردية والجماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية انطلاقا من سمو التشريعات الدولية وملائمة القوانين الوطنية مع كونية مبادئ حقوق الامتياز.
- قضية التعليم قضية مركزية واستراتيجية لا تعالج بالمنطق الظرفي والترقيعي والتجزيئي.
- التعليم العمومي المجاني الجيد رهان استراتيجي في التنمية.
- لا يمكن اختزال رهانات التعليم ووظائفه في التلاؤم مع سوق الشغل بتمجيد التخصصات التقنية وتبخيس العلوم الإنسانية، يستوجب الأمر الربط العضوي بين التعليم والمسألة الثقافية لتقوم المدرسة والجامعة العموميتين بوظيفتهما العلمية والمعرفية والإشعاعية والحضارية حيث العقل مركز التفكير.
- ربط التعليم بالمنظومة الحقوقية وإشاعة ثقافة الاختلاف والتسامح والتعدد.
- ربط التعليم بعلم الجمال ومختلف أجناس الإبداع.
- أن يكون إصلاح التعليم في قلب العدالة الاجتماعية وفي قلب مجتمع المعرفة ومن أجل إنسان كوكبي وتعليم المعرفة والنسبية والشمولية والأبعاد المتعددة والسياق والمركب والخطأ والوهم (إدغارموران، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل).
وأخيرا لا بد من التأكيد على أن التنمية لا تستقيم مع:
• الاستبداد
• الفساد
• اقتصاد الريع
• خنق الحياة السياسية
• خنق الحريات