الطفل المغربي بين تعليم العقل والنقل
◆ سليم رشيد
أحيانا نصادف إنسانا نُعجب بأخلاقه وأدبه ورُقي تفكيره. فنَمتدحه لما هو عليه، مفترضين أن الفضل في ذلك يعود له حصريا، متناسين أنه وعلى امتداد أربعة عشرة سنة، هي سنوات طفولته، كان مجرد عجين طيع في يد غيره، هو من شكله وصنعه، وهو من يعود له الفضل الأكبر في نجاحه.
إن تجربة صناعة “إنسان” هي تجربة عمر، تقوم على الكثير من الشروط والمستلزمات. لكن. هل بتكرار هذه الشروط يمكننا تكرار تجربة النجاح، وصُنع آلاف النسخ من شخصية متفوقه، تقوم بالبلاد والعباد؟
هذا بالفعل ما تصبو إليه كل المؤسسات التعليمية عبر العالم منذ نشأتها. لكن قبل التطرق للسبل الكفيلة بصناعة هذا الإنسان الناجح. الأولى أن نتفق على ماهية الإنسان أولا.
سواء في الغرب، أو الشرق، أو الشمال، أو الجنوب،فإن جُل البشر اتفقوا على أن للإنسان بعدين رئيسيين:
- البعد الأول هو العقل: ويقوم على المنهج العقلي التجريبي كسبيل للمعرفة. مع مراجعة مستمرة للمسلمات والأسس بالاعتماد على الشك المنهجي والنقد الذاتي. كل ذلك في إطار من حرية الفكر والعقيدة والحق في التعبير.
- البعد الثاني وهو البعد الأخلاقي: ويعتمد على مبادئ حقوق الإنسان الكونية، كما تعارف عليها البشر.
على الخلاف من ذلك، وعلى خلاف إجماع جل بقاع العالم، ظللنا نراوح مكاننا ممزقين بين النموذج الحداثي السالف الذكر، ونموذج ثراتي يقول بالإنسان “الناقل” (من النقل): هذا الأخير، يعتمد بدل العقل، على الإيمان بالغيبيات، والتصديق بالنصوص المنقولة والاكتفاء بتفسيرها.
وبدل الأخلاق الإنسانية الكونية يحصر الأخلاق في إطار التقيد بالتشريعات الدينية كمحدد للحلال والحرام.
هذاالتمزق بين النموذجين الذي نعيشه اليوم، عاشته على مدى قرون كل الأجيال التي سبقتنا، وخاضت محاولات عديدة للتوفيق بينهما، أو لإثبات عدم التعارض بين العقل والنقل (أو بين العلم والدين).
عاشه المعتزلة في صراعهم مع أهل السنة والجماعة.
عاشه ابن تيمية في محاولته “درء تعارض العقل والنقل”.
عاشه ابن رشد في”فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”.
وعاشه محمد عابد الجابري من خلال مفاهيم العقل البياني والعرفاني والبرهاني.
وسنعيشه لألف سنة أخرى.
وهكذا وفي ظل غياب الحسم، ستظل الأسرة المغربية التقليدية بكل محدداتها الإيديولوجية هي التي تلعب دور صناعة الإنسان “الناقل”. فتدفع في سن السادسة إلى المدرسة، بطفل راشد “مكتمل” النمو محسوم العقيدة والفكر والتوجهات، ليقتصر دور المدرسة على ثلاثة غايات:
- تكريس وتأكيد التوجه الفكري المقرر والمحسوم مسبقا من طرف الأسرة، من خلال بعض المواد التلقينية (والتي تأخذ مساحة كبيرة من الوقت، الشيء الذي يثقل كاهل الطفل المغربي دونا عن غيره ويكرس فيه عقلية التلقين دون فهم).
- محو أمية الكتابة والقراءة : والتي عوض أن ننحو فيها سبيل اكتساب اللغة بالسليقة عن طريق كثرة القراءة والاطلاع. نثقل كاهل الطفل بحفظ قواعد نحو متكلفة فارغة من أي روح فنية أدبية. (زد على ذلك عدم حسمنا في هويتنا اللغوية وكذا لغتنا الثانية).
- الدفع بالطفل -تحت ضغوط نفسية مَرضية- في سباق محموم دارويني عنوانه البقاء للأقوى. حيث يكون عليه ابتلاع أكبر كمية من المعلومات حد التخمة، في أقل مدة ممكنة، قصد اجتياز الامتحانات بأعلى تقديرات ليكون من الأوائل، وككل تخمة، ينتهي الأمر بعسر هضم واسترجاع كلي لما في الأحشاء بمجرد نهاية الامتحان، وهو منهج يعاكس تماما التجارب الرائدة والناجحة، كما هو الحال في الدول الإسكندنافية.
نتيجة لكل ذلك نكون قد شكّلنا إنسانا دغمائيا، متعصبا، جاهلا، مهزوزا نفسيا، وفوق ذلك ربما عاطلا عن العمل!
لأننا بكل بساطة، وفي خضم كل تلك الفوضى والتشرذم، مزقنا الطفل وقدمنا له كل الأجوبة العقدية الفكرية التقنية والعلمية التي تريحنا، وبأسرع وقت ممكن، ونسينا (أو تناسينا نتيجة الخوف) أن نفسح له المجال كي يغشاه الفضول، ويقتحمه السؤال.
إنه إنسان مثخن بالأجوبة ولكنه لا يملك سؤالا واحدا.. مع أن السؤال هو الذي يجعل كينونة الإنسان منفتحة على الوجود، غير نهائية وغير محسومة مسبقا.. كينونة غير معلبة، غير قابلة للتصنيع كما زعمنا آنفا. بل هي لوحة فنية قابلة للخلق والإبداع.. فأسمى ما يمكن أن تقدمه المدرسة للطفل، هي أن تمكنه من تقنيات الإمساك بالريشة حتى يتسنى له رسم حياته بنفسه ليحبها ويحب نفسه.