الأنفلونزا الإسبانية.. الجدة الضارية لكورونا
◆ عادل رضى - روسيا
قبل مئة عام، ضرب فيروس قوي الكرة الأرضية وتفشى إلى درجة أنه أصاب ثلث البشر في ذلك الزمان، ليترك بصمة سوداء عرفت باسم “الأنفلونزا الإسبانية”. بدأت الأنفلونزا الإسبانية في مكان محدود، تماما كما في حالة فيروس كورونا الذي كانت شرارة تفشيه في سوق المأكولات البحرية بمدينة ووهان الصينية.
ويقول مؤرخون إن الفيروس انتشر أولا عام 1918، في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، التي اعتبروها مسؤولة بصورة جزئية عن تفشي المرض، وعرفت بجائحة أنفلونزا 1918 أو ما عرف بالأنفلونزا الإسبانية أو الوافدة الإسبانيولية، وهي جائحة أنفلونزا قاتلة انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وخلفت ملايين القتلى.
وتميز الفيروس بسرعة العدوى حيث تقدر الإحصائيات الحديثة أن حوالي 500 مليون شخص أصيبوا بالعدوى وأظهروا علامات إكلينيكية واضحة، وما بين 50 إلى 100 مليون شخصا توفوا جراء الإصابة بالمرض أي ما يعادل ضعف المتوفيين في الحرب العالمية الأولى. وقد كانت الغالبية العظمى من ضحايا هذا الوباء من البالغين واليافعين الأصحاء، بعكس ما يحصل عادة من أن يستهدف الوباء كبار السن والأطفال والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة.
تسببت الأمراض المعدية بسبب هذا الوباء في الحد من متوسط العمر المتوقع في أوائل القرن العشرين، ولكن متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة انخفض بنحو 12 عامًا في السنة الأولى للوباء. تقتل معظم حالات تفشي الأنفلونزا بشكل غير متناسب الصغار جدًا والكبار جدًا، مع ارتفاع معدل النجاة لما بين العمرين، لكن وباء الإنفلونزا الإسبانية أدى إلى معدل وفيات أعلى من المتوقع عند الشباب البالغين.
للحفاظ على المعنويات، قلصت الرقابة في زمن الحرب التقارير عن المرض والوفيات في ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، على عكس إسبانيا التي كانت محايدة في الحرب، وبذلك تمت تغطية مرض الملك ألفونسو الثالث عشر، وقد خلقت القصص المتداولة انطباعًا خاطئًا عن إسبانيا لدى الناس، إضافةً للملك، أصيب أيضا سياسيون بارزون. أيضًا أُصيب نحو 30-40% من الأشخاص الموجودين في أماكن مغلقة، مثل المدارس والثكنات والمباني الحكومية. وتعين خفض خدمات الترام بمدريد وتعطيل خدمة التلغراف لعدم توافر عدد كاف من الموظفين الأصحَّاء للعمل. وعجزت المنظومة الصحية عن توفير الخدمات والمستلزمات الطبية.
انتشر اسم «الأنفلونزا الإسبانية» سريعًا في بريطانيا. وذكر كتاب نايل جونسون Niall Johnson «بريطانيا ووباء الأنفلونزا 1918-1919» (دار النشر البريطانية روتلدج، عام 2006)، أن الصحافة البريطانية ألقت اللوم على الطقس الإسباني في انتشار الوباء: «إن الربيع الإسباني الجاف العاصف موسمٌ بشع وغير صحي».
وذكر مقال في صحيفة التايمز أن الرياح الشديدة التي نشرت الغبار المحمَّل بالميكروبات، هي سبب الوباء في إسبانيا، وأن مناخ بريطانيا الرطب قد يحد من انتشار الأنفلونزا، ما أدى إلى تسمية الوباء بالأنفلونزا الإسبانية.
يقدم العلماء عدة تفسيرات محتملة لارتفاع معدل الوفيات بسبب وباء إنفلونزا عام 1918. فقد أظهرت بعض التحاليل أن الفيروس قاتل بشكل خاص لأنه يسبب عاصفة السيتوكين، والتي تخرب نظام المناعة الأقوى لدى الشباب. في المقابل، وفي تحليل صدر سنة 2007 بالمجلات الطبية حول هاته الفترة الوبائية أن العدوى الفيروسية لم تكن أكثر قوةً من سلالات الأنفلونزا السابقة. بدلاً من ذلك تم طرح فرضية أن سوء التغذية والمخيمات الطبية المكتظة والمستشفيات المهملة وسوء النظافة الصحية يعززان من العدوى البكتيرية الإضافية.
اقترحت نظرية جديدة نُشرت في ناشيونال جيوغرافيك سنة 2014 أن الفيروس ظهر لأول مرة في الصين. إذ ذكرت تقارير -لم تُعلَن حينذاك- انتقال مجموعة من العمال الصينيين إلى كندا في عامي 1917 و1918. كان معظمهم عمالًا زراعيين من المناطق الريفية النائية في الصين، وفقًا لكتاب مارك همفريزMark Humphries “الطاعون الأخير” (مطبوعات جامعة تورنتو، 2013) .وأمضوا 6 أيام في حاويات قطارات مغلقة في أثناء نقلهم عبر البلاد، قبل مواصلة طريقهم إلى فرنسا، حيث طُلب منهم حفر الخنادق وتفريغ القطارات وتركيب خطوط السكك الحديدية وشق الطرق وإصلاح الدبابات المتضررة، ونُقل أكثر من 90 ألف عامل منهم إلى الجبهة الغربية.
يروي الكتاب أن نحو 3000 عامل صيني من أصل 25 ألفًا أنهوا رحلتهم إلى كندا في الحجر الصحي. وعزا الأطباء الكنديون وقتها مرض العمال [بسبب الصورة النمطية العرقية] إلى «تكاسل الصينيين» ولم يأخذوا أعراض الإصابة على محمل الجد، وحين وصل هؤلاء العمال إلى شمال فرنسا في أوائل 1918، كان الكثير منهم مرضى، وسرعان ما توفي المئات.
في أواخر ربيع 1918، أرسلت خدمة إخبارية إسبانية خطابًا إلى مكتب رويترز في لندن، لإبلاغ وكالة الأنباء أن «نوعًا غريبًا من الأمراض ذا طابع وبائي ظهر في مدريد، وهو وباء معتدل، إذ لم تُسجل أي وفيات» وفقًا لكتاب هنري ديفيز- Henry Davies «الأنفلونزا الإسبانية» (هنري هولت وشركاه، عام 2000). وبعد أسبوعين من إرسال التقرير، أصيب أكثر من 100 ألف شخص بالمرض.
حار الأطباء بم سينصحون مرضاهم. حثّ بعض الأطباء الناس على تجنب الأماكن المزدحمة أو التواصل المباشر مع الآخرين، وأوصى البعض الآخر بالعلاجات الطبيعية كتناول القرفة وشرب النبيذ أو شرب مرق لحم البقر، وطلب الأطباء من الناس أيضًا تغطية أفواههم وأنوفهم في الأماكن العامة. وعزا أطباء آخرون الجائحة إلى استخدام الأسبرين، مع أنه قد ساعد بعض المصابين حينذاك.
نُشر إعلان في الصحف البريطانية في يونيو 1918، لينشر الوعي وسط الناس حول أعراض الأنفلونزا، لكن اتضح بعد ذلك أنه كان إعلانًا لتسويق أقراص فورمامنت Formamint، وهي أقراص أنتجها مصنع للفيتامينات. ولم تُوقف وفاة العشرات الترويج للعلاجات الزائفة بهدف جني الأموال. حيث زعم الإعلان أن النعناع هو «أفضل وسيلة لمنع العدوى»، وأنه يجب على كل شخص -حتى الأطفال- أن يتناول 4-5 أقراص من فورمامنت يوميًّا ليشعر بالتحسن!
تلقى الأمريكيون نصائح مماثلة حول كيفية تجنب الإصابة بالعدوى. إذ نُصحوا بعدم مصافحة الآخرين، والبقاء في منازلهم وتجنب لمس الكتب بالمكتبات وارتداء الكمامات. وأُغلقت المدارس والمسارح، وفرضت وزارة الصحة في مدينة نيويورك تعديلات صارمة لقانون الصحة يجرِّم البصق في الشوارع.
سببت الحرب العالمية الأولى نقصًا في الأطباء في بعض المناطق، وزاد مرض الكثير من الأطباء الأمر سوءًا. وتحولت المدارس وغيرها إلى مستشفيات مؤقتة، وحل طلبة الطب محل الأطباء في بعض الحالات.
بدأ عدد وفيات الإنفلونزا الإسبانية يتناقص بحلول ربيع 1919، تاركًا البلدان مُدمَّرةً في أعقاب تفشي المرض وعجز الأطقم الطبية عن وقف انتشاره، وعمت الفوضى العالم لتُذكر البشرية بوباء الطاعون الذي انتشر قبل 500 سنة.
أشار كتاب نانسي بريستو Nancy Bristow «الجائحة الأمريكية: عوالم وباء الأنفلونزا المفقودة عام 1918» (دار نشر جامعة أكسفورد، عام 2016) إلى أن الفيروس أصاب نحو 500 مليون شخص حول العالم. أي نحو ثلث سكان العالم حينذاك. وبلغ عدد الوفيات 50 مليون شخص، أو أكثر.
وتكدّست الجثث وامتلأت المقابر، واضطرت الأسر إلى حفر مقابر لأبنائها. وأدَّت الوفيات إلى تناقص عمال المزارع، ما أثر على موسم الحصاد الصيفي. أما في بريطانيا، فقد أثّر نقص العمالة والموارد سلبًا على بعض القطاعات الخدمية، مثل قطاع جمع النفايات.
وانتشر الوباء في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب المحيط الهادي. وبلغت الوفيات في الهند 50 حالة لكل ألف شخص، وهو معدل صادم.
ما زالت الأنفلونزا الإسبانية أشد أوبئة الإنفلونزا فتكًا إلى الآن، إذ قتلت 1 – 3% من سكان العالم.
يشبه ذلك الجائحة التي ضربت العالم عامي 2009 و2010، بعد ظهور شكل جديد من سلالة أنفلونزا الخنازير H1N1. سُمي المرض «إنفلونزا الخنازير» لأن الفيروس المُسبب له يشبه الفيروس الموجود في الخنازير (وليس لأن الفيروس جاء من الخنازير).
سببت إنفلونزا الخنازير أمراضًا تنفسية أودت بحياة نحو 150 – 575 ألف شخص حول العالم في العام الأول وفقًا لمراكز CDC. يعادل ذلك نحو 0.001 – 0.007% من سكان العالم، أي أن الأضرار كانت أقل كثيرًا من نتائج جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918.
وأفادت الإحصائيات أن نحو 80% من وفيات إنفلونزا الخنازير كانت بين الأشخاص دون 65 عامًا، وهو أمر غير معتاد، إذ إن نسبة 70- 90% من وفيات الإنفلونزا الموسمية تحدث بين الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 65 عامًا.
أُدرج حاليًا لقاح لسلالة الفيروسات المسببة لإنفلونزا الخنازير ضمن لقاحات الأنفلونزا السنوية. وما زال الناس يموتون بسبب الأنفلونزا كل عام، ولكن متوسط الأرقام أقل بكثير من أرقام وفيات أنفلونزا الخنازير أو الأنفلونزا الإسبانية. وتسبب الأنفلونزا الموسمية سنويًا نحو 3 – 5 ملايين إصابة حادة، ونحو 290 – 650 ألف حالة وفاة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
فهل سيندحر وباء كورونا أيضا أمام التقدم العلمي.. والتاريخ شاهد على أن الأنفلونزا الإسبانية مرت من هنا أيضا ؟!!