الأنفلونزا الإسبانية.. الجدة الضارية لكورونا

◆ عادل رضى - روسيا

◆ عادل رضى – روسيا

قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام،‭ ‬ضرب‭ ‬فيروس‭ ‬قوي‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬وتفشى‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنه‭ ‬أصاب‭ ‬ثلث‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان،‭ ‬ليترك‭ ‬بصمة‭ ‬سوداء‭ ‬عرفت‭ ‬باسم‭ “‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭”. ‬بدأت‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬محدود،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬شرارة‭ ‬تفشيه‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬المأكولات‭ ‬البحرية‭ ‬بمدينة‭ ‬ووهان‭ ‬الصينية‭.‬

ويقول‭ ‬مؤرخون‭ ‬إن‭ ‬الفيروس‭ ‬انتشر‭ ‬أولا‭ ‬عام‭ ‬1918،‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬التي‭ ‬اعتبروها‭ ‬مسؤولة‭ ‬بصورة‭ ‬جزئية‭ ‬عن‭ ‬تفشي‭ ‬المرض،‭ ‬وعرفت‭ ‬بجائحة‭ ‬أنفلونزا‭ ‬1918‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬بالأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬أو‭ ‬الوافدة‭ ‬الإسبانيولية،‭ ‬وهي‭ ‬جائحة‭ ‬أنفلونزا‭ ‬قاتلة‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والعالم‭ ‬وخلفت‭ ‬ملايين‭ ‬القتلى‭.‬

وتميز‭ ‬الفيروس‭ ‬بسرعة‭ ‬العدوى‭ ‬حيث‭ ‬تقدر‭ ‬الإحصائيات‭ ‬الحديثة‭ ‬أن‭ ‬حوالي‭ ‬500‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬أصيبوا‭ ‬بالعدوى‭ ‬وأظهروا‭ ‬علامات‭ ‬إكلينيكية‭ ‬واضحة،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬50‭ ‬إلى‭ ‬100‭ ‬مليون‭ ‬شخصا‭ ‬توفوا‭ ‬جراء‭ ‬الإصابة‭ ‬بالمرض‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬ضعف‭ ‬المتوفيين‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬من‭ ‬البالغين‭ ‬واليافعين‭ ‬الأصحاء،‭ ‬بعكس‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬عادة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يستهدف‭ ‬الوباء‭ ‬كبار‭ ‬السن‭ ‬والأطفال‭ ‬والأشخاص‭ ‬المرضى‭ ‬أو‭ ‬ضعيفي‭ ‬المناعة‭.‬

تسببت‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬في‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬متوسط‭ ‬العمر‭ ‬المتوقع‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ولكن‭ ‬متوسط‭ ‬العمر‭ ‬المتوقع‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬انخفض‭ ‬بنحو‭ ‬12‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الأولى‭ ‬للوباء‭. ‬تقتل‭ ‬معظم‭ ‬حالات‭ ‬تفشي‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬متناسب‭ ‬الصغار‭ ‬جدًا‭ ‬والكبار‭ ‬جدًا،‭ ‬مع‭ ‬ارتفاع‭ ‬معدل‭ ‬النجاة‭ ‬لما‭ ‬بين‭ ‬العمرين،‭ ‬لكن‭ ‬وباء‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬معدل‭ ‬وفيات‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬المتوقع‭ ‬عند‭ ‬الشباب‭ ‬البالغين‭.‬

للحفاظ‭ ‬على‭ ‬المعنويات،‭ ‬قلصت‭ ‬الرقابة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ ‬التقارير‭ ‬عن‭ ‬المرض‭ ‬والوفيات‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬وفرنسا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬إسبانيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬محايدة‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬وبذلك‭ ‬تمت‭ ‬تغطية‭ ‬مرض‭ ‬الملك‭ ‬ألفونسو‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬وقد‭ ‬خلقت‭ ‬القصص‭ ‬المتداولة‭ ‬انطباعًا‭ ‬خاطئًا‭ ‬عن‭ ‬إسبانيا‭ ‬لدى‭ ‬الناس،‭ ‬إضافةً‭ ‬للملك،‭ ‬أصيب‭ ‬أيضا‭ ‬سياسيون‭ ‬بارزون‭. ‬أيضًا‭ ‬أُصيب‭ ‬نحو‭ ‬30‭-‬40‭% ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬الموجودين‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬مغلقة،‭ ‬مثل‭ ‬المدارس‭ ‬والثكنات‭ ‬والمباني‭ ‬الحكومية‭. ‬وتعين‭ ‬خفض‭ ‬خدمات‭ ‬الترام‭ ‬بمدريد‭ ‬وتعطيل‭ ‬خدمة‭ ‬التلغراف‭ ‬لعدم‭ ‬توافر‭ ‬عدد‭ ‬كاف‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬الأصحَّاء‭ ‬للعمل‭. ‬وعجزت‭ ‬المنظومة‭ ‬الصحية‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬الخدمات‭ ‬والمستلزمات‭ ‬الطبية‭.‬

انتشر‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‮»‬‭ ‬سريعًا‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭. ‬وذكر‭ ‬كتاب‭ ‬نايل‭ ‬جونسون‭ ‬Niall Johnson‭ ‬‮«‬بريطانيا‭ ‬ووباء‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬1918‭-‬1919‮»‬‭ (‬دار‭ ‬النشر‭ ‬البريطانية‭ ‬روتلدج،‭ ‬عام‭ ‬2006‭)‬،‭ ‬أن‭ ‬الصحافة‭ ‬البريطانية‭ ‬ألقت‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬الطقس‭ ‬الإسباني‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬الوباء‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الربيع‭ ‬الإسباني‭ ‬الجاف‭ ‬العاصف‭ ‬موسمٌ‭ ‬بشع‭ ‬وغير‭ ‬صحي‮»‬‭.‬

وذكر‭ ‬مقال‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬التايمز‭ ‬أن‭ ‬الرياح‭ ‬الشديدة‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬الغبار‭ ‬المحمَّل‭ ‬بالميكروبات،‭ ‬هي‭ ‬سبب‭ ‬الوباء‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬وأن‭ ‬مناخ‭ ‬بريطانيا‭ ‬الرطب‭ ‬قد‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬الأنفلونزا،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تسمية‭ ‬الوباء‭ ‬بالأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭.‬

يقدم‭ ‬العلماء‭ ‬عدة‭ ‬تفسيرات‭ ‬محتملة‭ ‬لارتفاع‭ ‬معدل‭ ‬الوفيات‭ ‬بسبب‭ ‬وباء‭ ‬إنفلونزا‭ ‬عام‭ ‬1918‭. ‬فقد‭ ‬أظهرت‭ ‬بعض‭ ‬التحاليل‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬قاتل‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬لأنه‭ ‬يسبب‭ ‬عاصفة‭ ‬السيتوكين،‭ ‬والتي‭ ‬تخرب‭ ‬نظام‭ ‬المناعة‭ ‬الأقوى‭ ‬لدى‭ ‬الشباب‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬وفي‭ ‬تحليل‭ ‬صدر‭ ‬سنة‭ ‬2007‭ ‬بالمجلات‭ ‬الطبية‭ ‬حول‭ ‬هاته‭ ‬الفترة‭ ‬الوبائية‭ ‬أن‭ ‬العدوى‭ ‬الفيروسية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أكثر‭ ‬قوةً‭ ‬من‭ ‬سلالات‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬السابقة‭. ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تم‭ ‬طرح‭ ‬فرضية‭ ‬أن‭ ‬سوء‭ ‬التغذية‭ ‬والمخيمات‭ ‬الطبية‭ ‬المكتظة‭ ‬والمستشفيات‭ ‬المهملة‭ ‬وسوء‭ ‬النظافة‭ ‬الصحية‭ ‬يعززان‭ ‬من‭ ‬العدوى‭ ‬البكتيرية‭ ‬الإضافية‭.‬

اقترحت‭ ‬نظرية‭ ‬جديدة‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬ناشيونال‭ ‬جيوغرافيك‭ ‬سنة‭ ‬2014‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬ظهر‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الصين‭. ‬إذ‭ ‬ذكرت‭ ‬تقارير‭ -‬لم‭ ‬تُعلَن‭ ‬حينذاك‭- ‬انتقال‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬الصينيين‭ ‬إلى‭ ‬كندا‭ ‬في‭ ‬عامي‭ ‬1917‭ ‬و1918‭. ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬عمالًا‭ ‬زراعيين‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬الريفية‭ ‬النائية‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬وفقًا‭ ‬لكتاب‭ ‬مارك‭ ‬همفريزMark‭   ‬Humphries‭  “‬الطاعون‭ ‬الأخير‭” (‬مطبوعات‭ ‬جامعة‭ ‬تورنتو،‭ ‬2013‭) .‬وأمضوا‭ ‬6‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬حاويات‭ ‬قطارات‭ ‬مغلقة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬نقلهم‭ ‬عبر‭ ‬البلاد،‭ ‬قبل‭ ‬مواصلة‭ ‬طريقهم‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا،‭ ‬حيث‭ ‬طُلب‭ ‬منهم‭ ‬حفر‭ ‬الخنادق‭ ‬وتفريغ‭ ‬القطارات‭ ‬وتركيب‭ ‬خطوط‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭ ‬وشق‭ ‬الطرق‭ ‬وإصلاح‭ ‬الدبابات‭ ‬المتضررة،‭ ‬ونُقل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬90‭ ‬ألف‭ ‬عامل‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬الجبهة‭ ‬الغربية‭.‬

يروي‭ ‬الكتاب‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬3000‭ ‬عامل‭ ‬صيني‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬25‭ ‬ألفًا‭ ‬أنهوا‭ ‬رحلتهم‭ ‬إلى‭ ‬كندا‭ ‬في‭ ‬الحجر‭ ‬الصحي‭. ‬وعزا‭ ‬الأطباء‭ ‬الكنديون‭ ‬وقتها‭ ‬مرض‭ ‬العمال‭ [‬بسبب‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬العرقية‭] ‬إلى‭ ‬‮«‬تكاسل‭ ‬الصينيين‮»‬‭ ‬ولم‭ ‬يأخذوا‭ ‬أعراض‭ ‬الإصابة‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الجد،‭ ‬وحين‭ ‬وصل‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمال‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬1918،‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬مرضى،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬توفي‭ ‬المئات‭.‬

في‭ ‬أواخر‭ ‬ربيع‭ ‬1918،‭ ‬أرسلت‭ ‬خدمة‭ ‬إخبارية‭ ‬إسبانية‭ ‬خطابًا‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬رويترز‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬لإبلاغ‭ ‬وكالة‭ ‬الأنباء‭ ‬أن‭ ‬‮«‬نوعًا‭ ‬غريبًا‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬ذا‭ ‬طابع‭ ‬وبائي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬مدريد،‭ ‬وهو‭ ‬وباء‭ ‬معتدل،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تُسجل‭ ‬أي‭ ‬وفيات‮»‬‭ ‬وفقًا‭ ‬لكتاب‭ ‬هنري‭ ‬ديفيز‭- ‬Henry Davies‭ ‬‮«‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‮»‬‭ (‬هنري‭ ‬هولت‭ ‬وشركاه،‭ ‬عام‭ ‬2000‭). ‬وبعد‭ ‬أسبوعين‭ ‬من‭ ‬إرسال‭ ‬التقرير،‭ ‬أصيب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬بالمرض‭.‬

حار‭ ‬الأطباء‭ ‬بم‭ ‬سينصحون‭ ‬مرضاهم‭. ‬حثّ‭ ‬بعض‭ ‬الأطباء‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تجنب‭ ‬الأماكن‭ ‬المزدحمة‭ ‬أو‭ ‬التواصل‭ ‬المباشر‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأوصى‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬بالعلاجات‭ ‬الطبيعية‭ ‬كتناول‭ ‬القرفة‭ ‬وشرب‭ ‬النبيذ‭ ‬أو‭ ‬شرب‭ ‬مرق‭ ‬لحم‭ ‬البقر،‭ ‬وطلب‭ ‬الأطباء‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أيضًا‭ ‬تغطية‭ ‬أفواههم‭ ‬وأنوفهم‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭. ‬وعزا‭ ‬أطباء‭ ‬آخرون‭ ‬الجائحة‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬الأسبرين،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬ساعد‭ ‬بعض‭ ‬المصابين‭ ‬حينذاك‭.‬

نُشر‭ ‬إعلان‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬1918،‭ ‬لينشر‭ ‬الوعي‭ ‬وسط‭ ‬الناس‭ ‬حول‭ ‬أعراض‭ ‬الأنفلونزا،‭ ‬لكن‭ ‬اتضح‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬إعلانًا‭ ‬لتسويق‭ ‬أقراص‭ ‬فورمامنت‭ ‬Formamint،‭ ‬وهي‭ ‬أقراص‭ ‬أنتجها‭ ‬مصنع‭ ‬للفيتامينات‭. ‬ولم‭ ‬تُوقف‭ ‬وفاة‭ ‬العشرات‭ ‬الترويج‭ ‬للعلاجات‭ ‬الزائفة‭ ‬بهدف‭ ‬جني‭ ‬الأموال‭.‬‭ ‬حيث‭ ‬زعم‭ ‬الإعلان‭ ‬أن‭ ‬النعناع‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬لمنع‭ ‬العدوى‮»‬،‭ ‬وأنه‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ -‬حتى‭ ‬الأطفال‭- ‬أن‭ ‬يتناول‭ ‬4‭-‬5‭ ‬أقراص‭ ‬من‭ ‬فورمامنت‭ ‬يوميًّا‭ ‬ليشعر‭ ‬بالتحسن‭!‬

تلقى‭ ‬الأمريكيون‭ ‬نصائح‭ ‬مماثلة‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تجنب‭ ‬الإصابة‭ ‬بالعدوى‭. ‬إذ‭ ‬نُصحوا‭ ‬بعدم‭ ‬مصافحة‭ ‬الآخرين،‭ ‬والبقاء‭ ‬في‭ ‬منازلهم‭ ‬وتجنب‭ ‬لمس‭ ‬الكتب‭ ‬بالمكتبات‭ ‬وارتداء‭ ‬الكمامات‭. ‬وأُغلقت‭ ‬المدارس‭ ‬والمسارح،‭ ‬وفرضت‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬تعديلات‭ ‬صارمة‭ ‬لقانون‭ ‬الصحة‭ ‬يجرِّم‭ ‬البصق‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭.‬

سببت‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬نقصًا‭ ‬في‭ ‬الأطباء‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناطق،‭ ‬وزاد‭ ‬مرض‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭ ‬الأمر‭ ‬سوءًا‭. ‬وتحولت‭ ‬المدارس‭ ‬وغيرها‭ ‬إلى‭ ‬مستشفيات‭ ‬مؤقتة،‭ ‬وحل‭ ‬طلبة‭ ‬الطب‭ ‬محل‭ ‬الأطباء‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭.‬

بدأ‭ ‬عدد‭ ‬وفيات‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬يتناقص‭ ‬بحلول‭ ‬ربيع‭ ‬1919،‭ ‬تاركًا‭ ‬البلدان‭ ‬مُدمَّرةً‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬تفشي‭ ‬المرض‭ ‬وعجز‭ ‬الأطقم‭ ‬الطبية‭ ‬عن‭ ‬وقف‭ ‬انتشاره،‭ ‬وعمت‭ ‬الفوضى‭ ‬العالم‭ ‬لتُذكر‭ ‬البشرية‭ ‬بوباء‭ ‬الطاعون‭ ‬الذي‭ ‬انتشر‭ ‬قبل‭ ‬500‭ ‬سنة‭.‬

أشار‭ ‬كتاب‭ ‬نانسي‭ ‬بريستو‭ ‬Nancy Bristow‭ ‬‮«‬الجائحة‭ ‬الأمريكية‭: ‬عوالم‭ ‬وباء‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬المفقودة‭ ‬عام‭ ‬1918‮»‬‭ (‬دار‭ ‬نشر‭ ‬جامعة‭ ‬أكسفورد،‭ ‬عام‭ ‬2016‭) ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬أصاب‭ ‬نحو‭ ‬500‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬أي‭ ‬نحو‭ ‬ثلث‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬حينذاك‭. ‬وبلغ‭ ‬عدد‭ ‬الوفيات‭ ‬50‭ ‬مليون‭ ‬شخص،‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭.‬

وتكدّست‭ ‬الجثث‭ ‬وامتلأت‭ ‬المقابر،‭ ‬واضطرت‭ ‬الأسر‭ ‬إلى‭ ‬حفر‭ ‬مقابر‭ ‬لأبنائها‭. ‬وأدَّت‭ ‬الوفيات‭ ‬إلى‭ ‬تناقص‭ ‬عمال‭ ‬المزارع،‭ ‬ما‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬موسم‭ ‬الحصاد‭ ‬الصيفي‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬فقد‭ ‬أثّر‭ ‬نقص‭ ‬العمالة‭ ‬والموارد‭ ‬سلبًا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬القطاعات‭ ‬الخدمية،‭ ‬مثل‭ ‬قطاع‭ ‬جمع‭ ‬النفايات‭.‬

وانتشر‭ ‬الوباء‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وإفريقيا‭ ‬وأمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬وجنوب‭ ‬المحيط‭ ‬الهادي‭. ‬وبلغت‭ ‬الوفيات‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬50‭ ‬حالة‭ ‬لكل‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬وهو‭ ‬معدل‭ ‬صادم‭.‬

ما‭ ‬زالت‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬أشد‭ ‬أوبئة‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬فتكًا‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬إذ‭ ‬قتلت‭ ‬1‭ ‬–‭ ‬3%‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭.‬

يشبه‭ ‬ذلك‭ ‬الجائحة‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬العالم‭ ‬عامي‭ ‬2009‭ ‬و2010،‭ ‬بعد‭ ‬ظهور‭ ‬شكل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬أنفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬H1N1‭. ‬سُمي‭ ‬المرض‭ ‬‮«‬إنفلونزا‭ ‬الخنازير‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬الفيروس‭ ‬المُسبب‭ ‬له‭ ‬يشبه‭ ‬الفيروس‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬الخنازير‭ (‬وليس‭ ‬لأن‭ ‬الفيروس‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬الخنازير‭).‬

سببت‭ ‬إنفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬أمراضًا‭ ‬تنفسية‭ ‬أودت‭ ‬بحياة‭ ‬نحو‭ ‬150‭ ‬–‭ ‬575‭ ‬ألف‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الأول‭ ‬وفقًا‭ ‬لمراكز‭ ‬CDC‭. ‬يعادل‭ ‬ذلك‭ ‬نحو‭ ‬0‭.‬001‭ ‬–‭ ‬0.007%‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الأضرار‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬جائحة‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬عام‭ ‬1918‭.‬

وأفادت‭ ‬الإحصائيات‭ ‬أن‭ ‬نحو‭ ‬80‭% ‬من‭ ‬وفيات‭ ‬إنفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬كانت‭ ‬بين‭ ‬الأشخاص‭ ‬دون‭ ‬65‭ ‬عامًا،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬معتاد،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬نسبة‭ ‬70‭- ‬90‭% ‬من‭ ‬وفيات‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الموسمية‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬تتجاوز‭ ‬أعمارهم‭ ‬65‭ ‬عامًا‭.‬

أُدرج‭ ‬حاليًا‭ ‬لقاح‭ ‬لسلالة‭ ‬الفيروسات‭ ‬المسببة‭ ‬لإنفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬ضمن‭ ‬لقاحات‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬السنوية‭. ‬وما‭ ‬زال‭ ‬الناس‭ ‬يموتون‭ ‬بسبب‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬ولكن‭ ‬متوسط‭ ‬الأرقام‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أرقام‭ ‬وفيات‭ ‬أنفلونزا‭ ‬الخنازير‭ ‬أو‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭. ‬وتسبب‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الموسمية‭ ‬سنويًا‭ ‬نحو‭ ‬3‭ ‬–‭ ‬5‭ ‬ملايين‭ ‬إصابة‭ ‬حادة،‭ ‬ونحو‭ ‬290‭ ‬–‭ ‬650‭ ‬ألف‭ ‬حالة‭ ‬وفاة،‭ ‬وفقًا‭ ‬لمنظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭.‬

فهل‭ ‬سيندحر‭ ‬وباء‭ ‬كورونا‭ ‬أيضا‭ ‬أمام‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭.. ‬والتاريخ‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬مرت‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬أيضا‭ ‬؟‭!!‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى