الثقافة

الشيطان وذكرى

◆ زهير بوعزاوي

في‭ ‬كنف‭ ‬بادية‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الأطلس‭ ‬المتوسط،‭ ‬تدعى‭ ‬بالأمازيغية‭ “‬أدار‭ ‬أوحمود‭”‬،‭ ‬بين‭ ‬جبالها‭ ‬المناغية‭ ‬للسماء‭ ‬عشت‭ ‬سنوات‭ ‬الصبا‭ ‬طائشًا،‭ ‬لا‭ ‬يفارقني‭ ‬صندلُ‭ ‬امتطاه‭ ‬البلى،‭ ‬وقميص‭ ‬أبيض‭ ‬يشبه‭ ‬الخرقة،‭ ‬تعدت‭ ‬الثقوب‭ ‬الصغيرة‭ ‬المنقوشة‭ ‬عليه‭ ‬ثقوب‭ ‬الغربال،‭ ‬ارتدي‭ ‬سروالاً‭ ‬أسود‭ ‬باهت‭ ‬اللون،‭ ‬ممزقًا‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬شعري‭ ‬الأشعث‭ ‬مخضوب‭ ‬بحمرة‭ ‬قانية،‭ ‬كنت‭ ‬أشبه‭ ‬الفزاعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل‭.‬

أحببت‭ “‬أحيدوس‭” ‬حد‭ ‬الوله،‭ ‬ألبي‭ ‬نداء‭ ‬الدف‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬ألتهم‭ ‬المسافات‭ ‬الطويلة‭ ‬سيرًا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬البوادي‭ ‬والمداشر‭ ‬المجاورة‭ ‬والبعيدة‭ ‬عنا،‭ ‬أمر‭ ‬على‭ ‬المقابر‭ ‬والأودية‭ ‬التي‭ ‬يشاع‭ ‬أنها‭ ‬مسكونة‭ ‬بالجن‭ ‬دون‭ ‬خوف،‭ ‬أصارع‭ ‬صهد‭ ‬الليل،‭ ‬أمشط‭ ‬الطرق‭ ‬الواعرة،‭ ‬تطاردني‭ ‬الكلاب،‭ ‬أهرب،‭ ‬انتحي‭ ‬خلف‭ ‬الصخور‭ ‬ركنًا‭ ‬قصيًا،‭ ‬أختبئ،‭ ‬اتسلق‭ ‬الجبال‭ ‬الباسقة‭ ‬كلما‭ ‬صادفت‭ ‬خنزيرًا‭ ‬بريًا،‭ ‬أضحك‭ ‬ملء‭ ‬شدقي،‭ ‬ألعن‭ ‬قلبي‭ ‬المولوع‭ ‬برقصة‭ “‬أحيدوس‭”‬،‭ ‬أواصل‭ ‬المغامرة،‭ ‬أبلغ‭ ‬قصدي،‭ ‬أخرج‭ ‬الدف‭ ‬من‭ ‬مخلاة‭ ‬خضراء‭ ‬لا‭ ‬تفارقني‭.‬

أبحث‭ ‬عن‭ ‬القش،‭ ‬أوقد‭ ‬النار‭ ‬فيه،‭ ‬أمرر‭ ‬عليها‭ ‬الدف‭ ‬الصغير‭ ‬المجلد‭ ‬بجلد‭ ‬المعز،‭ ‬يشتد‭ ‬عوده،‭ ‬أرتمي‭ ‬في‭ ‬حضن‭ ‬دائرة‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬مئات‭ ‬الأجساد‭ ‬المختلفة،‭ ‬نساءً‭ ‬ورجالاً،‭ ‬تختلط‭ ‬رائحة‭ ‬العرق‭ ‬بالعطر،‭ ‬يتفاعلان،‭ ‬يصنعان‭ ‬رائحة‭ ‬لا‭ ‬تؤذي‭ ‬أحدًا،‭ ‬يملي‭ ‬عقلي‭ ‬الأوامر‭ ‬على‭ ‬جسدي‭ ‬الغض،‭ ‬تبدأ‭ ‬الأكتاف‭ ‬في‭ ‬الاهتزاز،‭ ‬يرتخي‭ ‬جسدي،‭ ‬أطأطىء‭ ‬رأسي،‭ ‬أصيخ‭ ‬السمع‭ ‬إلى‭ ‬الدفوف‭ ‬التي‭ ‬تقرع،‭ ‬أصفع‭ ‬دفي‭ ‬بقوة،‭ ‬أشعر‭ ‬بالنشوة،‭ ‬أحرك‭ ‬قدمي‭ ‬مسايرًا‭ ‬إيقاع‭ ‬من‭ ‬يحوطني،‭ ‬يتلقفني‭ ‬اللامعنى،‭ ‬يلفظني‭ ‬الواقع،‭ ‬أسبر‭ ‬غور‭ ‬متاهة‭ ‬الغيب،‭ ‬أسافر‭ ‬عبر‭ ‬الزمان،‭ ‬أقطف‭ ‬زهور‭ ‬العدم،‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬أنتمي،‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬جانبي‭ ‬فتاتين‭ ‬حسناوين،‭ ‬فاغرتي‭ ‬الطول،‭ ‬تسدلان‭ ‬على‭ ‬ظهريهما‭ ‬خصلات‭ ‬الشعر‭ ‬المنهمرة‭ ‬كالشلالات،‭ ‬عيونهما‭ ‬الخضراء‭ ‬قاتلة،‭ ‬أوشامهما‭ ‬المزينة‭ ‬لذقنيهما‭ ‬تغويني،‭ ‬عنقاهما‭ ‬الطويلان‭ ‬تمنيتها‭ ‬جسرًا‭ ‬أعبر‭ ‬عليه‭ ‬إلى‭ ‬قلبيهما،‭ ‬الأنفاس‭ ‬تتداخل‭ ‬بقوة،‭ ‬أشم‭ ‬عبق‭ ‬الحناء،‭ ‬يصيبني‭ ‬في‭ ‬مقتل،‭ ‬جسداهما‭ ‬رطبان‭ ‬كوثر‭ ‬الشراشيف‭ ‬الدافئة،‭ ‬نرقص‭ ‬ونرقص،‭ ‬تحملت‭ ‬عبء‭ ‬مراقصتهما‭ ‬معًا،‭ ‬أحرك‭ ‬محركين‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته،‭ ‬تتقطع‭ ‬أنفاسهما،‭ ‬تغادر‭ ‬واحدة،‭ ‬اختلي‭ ‬بالمتبقية،‭ ‬خصرها‭ ‬يتموج‭ ‬كالحورية،‭ ‬يرتفع‭ ‬صدرها‭ ‬الفتي‭ ‬ويرتج،‭ ‬مازلت‭ ‬أرقص‭ ‬كمن‭ ‬مسه‭ ‬الضر،‭ ‬أتخبط‭ ‬خبط‭ ‬عشواء،‭ ‬لم‭ ‬أقاوم‭ ‬أنفاسها،‭ ‬يرغي‭ ‬الكمد‭ ‬في‭ ‬صدري،‭ ‬وعرشت‭ ‬في‭ ‬أيك‭ ‬وجداني‭ ‬حرارة‭ ‬قاتلة،‭ ‬همست‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬بخفة‭:‬

‭-‬أنت‭ ‬راقص‭ ‬ماهر‭ ‬يا‭ ‬فتى‭.‬

رفت‭ ‬على‭ ‬ثغري‭ ‬ابتسامة‭ ‬الفخر،‭ ‬ناولت‭  ‬ابن‭ ‬خالي‭ ‬الدف،‭ ‬استسلمت‭ ‬للمهرة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬جانبي،‭ ‬تسللت‭ ‬يدي‭ ‬في‭ ‬جنح‭ ‬الليل‭ ‬حتى‭ ‬أمسكت‭ ‬يدها،‭ ‬اقعشر‭ ‬بدني،‭ ‬وقف‭ ‬شعري‭ ‬كأنه‭ ‬جندي‭ ‬يؤدي‭ ‬التحية‭ ‬العسكرية،‭ ‬اِلتوت‭ ‬أناملنا‭ ‬كالأفاعي،‭ ‬تمنيت‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬الرقص،‭ ‬أن‭ ‬أفر‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬حصان‭ ‬أخيل،‭ ‬أن‭ ‬نسكن‭ ‬قصر‭ ‬الإسكندر‭ ‬الأكبر،‭ ‬أن‭ ‬يبارك‭ ‬آيروس‭ ‬حبنا،‭ ‬أن‭ ‬توافينا‭ ‬المنية‭ ‬في‭ ‬بابل،‭ ‬ويواري‭ ‬التراب‭ ‬جثماننا‭ ‬عند‭ ‬أهرمات‭ ‬مصر‭.‬

سمعت‭ ‬نداءً‭ ‬دون‭ ‬سابق‭ ‬إنذار،‭ ‬جفلت،‭ ‬كان‭ ‬الصوت‭ ‬خشنًا‭ ‬فيه‭ ‬حشرجة‭ ‬طفيفة‭:‬

‭- ‬فاطمة‭.. ‬فاطمة‭.. ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬قد‭ ‬تأخرنا‭.‬

انسحبت‭ ‬فاطمة‭ ‬من‭ ‬الدائرة،‭ ‬افلتت‭ ‬يدي‭ ‬بحنية،‭ ‬تلخبط‭ ‬نبض‭ ‬قلبي‭ ‬الصغير،‭ ‬رمقتني‭ ‬بنظرة‭ ‬أحرقني‭ ‬شواظها،‭ ‬ولت‭ ‬ظهرها‭ ‬لي‭ ‬مغادرة،‭ ‬كأن‭ ‬روحي‭ ‬غادرت‭ ‬معها،‭ ‬تتبعتها‭ ‬بكل‭ ‬جوارحي،‭ ‬توارت‭ ‬بين‭ ‬الظلام‭ ‬الكالح،‭ ‬عدت‭ ‬للرقص،‭ ‬ارتطمت‭ ‬بأكتاف‭ ‬خشنة،‭ ‬بأجساد‭ ‬لا‭ ‬جمال‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬رأفة،‭ ‬اضمحلت‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الإكمال،‭ ‬غادرت‭ ‬بدوري،‭ ‬هل‭ ‬سيرضى‭ ‬من‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬جانبه‭ ‬ملائكة‭ ‬الجنة‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬قرب‭ ‬الزبانية؟

عدت‭ ‬أدراجي‭ ‬منهكًا،‭ ‬أحمل‭ ‬معي‭ ‬الشيطان‭ ‬وذكرى‭ ‬فاطمة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى