من أجل مجتمع قارئ
◆ محمد غريب
في جولة على بعض الأكشاك بمدينة بني ملال وللتعرف على عدد مبيعات جريدة “الطريق” تفاجأت بالمستوى الثقافي والسياسي الرفيع لأحد أقدم بائعي الصحف والمجلات بالمدينة والذي عبر عن استيائه من تدني الإقبال على القراءة في المجتمع المغربي. وعندما سألته عن مبيعات جريدة ”الطريق” قال أنها عادية، والسبب غير مرتبط بمحتوى الجريدة بل لأن المغاربة لا يقرؤون، والمطلوب هو تشجيع الناس على القراءة.
أثار هذا الحوار في نفسي عدة أسئلة وعدت إلى بعض الأرقام كنت قد دونتها تتعلق بواقع القراءة في العالم العربي.
الأرقام مخيفة بكل معنى الكلمة وهي تكشف عن الهوة العميقة التي تفصلنا عن المجتمعات الديمقراطية، لأن مستوى القراءة يكشف عن مدى تطور الفرد والمجتمع ويعكس مستوى التحضر أو التخلف داخل كل مجتمع.
فحسب تقرير التنمية البشرية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي فإن :
ـ العربي يقرأ بمعدل ست دقائق سنويا بينما يقرأ الأوربي بمعدل مئتي ساعة سنويا.
ـ كل ثمانين مواطنا عربيا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، في المقابل يقرأ المواطن الأوربي نحو خمسة وثلاثين كتابا في السنة.
ـ يترجم سنويا في العالم العربي خمس ما يترجم في اليونان، والحصيلة الكلية لما ترجم إلى العربية مند عصر الخليفة العباسي المأمون إلى العصر الحالي تقارب عشرة ألاف كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة.
وفي تقرير التنمية الثقافية الصادر عن منظمة اليونسكو فإن:
ـ إصدارات كتب الثقافة العامة في العالم العربي لا تتجاوز خمسة ألاف عنوان سنويا، وفي أمريكا حوالي ثلاث مئة ألف كتاب.
من خلال هذه الأرقام يتضح أنه بقدر ما تزدهر الحريات ترتفع معدلات القراءة، لأن المواطن في المجتمعات الديمقراطية يعتبر نفسه شخصا مسؤولا وفاعلا في الحياة العامة، لذلك فهو يهتم بالإنتاج الثقافي والفكري. أما في العالم العربي فإن الشغل الشاغل للمواطن هو تحصيل لقمة العيش والكفاح من أجل تلبية الحاجات الأساسية التي هو محروم منها.
إن القراءة في ظل أنظمة الاستبداد تعتبر ترفا لا يقبل عليه إلا من تخلص من هواجس ومخاوف الحياة اليومية للإنسان المنتمي للطبقات الشعبية. لكن القراءة في حقيقة الأمر تعتبر ضرورة من ضروريات الحياة.
إن أهمية القراءة تتجلى في كونها:
ـ مصدرا من مصادر المعرفة.
ـ تقوي ثقة الفرد بنفسه لأن اكتساب المعرفة يؤدي إلى اكتساب شخصية قوية ومتوازنة.
ـ تتيح القدرة على التعبير عن الرأي بكل ثقة وبأسلوب حضاري .
ـ تجعل القارئ أكثر إيجابية وتؤدي إلى تحقيق المتعة والنجاح، وتساعد على مواجهة الإحباط وتقليص فرص تطور مرض الزهايمر.
ـ تحفز الدماغ من أجل القيام بالمهام التحليلية والتواصلية، الشيء الذي يؤدي إلى تطوير القدرات الدماغية، حيث تتنوع العمليات التي يقوم بها الدماغ أثناء عملية القراءة، كالتأمل والتخيل والتحليل والتفكير وربط الظواهر مع مفاهيمها، مما يساعد على تنمية القدرات التعبيرية كتابيا وشفويا.
ـ تحفز على التفكير والتعبير بطريقة غير اعتيادية كما تمكن صاحبها من الابداع وتجدد وتوسع أفقه الفكري والثقافي.
لكن رغم كل هذه الأهمية لفعل القراءة، إلا أننا نجد من يعترض بالقول أنها متعبة، و أن الناس تبحث عن السهل والممتع و هذا ما يفسر الإقبال الكبير على مشاهدة التلفزيون وقضاء ساعات طويلة في مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا الاعتراض صحيح ظاهريا، لأننا إذا سألنا الناس هل يرغبون في الحرية فإن جوابهم سيكون حتما بالإيجاب، رغم أنهم يدركون أن الحرية مسؤولية كبرى ومجازفة قد تكلف الانسان حياته.
لقد كان الإغريق يعرفون ذلك.. لقد خاطبهم القائد العسكري الشهير بيريكليس (429ق م ـ495ق م) قائلا: “عليكم أن تختاروا إما أن تكونوا أحرارا أو ترتاحوا”.
المشكل اليوم هو أنه في ظل الاستبداد يعتبر إقناع الناس بالقراءة أمرا صعبا، خاصة عندما تطغى الثقافة الشفوية وسط الطبقات الشعبية التي هي القاعدة الكبرى في المجتمعات المتخلفة.
ولإدراك خطر القراءة على المستبدين، هناك اقتباس منسوب لوزير الدعاية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز يقول فيه : ” نحن لا نريد إقناع الناس بأفكارنا ولكننا نريد تقليص رصيدهم اللغوي لدرجة لا يستطيعون فيها سوى التعبير عن أفكارنا”. وهذا يعني أن من يريد أن يتحكم في الناس فالمطلوب هو إفقار اللغة والحد من الكلمات، لأن من لا يستطيع التعبير لا يستطيع التفكير.
القراءة تعني التساؤل الدائم والدهشة ومتعة الاكتشاف.. إن الإنسان بطبعه كائن يحب التفكير، لكن في عصرنا الحالي يُراد التحكم فيه ليصبح مستهلكا منضبطا، يقبل على ما يقدم اليه من تفاهات وأشياء عديمة الجدوى.
إن القراءة، وبالتالي العلم والثقافة والمعرفة تحرر الانسان وتجعله يقبل على الحياة بشكل إيجابي ويكتشف السعادة في بساطة الحياة وفي جمال الطبيعة وفي تحقق إنسانية الإنسان.
علينا إذن أن نؤثث بيوتنا بتحف فنية جميلة ونضع أمام أطفالنا كتبا ومجلات يستأنسون بها ويتصفحون محتوياتها، بدل هذه الأجهزة المخبلة للعقل. علينا ان نتقاسم معهم لحظات جميلة في الطبيعة يكتشفون فيها الجمال الحي حتى تتفتح عقولهم ويطوروا لديهم ملكات التذوق والتفكير. علينا أيضا الاستماع إليهم والاستفادة من أسئلتهم لأنهم يولدون فلاسفة لكن المجتمع هو الذي يقتل فيهم روح التساؤل والنقد.
لقد كان الفيلسوف الروماني لوكيوسسينيكا (4ق م ـ65ب م) يقول: “نولد جميعا فلاسفة.. البعض فقط من يبقى كذلك”. إن القراءة والتفكير والتأمل هي ما سيحرر الانسان من كل أشكال الاغتراب والاستلاب.. وهي ما سيجعلنا نعطي معنى إيجابيا للحياة.