الجماعات المحلية حقل للصراع السياسي..
افتتاحية العدد 331
لأكثر من أربعة عقود شكلت الجماعات المحلية مختبرات لإفساد الحياة السياسية واستقطاب النخب، وترويض المعارضة، باستثناء أول انتخابات جماعية بعد الاستقلال سنة 1960، والتي كانت انتخابات نزيهة رغم حدة المواجهة بين القوى الوطنية والتقدمية من جهة، وأتباع الاستعمار الجديد من جهة أخرى. ولا شك أن موازين القوى كانت لازالت تسمح للقوى التي حاربت الاستعمار وقاومته بكل أشكال المقاومة بما فيها الكفاح المسلح بتحقيق مكاسب وانتصارات وإن كانت جزئية إلا أنها مهمة.
بعد انتهاء حالة الاستثناء، وفي سياق المعركة الوطنية لاسترجاع الصحراء المغربية، انطلق في دجنبر 1976ما سمي بالمسلسل الديمقراطي، بإجراء انتخابات جماعية على أساس ميثاق جماعي جديد يحد نسبيا من الوصاية المطلقة لوزارة الداخلية، وبوعود الشفافية والنزاهة من أعلى سلطة في الدولة. ورغم مفاجأة القوى الوطنية والتقدمية بترشح جيش مما سمي بالمحايدين والأحرار، وبتزوير مفضوح لمحاضر التصويت، تمكنت القوى التقدمية من انتزاع الأغلبية في مجالس المدن الكبرى كالدار البيضاء وفاس والرباط وأكادير ووجدة وغيرها من المدن. وعرفت الفترة بين 1977 و 1983 صراعات حادة بين المجالس المنتخبة وسلطات الوصاية، التي تفننت في وضع كل العراقيل الممكنة لإنجاز أي مشروع يمكن أن يعطي مصداقية لتلك المجالس التي تقودها أحزاب المعارضة. وخلال تلك الفترة، انكشف عشرات الانتهازيين من منتخبي المعارضة الذين كان هاجسهم الاستفادة الشخصية على حساب البرنامج الانتخابي الذي انتخبوا على أساسه، وعلى حساب مهام المنتخب التي ينص عليها القانون.
بعد احتواء أهم حزب في المعارضة آنذاك “وتطهيره” من الأطر والمناضلين الرافضين للانتخابات المزورة ماي 1983، أصبح الطريق معبدا لتعميم التدبير المخزني للجماعات الترابية وتحويلها إلى مراتع للفساد وتنفير المواطنين والمواطنات من العمل السياسي، كعمل تطوعي تحكمه المبادئ الكبرى والقيم الإنسانية، وأصبحت الانتخابات سوقا سياسية عادية، تباع فيها التزكيات والأصوات كما تباع البضائع !.
وقد أثرت تداعيات ذلك بشكل خطير على المشهد السياسي، مما شجع الحكم، إضافة للضغوط الدولية، ومتطلبات انتقال السلطة إلى استقدام المرحوم عبد الرحمان اليوسفي من فرنسا والاتفاق معه على ترتيبات ما سمي بالتناوب التوافقي، بعد فشل المحاولة الأولى مع المرحوم امحمد بوستة سنة 1993. والملاحظ أنه في نفس الفترة تقريبا، كانت الديمقراطية المحلية هي جسر انتقال اليسار في أمريكا اللاتينية وخاصة في البرازيل إلى الحكم، ورئاسة الدولة، والقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية كبرى جعلت من البرازيل دولة صاعدة.
بعد مرور اقل من عقد على “العهد الجديد”، عاد النظام إلى عادة خلق حزب إداري جديد بمناسبة الانتخابات ومنحه الأغلبية ضد أي منطق سياسي في الانتخابات الجماعية لسنة 2009. وقد كان من المفروض أن يؤدي حراك 2011 إلى تغيير في منهجية تدبير الانتخابات، وتحويل الجماعات الترابية من بؤر للفساد والريع، إلى مؤسسات منتخبة تجسد الديمقراطية على الصعيد المحلي، لكي تساهم في التربية والتكوين السياسيين للمنتخبين الجماعيين، وتكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. وقد مثلت تقارير المجلس الأعلى للحسابات مناسبة لتفعيل المحاسبة في حق جميع المتورطين في الفساد، وليس ممارسة المحاسبة الانتقائية والانتقامية.
منذ الانتخابات الجماعية الأخيرة، ركزت الصحافة على تدبير بعض رموز واطر الحزب الأصولي الذي يقود الحكومة لمجالس المدن الكبرى، كالدار البيضاء، ومراكش، والرباط ومكناس، وطنجة.. الخ، وكشفت التحقيقات التي نشرت ليس فقط على سوء التدبير، بل أيضا على التوظيف المزدوج للدين وللمال العمومي في توسيع قاعدة المنخرطين، والزبناء مما زاد في تعميق اليأس والإحباط، وكرس أزمة الثقة في المؤسسات والأحزاب السياسية بدون استثناء. الإيجابية الوحيدة ربما هي سقوط وهم “البديل الإسلامي” الذي تبين بالملموس أنه لا بديل ولا هم يحزنون، وأن التراجعات في مستوى المعيشة، وفي المكاسب الاجتماعية والحريات الأساسية، جعلت المغرب في آخر ترتيب الدول في الديمقراطية والتنمية البشرية.