السمطة
أكيد أن الظاهرة الغيوانية بالمغرب استأثرت باهتمام كبير كَلَوْنٍ غنائي، وامتدت شهرتها مغاربيا ودوليا، حيث غطت مساحة كبيرة من تربية الذوق وأعطت عمقا كفاحيا وجماليا لشعر الزجل التراثي والقوافي المنظومة بتامغربيت، والتي تحمل في طياتها أكثر من معنى، ورسائل تعبر عن مكنونات الحواري المغربية، أستعير في هذا السياق، عنوانا ومقطعا من إحدى أشهر أغاني ناس الغيوان التي تُرِكَتْ في رف الممنوعات ولمدة طويلة، بِفِعلِ فاَعِلٍ: “السَّمْطَة”.
”السَّمْطَة” :
مـــا أنـــا وحـدانـــي مـــا أنـــا بــــرانـــي
أنــــــا مـــواطـــــــن والسـمـطـة عـلـيــــا
والـجـنـوي مـاضــي يــجـــرح يـــديــــــا
* * * *
الـعـمـارات عـالـيــة لـكـواخ مـردومـيـــن
لـمسـابـح دافــقـــــة لـفدادن مـحـروقـيـن
الدنيا غادية يا اهلي ب حال الـمسـكـيـــن
أرضـــي عــاطــيــة كنوزها مـفـتـوحـيـن
لـوحـوش الضاريـة انيابهـــا مَـمْـدُودِيــنْ
شـمـسـي ضـاويـــة لبيــوت مـغـموقـيــن
بـحـوري عـامــــرة وحـنـــا جـيـعـانـيـــن
الدنيا غادية يا اهلي ب حال الـمسـكـيـــن
يَبْرَعُ الحَكَواتي المغربي في إعطاء نفس الكلمات معان مختلفة حسب سياقها اللغوي ومناحي استعمالاتها، فإسقاطاً على إبداع السفر بين السياقات التي تستند إلى غنى ثقافتنا الشفهية، لِنُدخِل رمزية “السَّمْطَة” إلى الحقل الدلالي الحبَّالِ بمتغيرات الواقع.
لن تَجِدَ عناء كبيرا في فهم دلالة معنى “السَّمْطَة” بين سكان الدواوير الحدودية بين المغرب والجزائر. وللتذكير، ربما الذكرى تنفع هواة الدم العائلي، فهناك أسر مفككة بين ضفتي الحدود الوهمية “السَّمْطَة”، فنفس أبناء العمومة يحملون أحيانا، جنسيتين مختلفتين، أوراق ثبوتية مغربية وأخرى جزائرية داخل نفس العائلة، بل الأدهى والأمر أن لحظات أعراس نفس العائلة، تفرض تسللا اضطراريا واعتياديا يتجاوز منطق الحدود، عفوا “السَّمْطَة”، وكم من الدم سال عبثا في حزام الذُّل هذا… الحديث عن “السمطة” يجرنا إلى جنود خفاء مغاربة، في الرتب العسكرية الأدنى، لا يظهرون كثيرا للعلن، ليس كباقي تجار المؤونة ولوبيات أساطيل البحر وصيد سمك “السمطة” وأخواتها، يسهرون على راحتنا وأمن الوطن، ويحلو للبعض ببلادة، أن يلوك سمعتهم تحت مسميات “الدوزيام حلوف”، والحلوف الحقيقي هو من لا يعي حجم تضحيات جنودنا من أجل أن يكون للسمطة معنى وطني لا مسمى استبدادي.
إن جزء كبيرا من المجتمع الاستهلاكي، يوجه قسما من ميزانيته البئيسة لاقتناء تقليعات الألبسة الحديثة، ولو من باب الاستنساخ الرديء الذي يتلاءم مع قلة ذات اليد، لكن الأغلبية لا تعي الأصل السببي لبعض تقليعات “الموضة”، أورد في هذا الشأن السراويل المتدلية بدون سمطة “طاي باس”، إن أصل هذه التقليعة يعود لشكل احتجاجي للسود بالأحياء المهمشة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث يرفضون استعمال الأحزمة “السمطة” في سراويل الجينز المتدلية، احتجاجا على شطط رجال الشرطة البيض والطريقة المستفزة لتفتيشهم في حواري هارلم وغيرها، والتي أعادت سيرتها الانتفاضة الأخيرة ضد موجات العنصرية، فرفض لبس السمطة وترك السراويل متدلية نمط احتجاج راق وطريقة عيش مؤسسة على طريقة تفكير ما، فهل نستوعب عمق علة السمطة، خارج نقاش حرية الأذواق بالطبع.
لن تفوتنا الاستعارة ونحن على أبواب احتقان اجتماعي، استعر مع وباء كورونا، يهدد بانفراط عقد كل التسويات الهشة، باستعراض الشعار المركزي للأدوات التنفيذية للدولة والموجه بالخصوص للأسر المغربية ذات الدخل المحدود: “زيرو السمطة”، فالملاذ السهل لعديمي الجرأة السياسية لن يكون إلا جيوب الأجراء وبسطاء القوم، بل تمتد أيديهم الآثمة حتى لعجائز هذا الوطن، لأن وطنهم المفترض يغفر للمفسدين جرائمهم، وأغنية السمطة أعلاه تختصر مواقع الخلل ببساطة وجمالية النظم المعبر عن نبض الأزقة، فحب الأوطان يقتضي الإحساس بالانتماء الجمعي ليس فقط أمام العلم، بل أيضا حين تقتسم الموارد والخيرات، وقد وصلت بهم الوقاحة حد تسفيه توصيات مجلس المنافسة الذي فضح السرقة المكشوفة لمافيات المحروقات، إنه ضرب وبالمكشوف تحت “السمطة”، عفوا تحت الحزام، في تلك الحالة فالحلبة لن تحتمل إلا حاملي الحزام الأسود “سمطة كحلة”، والمجتمع مقبل على هزات حقيقية.
إن السياقة في المنعرجات الضيقة والخطيرة تفترض نوعا مميزا من السائقين، ولا مكان للمتهورين في هذه الحالة، خصوصا إذا كانت السيارة تحمل أسرة بكاملها، فماذا ننتظر ممن لا يحمل حتى حزام السلامة “السمطة” في طريق شديدة الخطورة، إن من يستهدفون قوة و كرامة شعبهم، ويستقوون بقراراتهم الارتجالية بلخبطة عيش المغاربة، ويقدمون على سلخ جلود المعارضين بالسمطة وفبركة ملفات الاعتقالات.. لا يستأمنون لا على أرزاقنا ولا على أرواحنا، إننا فعلا نتهمهم بعدم حب هذا الوطن..