حصان الليل
◆ ابراهيم حدودي
منذ أيام وهو يهئ الطين دكا وغربلة ثم دكا فغربلة أخرى قبل أن يتركه يبتل ويشرب ببطء ليالي وأياما. لأول مرة يتعامل مع الطين بشكل حذر وبتوجس كبير رغم أنه طول حياته لم يفعل شيئا آخر سوى عجن الطين وتحويله إلى أوان فخارية. لكن هذه هي المرة الأولى التي يجازف فيها المعلم محفوظ ويقبل القيام بعمل لم يألفه ولم يقم به أي أحد من الفخارين في القرية. لم يكن المبلغ المالي المهم جدا الذي عرض عليه نظير إنجاز العمل هو ما حفزه وإن لم يكن ينكر أنه يمثل مدخول سنة أو أكثر من العمل المتعب.
تشاور مع العديد من الزملاء والجيران، جلهم حاول أن يثنيه عما هو مقدم عليه. استشار إمام مسجد القرية الذي توعده بغضب السماوات والأرض، لكن كل هذا لم يكن ليقنع المعلم محفوظ بل خمن أنهم فقط يحسدونه. سافر إلى المدينة طالبا مشورة إمام المسجد الكبير الذي لم ير مانعا شرط أن يتقن عمله خاصة أنه لم يشتغل على التحف كما هو مطلوب منه الآن.
-إطمأن سيدي !
أجابه محفوظ وإن كانت كل توجساته لم تزل. هاتف أحد معارفه في مدينة فاس الذي بشره بأن عالماً من القرويين لم يبد أي رفض ولا يرى مانعا، وللاطمئنان أكثر أخبره أنه تداول مع العديد من المهتمين الذين استهجنوا حتى فكرة الاستشارة بل منهم من سخر.
وهو يسكب الماء على كومة الطين الضخمة كانت أفكار عدة تتضارب في رأسه. إن نجح في إخراج هذه التحفة في أجمل صورة سوف تُفتح له أبواب أخرى وستأتيه الطلبات من كل حدب وصوب وسيتخلى نهائيا عن صناعة الأواني التي لم يعد يقتنيها إلاّ بعض العارفين بمزاياها الصحية، بينما ضايقتها وحاربتها أوان صينية وتركية رخيصة.
لم يكن محفوظ مستعجلا لأن الزبون ترك له حرية العمل حسب ما يستطيع. ما تزال صورة وهيئة ذلك الزبون الأشقر وهو يدخل عليه معمله الضيق بابتسامة كشفت عن أسنان بيضاء سليمة ومتراصة؛ تلك الأسنان وشقرة الشعر هي ما أثار محفوظ في هذا الزائر الغريب الذي كان يرطن بعربية سيئة مجتهداً في البحث ونطق الكلمات. بفطنته وذكائه فهم محفوظ ما يريده “المستر” كما صار يناديه. غادر الغريب وابتلعه الأفق تاركا وراءه رائحة دخان وضوضاء دراجته الكبيرة.
مرت أيام ومحفوظ ينظر ويفحص في سرية صورة الفرس الجميل وسط حقل مخضر؛ خمن أنها مهرة وإن لم يكن متأكدا. أعاد عد الأوراق المالية الجديدة والحادة مرات عدة قبل أن يقرر التفكير في كيف ومن أين سيبدأ وإن لم يطل به التفكير لولا أن أحدهم نغص عليه واصفاً إياه بالكفر وصناعة الأوثان والأصنام.
حاول أن يداري شكوكا استعصت رغم كل التطمينات التي توصل بها وهو يبدأ العمل ذلك الصباح الباكر، ومع ذلك تملكه إحساس غريب ورغبة جامحة في العمل حيث فقد كل اتصال بمحيطه، حتى غداءه لم يشعر بزوجته وهي تضعه عند الباب. لم ينتبه إلى الوقت إلا والظلام بدأ يلف أطراف المعمل الصغير حيث انتصبت رأس حصان كاملة القسمات. وهو يأكل بشهية وبتلذد كبيرين كان يتأمل باعتزاز ما أنجزه. راودته نفسه بقضاء الليل في المعمل والنوم إلى جانب حصانه وإن لم يكتمل، لكن صراخ زوجته وهي تناديه بأن حمامه وعشاءه جاهزان.
نام تلك الليلة مبكراً حتى يستيقظ باكراً في اليوم الموالي. بعد حوالي شهر وقف محفوظ أمام حصان طيني مكتمل وفي الجانب الآخر وقفت زوجته في صمت وهي تكتشف لأول مرة ما صنعه زوجها بعد أن كان منع عليها الدخول إلى المعمل. ساعدته في صمت وهو يقوم بتفكيك الحصان ويلف كل جزء في قطعة ثوب ناعم. بعد ذلك أغلق الباب وأدار المفتاح وأجرى مكالمة هاتفية ونام نوما عميقا وراح راكباً فرسا جامحة يخترق بها البراري صادما برأسه أغصان الأشجار، غطت الدماء وجهه ولم يعد ير أي شيء، تمسك بكل ما أوتي من قوة بشعر الفرس المجنونة النافرة والصاهلة حتى وقفت به على حافة هاوية سحيقة. قفز محفوظ من مرقده بحلق جاف ووجد عند رأسه زوجته تنتحب وترتعد بكلام غامض: ” حصانك دخل علينا وحاول أن يدهسني ويدكني مع الأرض. “
- حلم مزعج، قال لها حاولي أن تنامي.
– أرجوك، خلصنا منه، أرجوك.. إنه لم يكن حلماً. وأخذت تبكي بشكل غريب.
كان محفوظ متأكدا أنها كانت في حلم لكنه أزعجه أن يتشابه حلمهما. في الصباح وهو يدير مفتاح المعمل وجد الأجزاء الطينية كما تركها أمس. تأخر الزبون مما تسبب له ولزوجته مكابدة كوابيس أخرى كان الفرس المفكك في المعمل بطلها، وإن كان هو يبدي قدرة كبيرة على المقاومة فإن حالة الزوجة صارت مقلقة حيث صارت تهيم في القرية منادية على ولد لم يرزقا به محذرة له من الفرس الطيني الذي سيدهسه. بعد انتظار وبعد أن أوشك محفوظ على تفتيت التحفة لاح أخيراً ذو الشعر الأشقر وتسلم بفرح طفولي أجزاء حصانه واعدا محفوظ بلقاء قريب وأعمال أخرى.
كانت تلك الليلة هادئة وساكنة سكونا وهدوءا لم يشعرا بهما منذ أن انتصب واقفاً في المعمل ذلك الحصان الطيني. جلست بجانبه ونامت على كتفه بأمان كطفلة في حضن أبيها. ظل هو مستيقظا متأملا في ظلمة الغرفة ومنصتا إلى صمت ليل القرية الموحش.