ذات مهملة
◆ عصام نكادي
قفز من فراشه متوجها صوب خزانة ملابسه الخشبية. مدّ يده والعمش يملأ حوافّ عينيه، ومن بين كومة الملابس المبعثرة استل قميصا تفوح منه رائحة العرق. ارتداه بسرعة ثم انطلق بعد ذلك مُهرولا إلى الصنبور لكي يبلل نفسه ببعض قطرات المياه بغية التخفيف من نوبة الهلع التي حدثت له للتو عندما نهض من الفراش ووجد نفسه عاريا. فمظهر عري جسده يذكره بلحظتين اثنتين لطالما أرَّقتاه. لحظة الولادة التي ولد فيها عاريا ولحظة الموت التي سَيُوضع فيها في القبر وهو عارٍ. الأولى تذكره بسؤال النشأة والأصل والثانية تدخله في متاهات المصير وأسئلة أخرى يصعب على الإنسان العادي فهمها. وضع إناء مملوءا بالماء على قنينة الغاز ثم توجه إلى الحانوت لاقتناء خبزة وما يعادل بضع دراهم من زيت الزيتون لكي يفطر، فاليوم هو يوم راحة بالنسبة لـ “سعيد” الذي عمل ومازال يعمل منذ انقطاعه عن دراسته في الجامعة بحقول الطماطم. أعد فطوره وتناول ما استطاعت معدته الصغيرة أن تتحمله ثم سكب القطرات الأخيرة المتمردة التي تختبئ في قعر البرّاد في كأسه الزجاجي وأخذ بعد ذلك علبة السجائر من نوع “كازا” وبدأ يدخن متأملا الرجل الأصلع الذي يتوسط هذه العلبة. لاشك في أن يديه المفتوحتين وجسده ذي البنية المتماسكة والعضلات الصلبة تجعل من “سعيد” يشعر بالغيرة منه، فهو شاب نحيف كالعصا، له عينان شاحبتان وهالاتان سوداوان تحت عينيه، ورأسه منحن إلى الأمام كالنعامة من شدة اعوجاج ظهره وكتفيه. وبعد التمعن في العلبة طويلا، تذكر الصفعة التي تلقاها من “الكابران مصطفى” بالأمس عندما انزلق صندوق الطماطم من يديه وهو متوجه به نحو الشاحنة. غرس السيجارة في طفاية السجائر واتبعها بتفلة أعطت لأعقاب السجائر رائحة يصعب علي وصفها بحكم أنها لا تشبه باقي الروائح، ثم تحدث مع نفسه قائلا : « يا ليتني كنت أملك ولو القليل من هاذين الذراعين الصلبتين وهذا الجسد القوي. فلو كنت مثل هذا البطل لكنت قد طرحت “الكابران مصطفى” أرضا وانهلت عليه باللكمات حتى تُزهق روحه ». شعر بلذة لم يشعر مثلها من قبل وهو يتخيل هزيمته « للكابران مصطفى »، لدرجة أنه عندما دخل في حلم يقظة طويل تدور رحاه حول تعنيفه « للكابران » وطرحه أرضا والتبول عليه…، بدأت صورة الكابران في مخيلته تتماهى له مع صورة أبيه، فاختلطت عليه الأشياء، لم يعلم هل كان يضرب الكابران أم كان يتمرد على سلطة أبيه المتوفى منذ سنين ليست بالطويلة! . صوَّب نظره وبدون أي سابق تفكير منه تجاه باب منزله وأثار انتباهه أصيص لنبتة الحَبَقُ كان قد اشتراه من مدة لكي يطرد الحشرات التي كانت تنغص عليه نومه بالليل، حدّق فيها جيدا وبدت له هذه النبتة واقفة وقفة شامخة، معليةُ من كبريائها، متبخترة بسلطتها ونفوذها اللذين هيمنا على المكان وملآ جغرافية الأصيص المتوسط الحجم. لقد ذكرته بالكابران مصطفى ذي الوقفة الشامخة والنفوذ الذي يتمتع به داخل حقل الطماطم الذي يعمل فيه سعيد ما جعله يقف وقفة جندي يحارب عدوا من صنع خياله وقصدها بسرعة ماداً يديه الطويلتين النحيفتين اللتين تشبهان قضيبي الشواء ثم أمسك جذع النبتة من ظهرها وكسرها إلى نصفين جاعلا منها منحنية الرأس خاضعة لسلطانه و جبروته. شعر بانتصار ونشوة من لم يشعر بمثلهما من قبل وخاطب نبتة الحبق بصوت تملأه القسوة والحزن في آن : ” لقد انتصرت عليك أيها الكابران، نعم لقد هزمتك، أنت الآن في حضيرتي، أنت الآن تحت إمرتي وسلطتي. ها أنت الآن هنا بين يدي الصلبتين، مكسور الظهر، منحني الرأس كالنعامة التي تدفن رأسها في الأرض، لقد كسرتك. تبا لك، وسحقا لك ولأمثالك”.
وبعد انتهائه من محاورة النبتة (الكابران) توجه صوب صنبور المياه لكي يروي عطشه ثم حمل في يده اليمنى كرسيا مصنوعا من البلاستيك وجلس قرب باب منزله لكي ينسى قليلا الكابران مصطفى ومعاملاته اللاإنسانية تجاهه ولكي يشارك أيضا انتصاره مع الطيور وديدان الأرض والنمل المرابض أمام عتبة باب منزله. فسعيد إنسان مهمل وغير مرئي، لا يظهر للجميع ولا يثير انتباه المارة، لا الزمان يفاجئه ولا المكان يحركه، كل الأشياء التي تحيط به من أناس وحيوانات وأشياء تنظر إليه نظرة ازدراء، لكنه يعلم بفطنته وذكائه الفطريين شعورهم تجاهه، فهو دائما ما كان يفسر نباح الكلاب عليه بأنه حسدٌ، وزقزقات العصافير بأنها نميمة، ومواء القطط بأنه غيرة من مرونته وسرعته في المشي اللتين اكتسبهما أثناء عمله في قطف الطماطم. أدخل يده اليسرى في جيبه وأخرج منه علبة السجائر، لمس جيبه الأيسر لكي يتحسس تواجد الولاعة من عدمها لكنه لم يجدها، وضع علبة السجائر على كرسي البلاستيك الذي كان يجلس عليه وتوجه إلى داخل البيت بحثا عن الولاعة ، لكن وعند انحنائه لكي يلتقط الولاعة لمح التلفاز ذا البطن الضخمة الموضوع على طاولة الخشب، ثم تذكر بطن « الكابران مصطفى» المنتفخ، قصد التلفاز بسرعة وحمله بكل ما يملك من قوة إلى الأعلى وضرب به الأرض حتى بزرت أحشاؤه الداخلية. رجع إلى الوراء قليلا ونظر إلى البساط البني اللون الذي يغطي الردهة وحملق في الزخرفة التي تتوسطها وإذا بوجه الكابران مصطفى يظهر فجأة من وسط البساط مكشرا أنيابه كأنه كلب مسعور يريد الانقضاض على سعيد. صعق سعيد من أثر هذا المشهد المروع ثم صرخ صرخة زعزعت حباله الصوتية من مكانها وقال بصوت عالٍ: ” ابتعد عني.. أرجوك أيها الكابران، لقد استسلمت. أرجوك أيها الكابران أنا لم ولن استطيع هزيمتك، لقد أصبحت ظلي الثاني وبدأت أحلم بك في كل ليلة، لقد تعبت “…
سقط على ركبتيه أرضا وبدأ يبكي من شدة شعوره بالهزيمة وانسداد جل الطرق التي ستجعله يهزم الكابران مصطفى، لقد كانت جل انتصاراته مجرد وهم صنعه لنفسه وصدقه لبرهة.