المقاربة التشاركية في الدِيمقراطية المحلية
◆ ذ. رشيد العلوي
ينظر بصفة عامة إلى الدِيمقراطيَّة كأساس أي حكم سيَّاسي يقوم على احترام القانون ويخضع كل القضايا العامة إلى التداول والمؤسسات والانتخاب، ونستعمل هنا الدِيمقراطيَّة في مقابل الاستبداد أو التسلط الذي طبع الحقل السيَّاسي المغربي المعاصر، فمجموع الأحداث التي شهدها تاريخنا المعاصر يبين بجلاء حضور التسلط في مختلف أبعاده السيَّاسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة واللغوية. من هنا نرى أن الدِيمقراطيَّة تستوجب أول الأمر الحريَّة المدنية واحترام الحقوق والانخراط في المنظومة الحقوقية الكونية، وإقرار الحريَّة الدينيَّة وحقوق الأقليات أي الحريَّة السيَّاسيَّة بالمعنى الواسع: حريَّة التفكير والتعبير والاعتقاد والدفاع عن الرأي. حيث نعتبر أن جون ستيوارت مل هو المؤسس الحقيقي لنظريَّة الدِيمقراطيَّة الليبراليَّة التي طورها جون راولز وناقشها هابرماس، فمعه ستدخل الليبراليَّة الكلاسيكية في سجال مع النزعة الوضعية التي تغلب منفعة المجتمع على منفعة الفرد، وسيظهر التقابل جليا بين الدِيمقراطيَّة وبين الاستبداد حيث يطالب بتحديد العلاقة بين السُّلطة السيَّاسيَّة والنِّظام السيَّاسي، نحو تجاوز التعاقد بالمعنى الذي وضعه فلاسفة العقد الاجتماعي لتأسيس الفعل الديمقراطي الخاضع لسلطة المؤسسات في دولة الحق والقانون، وهو ما يستدعي أيضا التمييز بين الشرعيَّة والمشروعية (ماكس فيبر)، وسنركز على هذا الابستيمي الجديد بالنظر إلى التداخل الحاصل بين السُّلطة الدينيَّة والسُّلطة السيَّاسيَّة في النِّظام السيَّاسي المغربي بغرض تعزيز شرعيَّة التحكم.
وفي سبيل ضمان حريَّة مدنيَّة تقوم على ضمان حقوق الفرد والجماعة معاً، فإن تشكل الرأي العام وبناء فضاء عمومي حر للتداول يمثل عصب العمليَّة الدِيمقراطيَّة، وهنا سننفتح على التكامل بين السيَّاسة والأخلاق.
ظهر مفهوم الديمقراطية التشاركية في بعض التجارب الدولية كمفهوم جديد يتوخى منه الاجابة عن أزمة الديمقراطية التمثيلية أو النيابية والتي تقوم على مبدأ الانتخاب الى المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبذلك فالمقاربة التشاركية لم تأتي كبديل عن المقاربة التمثيلية بقدر ما هي أداة ووسيلة لمعالجة الاختلالات التي تعترض تسيير الشأن العام واشراك المواطنين بما هم المعنيون في المقام الأول بقضاياهم العامة والخاصة. ودون الخوض في بعض الحيثيات التي تهم مستوى الآليات والوسائل المعتمدة في تنزيل المقاربة التشاركية في التجربة المغربية، خاصة بعد تعديلات الدستور لسنة 2011، وسنكتفي بمساءلة هذا المفهوم لإبراز العوائق التي تعترضها في السياق المغربي.
تنص التعديلات المذكورة على ثلاث آليات رئيسة لتنزيل المقاربة التشاركية وهي: العرائض الموجهة للسلطات العمومية وللمجالس الترابية (الفصل 15 و139 والقانوني التنظيمي 44.14)، والملتمسات في مجال التشريع (الفصل 14 والقانون التنظيمي 64.14)، والتشاور العمومي في القضايا التي تثير الجدل والتي يحتمل أنها ستسهم في الشرخ الاجتماعي (الفصول: 12، 13، 33، 136، 139)، وهي الفصول التي لم تحظى بقانون تنظيمي يحدد الاليات التي سينفد بها التشاور العمومي شأنه شان التحكيم الملكي.
كان من نتائج الانتقال السيَّاسي الذي أنجزته حكومة التناوب بالتوافق مع الحسن الثاني هو ضمان الانتقال السلس والسلمي للسُّلطة إلى العاهل الجديد. وهو ما تم فعلاً بحيث يوحي الأمر أن اتفاقاً غير مصرح به بين الملكيَّة والمعارضة السيَّاسيَّة التي كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبيَّة يمثلها ذات زمن بفضل تاريخه وحضوره الوازن في المؤسسات الرسميَّة منذ سنوات السبعينيَّات (الدخول إلى الانتخابات البلديَّة سنة 1974) وبفضل تجذره في الحركة الجماهيريَّة بمختلف قطاعاتِها. وتظهر بوادر العقد الجديد وغير المعلن عنه بين الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي في الاختلاف حول بعض القضايا من قبيل تعيين الوزير الأول (اليوسفي) للولاة والعمال ورئاسته لمجلسهم، من باب أن هذا الأمر هو ركيزة السُّلطة المخزنيَّة، والتي من خلالها يتم التحكم في الشأن العام وفي القضايا الأكثر حيويَّة بالنسبة للملكيَّة. ولذلك أمكننا القول إن اليوسفي لم يستطع اختراق سلطة المخزن، بل استعملته هذه الأخيرة لضمان الانتقال السيَّاسي ولنا في تفكك هذه القوة السيَّاسيَّة قبل نهاية حكومة التناوب دليل على هذا، كما يظهر التوافق في إحداث هيئة الانصاف والمصالحة وفي إصلاح التعليم وتعديل مدونة الأحوال الشخصيَّة وضمان عدم تكرار ما جرى في مجال انتهاكات حقوق الانسان، وفي نفس الوقت ربح القصر مشروعيَّة سيَّاسيَّة جديدة بفضل مناورة التفاف القوات الشعبيَّة حول الإرادة الملكيَّة.
خرجت حكومة التناوب التوافقي من ولايتها (1998 – 2002) بخسارة كبيرة حيث تم تعيين ادريس جطو وزيراً أولا باعتباره تقنوقراطيّاً لا يمثل أي حزب سيَّاسي بل كان آنذاك وزيراً للداخليَّة. ممَّا جعل الحقل الحزبي على الأقل بالنسبة لأحزاب الكتلة الدِيمقراطيَّة (الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال) يناور ويسعى جاهداً إلى فهم ما جرى وطبيعة الانقلاب الذي دشَّنه محمد السادس.
يمكن أن نفسر هزيمة المعارضة السيَّاسيَّة مع مجيء حكومة إدريس جطو بأحد أمرين:
• إما أن القوة المسماة بالمخزن قد تمكنت فعلاً عبر تخطيط استراتيجي ومحنَّك من وضع حد للمعارضة الشديدة التي وقفت زمناً مديداً في وجه النِّظام السيَّاسي، وهنا يمكن أن نعتبر التوافق السيَّاسي بين الاتحاد الاشتراكي والحسن الثاني، توافقا لصالح النِّظام من أجل انقاذ البلد كما يدافع عن ذلك عبد الرحمان اليوسفي والجابري، من خلال شعار تغليب مصلحة البلاد على المصلحة السيَّاسيَّة.
• إما أن التطور الطبيعي لهذه المعارضة قد بلغ عتيّاً ليدخل مرحلة الشيخوخة السيَّاسيَّة كما دخلتها قوى سيَّاسيَّة أخرى من قبيل حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكيَّة، مما سيسمح من وجهة نظر التطور بظهور قوى سيَّاسيَّة جديدة ستلعب أدوارها المنوطة بها كما يحدث مع حزب العدالة والتنميَّة بعد سنة 2011.
يبدو أن المقاربة التشاركية في التجربة المحلية غير منفصلة عن الفعل السياسي الذي يهدف عموما إلى ترسيخ نظام تعاقدي مبني على الحق والقانون وبعيدا عن التسلط الذي يحتكر كل السلط، غير أن العمل الجماعي في المغرب تعترضه عدة اكراهات منها مستوى وعي المواطنين ومدى قدرتهم على المشاركة في تدبير شؤونهم، ثم تخلي السلطة المركزية على السياسة الاجتماعية على الاقل في مجال الصحة والسكن والتعليم والشغل، وتبني الخيار الليبرالي المبني على خوصصة الخدمات العمومية وتفويتها للخواص، فنزيف الخوصصة متواصل منذ عقود، مما يحتم على الفاعل السياسي الجديد ضرورةتبني استراتيجية جديدة تقوم على استعادة أسس الدولة الاجتماعية التي خربتها النيوليبرالية والتجربة الإخوانية.