عندما تصبح الخيانة وجهة نظر
◆ محمد غريب
هناك اغنية شهيرة للمغني الشيخ إمام غناها بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان إلى مصر في يناير 1975، أي في الفترة التي تحول فيها الرئيس المصري أنور السادات نحو المعسكر الغربي واعتمد “سياسة الانفتاح” التي كانت نتائجها كارثية على مصر.. وكلمات الأغنية الساخرة تبشر الشعب المصري بكون الرئيس الفرنسي سيجلب معه الرخاء والعيش الرغيد لفقراء مصر وأن أحوال المواطنين ستتحسن كثيرا لدرجة أنهم بدل البنزين سيعتمدون في تموين سياراتهم على العطر الفرنسي الشهير.
هذه الأغنية ذكرني بها “الناشط الأمازيغي” أحمد عصيد الذي يتحدث في “أوديو” توصلت به من أحد الأصدقاء عن “كرم ” يهود إسرائيل الذين يرغب في جلبهم للاستثمار في المغرب، ويبشر فيه المغاربة بكون العلاقة مع “يهود إسرائيل” والعمل على استعادتهم سيساهمان في حل القضية الفلسطينية وإرساء أسس السلم في فلسطين المحتلة.. وبكون فقراء المغرب طبعا سيستفيدون من الرخاء الذي سيجلبه معهم هؤلاء اليهود الأمازيغ الى بلادنا.. ومن يدري فربما سيعتمد المغاربة هم أيضا في تموين سياراتهم على العطر “الإسرائيلي” بدل النفط العربي.
”الأوديو” هو عبارة عن حوار يدور في معظمه عن “تهمة” التطبيع التي يحاول طرفي الحوار نفيها عن نشطاء الأمازيغية الذين أصبحت علاقتهم مع إسرائيل معروفة.. وعلى طول هذا الحوار يبدل السيد عصيد مجهودا كبيرا ليفرض فهمه الخاص للتطبيع والذي يختصره في التعامل مع المؤسسات الرسمية لدولة “إسرائيل” ، أي أنه لا يريد أن يعترف أن هناك تطبيعا بالمعنى السياسي ولكن هناك أيضا تطبيع بالمعنى الاقتصادي والثقافي..
وإذا اعتمدنا على فهم السيد عصيد لمضمون التطبيع فإن العالم الفيزيائي الشهير “ستيفن هوكينغ” كان على خطأ عندما قاطع الأنشطة العلمية التي كان يستدعى اليها في “إسرائيل”.. وكان عليه أن يستفيد من تجربة السيد عصيد الذي يستقبل في بلده المغرب وفودا من صهاينة “إسرائيل” تحت غطاء التبادل الثقافي.. ويبرر ذلك بكونهم أناس طيبين جاؤوا الى المغرب بنية الاستثمار. (هذه أول مرة أسمع فيها أن الطلبة والباحثون يسافرون خارج بلدانهم من أجل الاستثمار).
إن “ستيفن هوكينغ” وهو أشهر علماء العالم يعترف بعدالة القضية الفلسطينية ويرفض أن تستغل “إسرائيل” اسمه لتلميع صورتها الدموية أمام العالم، هذا في الوقت الذي يتبجح فيه السيد عصيد الذي يدعي التقدمية والحداثة بعلاقته مع الصهاينة ويبرر ذلك بكونهم “يهود أمازيغ”.. وحتى عندما يعلن تضامنه مع الشعب الفلسطيني فإنه يحسب كلماته ببخل شديد ويعلن أنه يتضامن لأسباب إنسانية.
إن حالة العالم الكبير “ستيفن هوكينغ” ليست معزولة فهناك من خارج العالم العربي والاسلامي مفكرون وعلماء من العيار الثقيل وكتاب ومثقفون وفنانون يعلنون صراحة أنهم مع القضية الفلسطينية لأسباب سياسية أي انهم ضد الصهيونية كحركة عنصرية واستعمارية. وها هو المفكر الكبير وعالم اللسانيات “نعوم تشومسكي” ذو الأصول اليهودية ولأنه لا ينظر إلى الواقع من منظور عرقي يعلن : ” أنا ضد أي حضور في إسرائيل لأن ذلك يمكن استخدامه لأهداف قومية ودعائية تغطي على الاحتلال وعلى هضم الحقوق الأساسية للفلسطينيين.. أنا منخرط في عدة أنشطة تحمل المسؤولية لإسرائيل في انتهاك القانون الدولي”.
غلاة الأمازيغية والرجعية العربية هم وحدهم من يتعاملون مع الصهاينة دون حرج.. والسيد عصيد يعتقد أنه ذكي وبمقدوره استغفال المغاربة عندما يصرح أن هؤلاء اليهود “إذا جلست معهم ما يمكنش تعرف أنهم من إسرائيل”.. وهذا صحيح طبعا لأنهم ليسوا أغبياء لكي يكشفوا عن هويتهم الحقيقية وأهدافهم الجهنمية خصوصا وأنهم يعلمون أنهم غير مرحب بهم في بلادنا.
الجميع يعرف أن “إسرائيل” مجتمع عسكرتاري تتم فيه التربية على العنف والكراهية والعنصرية منذ الصغر.. ويخضع فيه الجميع للخدمة العسكرية التي تستمر لأزيد من سنتين يتعلم فيها المجندون استعمال السلاح ويتدربون بشكل جدي على القتال لأنه من المحتمل جدا استدعائهم للمشاركة في الحروب التي تشنها دولتهم على الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين.. كما أن الخدمة العسكرية تكون مناسبة لهؤلاء المجندين للخضوع لتكوين معمق حول أساليب الاستخبارات واستعمال أحدث التقنيات في نقل المعلومات.
هؤلاء إذن هم من يريد السيد عصيد جلبهم للاستثمار في المغرب.. ويريد أن يقنعنا أنهم ذوو نيات حسنة يريدون فقط العودة الى جذورهم الأمازيغية.. وأن نيته هو أيضا حسنة وقلبه على فقراء امازيغن الذين يريدهم أن يستفيدوا من استثمارات إخوانهم يهود “إسرائيل”.
إن حقد السيد عصيد على كل ما هو عربي وإسلامي أكيد سيمنعه من قراءة غسان كنفاني المناضل الكبير والمثقف الذي عرى الصهيونية وكشف عن الوجه البشع للمجتمع الصهيوني الذي يدعم الحكومات والأحزاب على قدر دمويتها وتشددها في القتل والعنصرية والكراهية.
لقد كانت لغسان كنفاني القدرة على اختصار أكثر الأمور تعقيدا في جملة واحدة. فعندما كتب جملته الشهيرة ” إن الانسان في نهاية الأمر قضية” فقد كان يقصد أن الانتماء إلى الوطن لا يقوم على رابطة الدم او الدين أو اللغة وإنما يقوم على حب الوطن وعلى قضية كبرى يتبناها الانسان من أجل خدمة وطنه.
إن اليهود المغاربة في معظمهم ـوهذه إحدى جرائم الصهيونية- قد تجردوا من اصولهم الحقيقية وأصبحت قضيتهم الأولى هي خدمة دولة “إسرائيل” حتى ولو كانت هذه الخدمة تقوم على قتل الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم.. وكون هؤلاء اليهود ناطقين بالأمازيغية أو بالعربية فهذا لن يغير من واقع أنهم صهاينة أي شيء.
لكن هذا كله لا يهم غلاة الأمازيغية لأن التعصب قد أعمى عيونهم وجعلهم ينكرون الحقائق ويزورون التاريخ ويعتبرون عدوهم الأول هو الإسلام والعروبة أما إسرائيل ولأنها عدوة للشعوب العربية والإسلامية فهم يرغبون في صداقتها.
وقد بلغ السيد عصيد قمة التزوير عندما اعتبر أن السبب الرئيسي لهجرة اليهود هو سلوك المغاربة الذي تغيرنحوهم بسبب نشأة دولة “إسرائيل”.. هذا السلوك الذي أصبح فيه نوع من “الميز والحكرة” وهذا ما جعل اليهود يقتنعون بنصيحة المنظمة الصهيونية العالمية التي حذرتهم من انهم سيتعرضون للاضطهاد في الدول التي فيها العرب والمسلمون ( لاحظوا هنا ان المضطهد هنا هو العربي والمسلم تحديدا).
الصهيونية نفسها تقف مندهشة أمام هذا التزوير الفاضح للتاريخ.. واليهود أنفسهم يعترفون أنهم كانوا يعيشون بسلام مع “العرب والمسلمين” وأن الهجرة كانت عملا منظما بدأ قبل سنة 1948 وأن الدعاية التي قامت بها المنظمة الصهيونية العالمية، والتي كانت لها أساليبها الجهنمية في تحريض اليهود هي العامل الأساسي الذي جعل معظم اليهود يغادرون المغرب نحو “إسرائيل”، بل إن الآلاف منهم قد تم تهجيرهم ضد رغبتهم ولأسباب معروفة وفي شروط معروفة لا يتسع المجال لها.
إن الدفاع عن الباطل دليل على الهرولة والانبطاح امام الصهيوني المنتصر بحثا عن مستقبل وعن انتصار لا يستقيم إلا بانكسار كل ما هو عربي وإسلامي في مجتمعنا.. بل يقوم على انكسار الدولة نفسها. فإذا كان ولاء أحزاب الإسلام السياسي الأول هو لجماعاتها فإن ولاء غلاة الأمازيغية هو للماضي وللقبيلة وليس للوطن الأم. و”إسرائيل” التي تحمل عقيدة الحرب على المجتمعات العربية والإسلامية من المحيط الى الخليج تشجع كل من يريد أن ينخرط إلى جانبها في هذه الحرب.. وهي تعتمد في ذلك على علماء الاجتماع والانتروبولوجيا الذين يستقبلهم السيد عصيد بكل حفاوة في وطنه، بل وتبلغ به الحماسة منتهاها عندما يتساءل مستنكرا لماذا يسمح للعربي أن يتعامل مع عرب “أسرائيل” ولا يسمح للأمازيغي أن يتعامل مع أمازيغ “إسرائيل”؟
وهنا أيضا تطغى النظرة العرقية على كل الاعتبارات ويتساوى العربي الفلسطيني صاحب الأرض والذي تشبت بوطنه وعجزت العصابات الصهيونية على تهجيره، يتساوى باليهودي الذي هاجر من بلده الأصلي ليندمج في المجتمع “الإسرائيلي” ويقوم بخدمة مشروعه الاستعماري والعنصري على حساب الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
السيد عصيد لا يميز فقط بين الجلاد والضحية ولكنه ينحاز إلى الجلاد لأنه يهودي أمازيغي وينسى أن هذا الأخير لم يعد يحمل من الأمازيغية غير الاسم.
إن مثل هذا الخطاب يسعى أصحابه إلى إعادة صياغة الذاكرة الوطنية بشكل يقبل بالصهيونية كما لو أنها واقع طبيعي علينا قبوله والاعتراف به.. وهذا هو جوهر التطبيع، أي الدعوة إلى ثقافة الاستسلام والانهزام.
يقول السيد عصيد مزهوا: “لم تعد مصداقية الناس مرتبطة بالتطبيع مع إسرائيل”. والمعنى من هذا الكلام واضح.. فعندما يحتفل المثقف بالهزيمة فهو يعبر أولا عن سقوطه الشخصي وهو ثانيا يدعو إلى الانحناء أمام المنتصر لأن الزمن تغير.
لقد نسي السيد عصيد أن دور المثقف الحقيقي هو الدفاع عن قيم الخير والعدالة والحق وذلك بغض النظر عن الزمن المتغير.. لقد كانت الثقافة دائما هي الخندق الأخير للشعوب المكافحة ضد الظلم والاستبداد، لأن الثقافة هي الذاكرة الجماعية وهي الهوية وهي القيم التي لا يتغير معناها من زمن إلى آخر.. وهي الأساس الذي يسمح بالوقوف في وجه الطغيان.
إن ثقافة المقاومة هي على عكس ثقافة الاستسلام والانبطاح تدعو إلى احتفاظ الإنسان بإنسانيته وكرامته مهما كانت الظروف.
إن غلاة الأمازيغية وتحت شعار الدفاع عن الثقافة الأمازيغية يهدفون في آخر المطاف إلى تشويه ثقافتنا الوطنية بكل مكوناتها وإلى تفكيك الذاكرة الوطنية وتزوير التاريخ، وخلق كائن بدون ذاكرة ولا إرادة.. يقبل بثقافة الاستسلام والإذعان.
لكن وكما انكشف أمر دعاة التطرف الديني سينكشف أمر دعاة التعصب العرقي، لأن المغاربة يعيشون في انسجام تام مع انتماءاتهم المتعددة بدون تعصب وبدون شوفينية.
أما حكاية الاستثمارات التي يرغب السيد عصيد في جلبها من “إسرائيل” ليستفيد منها فقراء المغرب فالأكيد أنهم سيرفضونها لأن الفقر لم يحطم فيهم عزة النفس ليمدوا أيديهم إلى أعداء الإنسانية.