أعطاب التجربة الجماعية بالمغرب
◆ محمد بولامي
1 – مفهوم الجماعة:
الجماعة في القانون المغربي هي وحدة ترابية لها حدود إدارية، يتم إحداثها بمقتضى مرسوم، تخضع للقانون العام، وتتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، ويتولى تدبير شؤونها مجلس منتخب بالاقتراع العام المباشر. ولها اختصاصات يحددها القانون المنظم لها.
وعرف التدبير الجماعي المغربي عدة تطورات سواء على مستوى القوانين المنظمة للجماعات المحلية، أو في عددها، وعدد أعضائها المنتخبين، أو في ماليتها.
وقد جاء إقرار النظام الجماعي بالمغرب بعد الاستقلال ضمن سياق عام تميز بالصراع بين كتلتين كبيرتين هما:
- أحزاب الحركة الوطنية (حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) التي كانت تطالب بدمقرطة النظام السياسي المغربي، وذلك بإنشاء مؤسسات تمثيلية محلية ووطنية على قاعدة انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.
- كتلة يمينية جمعت ما سمي بالقوة الثالثة (بقايا الإقطاع) والمعمرون الجدد المدعومة ببقايا اللوبي الاستعماري.
ومن النقط التي عرفت نقاشا حادا وتباينا في المواقف والآراء بين الكتلتين: أي نمط اقتراع يمكن اعتماده؟ فقد كانت مطالب حزب الاستقلال هي اعتماد نمط اقتراع لائحي بالأغلبية في دورة واحدة. بينما دافع حزب الشورى والاستقلال على اللائحي النسبي، ودافع حزب الحركة الشعبية على نمط الاقتراع الفردي. وأقر النظام نمط الاقتراع الأحادي الاسمي في دورة واحدة بناء على رأي الخبيرين القانونيين الفرنسين موريس دوفرجي ولوبادير، لمنع فوز حزب الاستقلال( قبل انقسامه) بأغلبية المقاعد بالمجالس الجماعية. وهو نمط يخدم مصالح الأعيان وأصحاب النفوذ القبلي والعشائري.
واحتكرت وزارة الداخلية جميع العمليات المرتبطة بالانتخابات، فهي التي تقوم بوضع لوائح الناخبين والناخبات، والتقطيع الانتخابي، وتعيين رؤساء وأعضاء مكاتب التصويت، وفرز وإحصاء الأصوات، وإعلان النتائج.
كما طبع التجارب الانتخابية المغربية عمليات التزوير وتدخل الإدارة الترابية في صنع المجالس التمثيلية المحلية والوطنية. وهو ما افقد الانتخابات مصداقيتها وصدقيتها. وقد اثر هذا العامل على عملية دمقرطة المجتمع، وضرب مبدأ اعتبار السيادة الشعبية هي مصدر السلطة والتمثيل، وأن الانتخابات النزيهة هي البوابة الديمقراطية لولوج المؤسسات التمثيلية. تزوير الانتخابات حول المجالس الجماعية إلى مراكز لنشر الفساد الانتخابي والمالي، وأثر على الدور التنموي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للجماعات. وعرفت اختصاصات الجماعات المحلية(البلدية والقروية) مجموعة من التطورات منذ صدور أول قانون في 23 يونيو1960.
2 – ظهير 23 يونيو 1960 جعل الجماعات تابعة للإدارة الترابية
صدر أول ظهير للتدبير الجماعي بعد الاستقلال بتاريخ 23 يونيو 1960، وبمقتضى هذا الظهير الحامل رقم 1.59.315 تم إلغاء جميع الظهائر السابقة الصادر في عهد الحماية الخاصة بتدبير الشأن المحلي. وما ميز هذا القانون هو محدودية اختصاصات الجماعات الحضرية والقروية، وثقل وصاية وزارة الداخلية عليها. كما منح هذا القانون سلطات واسعة في تدبير الشأن المحلي إلى العمال والباشوات والقواد ، بينما حد من سلطات واختصاصات المجالس المنتخبة. وبناء على المرسوم رقم 2.58.691 بسن نظام للمحاسبة البلدية، (الفصل الثاني)، فالعامل أو الباشا هو الذي يقوم بتحضير ميزانية البلدية، ومسطرة المصادقة عليها كما حددها الفصل الخامس من المرسوم طويلة تبتدئ بالمجلس ثم ترفع إلى وزير الداخلية الذي يرفعها مشفوعة برأي وزير المالية إلى رئيس الحكومة، في انتظار الموافقة. وأي تعديل في الميزانية يخضع لنفس المسطرة. لقد حرم هذا القانون الجماعات من دورها التقريري الحقيقي في تدبير شؤون المواطنين على الصعيد البلدي والقروي، وجعلها مجرد ملحقات لوزارة الداخلية.
وتفادى هذا القانون ربط إحداث الجماعة بقبيلة أو جماعة بشرية، وجعل الجماعة هي وحدة ترابية لها حدود تحددها الإدارة الترابية، واستهدف التقطيع الترابي وإحداث الجماعات الترابية تفتيت الوحدات القبلية، وإضعاف سلطة زعماء وشيوخ القبائل، وخلق قاعدة جديدة من الأعيان المحليين(أعضاء المجالس الجماعية الجدد) المدافعين عن العرش حسب تعبير ريمي لوفو. وإنشاء جماعات صغيرة بإمكانيات مالية ضعيفة، حيث تم إحداث 846 جماعة حضرية وقروية، وسيعرف هذا العدد ارتفاعا كبيرا ليصل حاليا إلى 1503 جماعة منها:221 بالمجال الحضري، و1282 بالمجال القروي.
وحددت مدة الولاية في ثلاث سنوات ثم مددت إلى ست سنوات ابتداء من انتخابات 1963. وطيلة فترة الاستثناء(1965-1970) التي فرضها الملك الحسن الثاني ابتداء من 7 يونيو 1965 على المغرب لم تعرف البلاد أية انتخابات جديدة. وقاطعت أحزاب المعارضة (حزبا الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) انتخابات 1969 المحلية والاستفتاء على دستور 1970 ولم تشارك في الانتخابات التشريعية لسنة 1970. وعرف المغرب محاولتين انقلابيتين عسكرتين الأولى سنة 1971 من تدبير كل من الجنرال المذبوح والعقيد امحمد أعبابو والثانية بقيادة الجنرال الدموي محمد أوفقير، ومحاولة 3 مارس 1973 بقيادة عمر دهكون ومحمد بنونة. ولفك العزلة على النظام وضع الملك الراحل الحسن الثاني دستور 1972، وقانون المغربة سنة 1973 وتنظيم المسيرة الخضراء سنة 1975، وأصدر الميثاق الجماعي الجديد بتاريخ 30 شتنبر 1976.
3 – تطور في القوانين وفساد في الممارسة
وسع الميثاق الجماعي الجديد الصادر بتاريخ 30 شتنبر 1976 من اختصاصات المجالس الحضرية والقروية، واختصاصات رئيس المجلس، حيث تم تحويل مجموعة من السلط التي كان يتمتع بها الباشا أو القائد إلى رئيس المجلس الجماعي. وأعطى للمجالس صلاحيات إحداث وتنظيم المصالح العمومية الجماعية وتدبير شؤونها إما عن طريق الوكالة المباشرة أو الوكالة المستقلة، أو عن طريق الامتياز. غير أن وصاية وزارة الداخلية استمرت قائمة، وترتب عنها عدة منازعات واصطدامات بين ممثلي الداخلية وممثلي السكان، بين المعين: الباشا أو القائد، وبين المنتخب: رئيس المجلس الجماعي.
كما ترتب عن هذه التجربة الجماعية تباين بين الجماعات من حيث الثروة، فظهرت جماعات غنية وأخرى فقيرة. وانعكس هذا التباين على الخدمات المقدمة من طرف الجماعات. ونال المجال القروي نصيبه الكبير من الفقر وقلة الخدمات ورداءتها. ولم يساعد النظام الجماعي على انتشال المواطنين بالوسط القروي من الفقر والأمية والمرض. وظل يفتقر إلى المدرسة القريبة من مجال سكن الأطفال، والى المؤسسة الصحية، والماء الصالح للشرب، والكهرباء والتطهير السائل، والطرق. وظل يعاني من العزلة القاتلة.
وأسفرت الانتخابات الجماعية التي جرت يوم 12 نونبر 1976 عن انتخاب 13362 مستشارا جماعيا في 830 جماعة. منها 82 جماعة حضرية، و748 جماعة قروية. وعرفت هذه الانتخابات كسابقاتها عمليات تزوير سافرة وتدخل الإدارة الترابية في العمليات الانتخابية، وكشفت النتائج عن “فوز” كبير للامنتمين. حيث بلغ عدد المستشارين اللامنتمين 8532 مستشارا. لقد شكل الفساد الانتخابي قاعدة أساسية في تشكيل المجالس الجماعية والقروية. ومن هنا جاءت محدودية دور المجالس في التنمية المحلية.
ومن نتائج التجربة إنشاء مجموعة من “الوكالات المستقلة” والتي تحولت إلى مؤسسات لا سلطة حقيقية للمجالس الجماعية عليها. وعرف بعضها خاصة الوكالات المستقلة للنقل الحضري تدبيرا سيئا، وانتهت إلى الإفلاس.
ومن النتائج السيئة لوصاية الداخلية على المجالس منح بعض الشركات الخاصة تدبير قطاعي الماء والكهرباء باسم “التدبير المفوض” والذي بمقتضاه أصبحت “لاليونيز دي زو” تدبر الماء والكهرباء بالدارالبيضاء، و”ريضال” بالرباط، وأمانديس بطنجة وتطوان. وتوالت عمليات انتزاع مجموعة من الصلاحيات الخاصة بالمجالس الجماعية وحرمان صناديق الجماعات من مداخيل أساسية. ولم يقتصر الأمر عند تدبير الماء والكهرباء والنقل العمومي، بل انتقل إلى الشوارع والساحات. وبدل أن يبقى الماء والكهرباء والنقل خدمة عمومية، أصبحت شركات خاصة تحتكره وتنهب جيوب المواطنين والمواطنات. وتظل استفادة الجماعات من مداخيل هذه الخدمات محدودة جدا. لقد تحولت عقود الامتياز إلى آليات لحرمان الجماعات من مداخيل حقيقية، وامتياز ريعي لأشخاص وشركات لنهب المواطنين. وشكلت بوابة كبرى لخوصصة الخدمات العمومية، وهجوم الرأسمال المتوحش على جيوب المواطنين.
وتجلى ثقل وصاية الداخلية على الجماعات في تدبير الحكومة لجائحة كوفيد 19. فبدل إشراك الجماعات الترابية في تدبير الجائحة، وتعبئة المنتخبين والمنتخبات لمواجهة الوباء، قامت وزارة الداخلية بتعليق جلسات دورات المجالس، وغيبت أي دور للجماعات ولممثلي السكان، وتصدر القواد والمقدمين واجهة التصدي للجائحة.
4 – ضعف الحضور النسائي في التجربة الجماعية
من نقط ضعف تجربة المجالس الجماعية بالمغرب غياب شبه تام للنساء في تدبير الشأن المحلي حيث غاب انتخاب أية امرأة في انتخابات 1960، وبلغ عددهن في انتخابات 1976 عشرة نساء فقط من بين 13362 مقعد، وارتفع العدد إلى 77 منتخبة في انتخابات 1983 من أصل 15502 مقعد، وانتقل العدد إلى 83 منتخبة في انتخابات 1997، وارتفع العدد إلى 127 في انتخابات 2003، وصل العدد إلى 3428 منتخبة في انتخابات 2009 من أصل 27795 مقعد،أي ما يمثل نسبة 12.3% من مجموع المقاعد، ثم قفز إلى 6673 مقعدا في انتخابات 2015. ويعود السبب في هذا الارتفاع إلى الإجراءات التمييزية التي اعتمدتها الدولة لتشجيع المرأة على العمل السياسي.
غياب النساء عن تدبير الشأن المحلي، صاحبه تغييب للمرافق الخاصة بالنساء والأسرة على صعيد الجماعات المحلية، وغياب الاهتمام بحاجيات النساء كدور الولادة، والداخليات الخاصة بالتلميذات، رياض الأطفال…الخ.
5 – انتشار الفساد
ولعل اكبر عطب رافق تجربة الجماعات بالمغرب، هو انتشار الفساد، وتحول المجالس الجماعية إلى أوكار لتعميم الفساد، وقد وقفت العديد من تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للإدارة الترابية على العديد من الخروقات والتجاوزات والتلاعب بالمال العام. وآخرها تقرير لوزارة الداخلية برسم سنة 2019 يتحدث عن مخالفات قانونية قام بها 82 عضو بالجماعات الترابية، منهم 33 رئيس و15 نائب للرئيس و34 عضو. واتخذ الفساد عدة مظاهر، منها الرشوة والتلاعب في الصفقات العمومية، وانتشار السكن العشوائي والتوظيفات المشبوهة، واحتلال الملك العمومي واستغل الفاسدون غياب القوانين الخاصة بالاغتناء غير المشروع فعاثوا في البلاد الفساد.
إن الهدف من إحداث الجماعات هو التخفيف من لا مركزية القرار الإداري، وتقريب الخدمات من المواطنين، وإشراك المواطنين في تدبير شؤونهم. غير أن التجربة الجماعية المغربية أصابها طاعون الفساد، الفساد الانتخابي، وفساد الخدمات. وتحولت الجماعات إلى أوكار لاغتناء غير المشروع بالنسبة للعديد من “المنتخبين”. ولذلك فإن معركة محاربة الفساد تفرض على القوى الديمقراطية والمواطنين الشرفاء مواجهة هذا الطاعون واستئصاله.