الإقتصاد

التحولات الاقتصادية بين أزمة كورونا والأزمة الدورية للرأسمال

◆ سفيان جناتي

من‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬قد‭ ‬عمل‭ -‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أبحاثه‭- ‬على‭ ‬استثمار‭ ‬الفلسفة‭ ‬والعلم‭ ‬والتاريخ‭ ‬لفهم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وطبيعته،‭ ‬مستغلا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ -‬وبشكل‭ ‬خلاق‭- ‬الأسس‭ ‬النظرية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬صاغها‭ ‬سابقوه،‭ ‬مخضعا‭ ‬إياها‭ ‬للنقد‭ ‬ومعيدا‭ ‬تطويرها‭. ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‭ ‬كتب‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬يومنا،‭ ‬ولها‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬العياني،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬الاستناد‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬الرأسمالية‭ ‬اليوم‭. ‬وقد‭ ‬سعت‭ ‬الإيديولوجية‭ “‬البرجوازية‭” ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعها‭ ‬لدحض‭ ‬نظرية‭ ‬ماركس،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬حققت‭ ‬كتب‭ ‬ماركس‭ ‬عموما‭ ‬و‭ “‬رأس‭ ‬المال‭” ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬إقبالا‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬بعد‭ ‬أزمة‭ ‬2008‭ . ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ (‬رأس‭ ‬المال‭) ‬كان‭ ‬غائبا‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬وإنما‭ ‬زاد‭ ‬الاهتمام‭ ‬به‭ ‬بشكل‭ ‬ملفت،‭ ‬وطالما‭ ‬وُجد‭ ‬البرجوازيون‭ ‬والعمال‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬يظل‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬بالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬النشاط‭ ‬الاقتصادي؛‭ ‬فماركس‭ ‬يحدد‭ ‬الأزمة‭ ‬الدورية‭ ‬لنمط‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ثمان‭ ‬و‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬وهذه‭ ‬إشارة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الإشارات‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‭ ‬نظرية‭ ‬ماركس،‭ ‬والتي‭ ‬سنستند‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬هذه‭ ‬المقال،‭ ‬فالغاية‭ ‬ـ‭ ‬هنا‭ ‬ـ‭ ‬ليست‭ ‬عرض‭ ‬أفكار‭ ‬ماركس‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يهم‭ ‬الاستناد‭ ‬إليها‭ ‬لتحديد‭ ‬خط‭ ‬التماس‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬أفكارنا‭ ‬حول‭ ‬التطورات‭ ‬والتغيرات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العالم‭ ‬ـ‭ ‬خصوصا‭ – ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬وبين‭ ‬مستقبل‭ ‬هذه‭ ‬التغيرات‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬الإشارات‭ ‬التي‭ ‬تتضمنها‭ ‬كتابات‭ ‬ماركس‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعنى‭ ‬بالسمات‭ ‬التي‭ ‬يتجه‭ ‬صوبها‭ ‬نمط‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرأسمالي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحالي،‭ ‬ونقصد‭ ‬هنا؛‭ ‬الهوة‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬متسعة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬ومفضوح‭ ‬بين‭ ‬الأثرياء‭ ‬والفقراء،‭ ‬بين‭ ‬مالكي‭ ‬النقد‭ ‬ومالكي‭ ‬قوة‭ ‬العمل‭. ‬وقد‭ ‬أدرك‭ ‬ماركس‭ ‬مبكرا‭ ‬أن‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬ليست‭ ‬خطأ‭ ‬أو‭ ‬صدفة‭ ‬أو‭ ‬اختيارا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬صفة‭ ‬ملازمة‭ ‬لهذا‭ ‬النمط؛‭ ‬فأزمة‭ ‬الحربين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬قد‭ ‬أنتجت‭ ‬شكلا‭ ‬جديدا‭ ‬لإخضاع‭ ‬الشعوب،‭ ‬وجعلها‭ ‬تحت‭ ‬رحمة‭ ‬المركز‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬و‭.‬م‭.‬الأمريكية‭ ‬تفوق‭ ‬قوتها‭ ‬قوة‭ ‬باقي‭ ‬الدول‭ ‬المنتصرة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬1945،‭ ‬فذلك‭ ‬كله‭ ‬عزز‭ ‬حظوظها‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬العالم‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬الأسطر‭. ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬السيطرة‭ ‬والهيمنة‭ ‬تنهار‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬كما‭ ‬سنبين‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذا‭ ‬المقال.

ففي‭ ‬سنة‭ ‬1945‭ ‬قامت‭ ‬و‭.‬م‭.‬الأمريكية‭ ‬بدعوة‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬44‭ ‬دولة‭ ‬لإعطائهم‭ ‬مُهلة‭ ‬للتفكير،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬فاتح‭ ‬شهر‭ ‬يونيو‭ ‬إلى‭ ‬22‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الشهر،‭ ‬حول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭. ‬

  ‬المستوى‭ ‬الاقتصادي‭: ‬رفع‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشعارات‭ ‬والأدوات‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال؛‭ ‬نظام‭ ‬نقدي‭ ‬جديد،‭ ‬سياسات‭ ‬نقديه‭ ‬جديدة،‭ ‬تحديث‭ ‬أسعار‭ ‬الصرف‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬والاتفاقية‭ ‬العامة‭ ‬للتعريفة‭ ‬الجمركية؛‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المؤتمرسيتأسس‭ ‬المثلث‭ ‬الاقتصادي‭ ‬القاتل‭ ‬للشعوب‭ (‬البنك‭ ‬الدولي،‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي،‭ ‬المنظمة‭ ‬العالمية‭ ‬للتجارة‭). ‬وبدورهم‭ ‬سارعوا‭ ‬نحو‭ ‬رفع‭ ‬شعارات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬العمل‭ ‬على‭ ‬المناخ‭ ‬والأمن‭ ‬الغذائي‭ ‬والتعليم‭ ‬والصحة‭ ‬والزراعة‭ ‬والتموين‭ ‬والتجارة‭ ‬الخ‭…‬،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الثالوث‭ ‬قبل‭ ‬تمظهره‭ ‬في‭ ‬قوالب‭ ‬جديدة‭ ‬يعرف‭ ‬ب‭ “‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬للإنشاء‭ ‬والتعمير‭”‬،‭ ‬وكانت‭ ‬أول‭ ‬أعماله‭ ‬تعمير‭ ‬أوروبا‭ ‬بعد‭ ‬الحربين؛‭ ‬لكن‭ ‬منذ‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬أصبح‭ ‬يلعب‭ ‬دور‭ ‬منقذ‭ ‬الشعوب،‭ ‬ظلما‭ ‬وبهتانا،‭ ‬وأصبح‭ ‬مرحبا‭ ‬به‭ ‬لدى‭ ‬أغلب‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ “‬المنطقة‭”‬،‭ ‬باستثناء‭ ‬النظام‭ ‬البعثي‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬وأمام‭ ‬هذا‭ ‬الترحيب،‭ ‬وضع‭ ‬البنك‭ ‬شروطا‭ ‬زجرية‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬تعاملاته،‭ ‬ك‭”‬قروض‭ ‬المقايضة‭” ‬مثلا‭ ‬والتي‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬المَدين‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الشركات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬يحددها‭ ‬البنك‭ ‬بوصفه‭ ‬مانح‭ ‬القرض،‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬عدة‭ ‬شروط‭ ‬إجبارية‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تتوفر‭ ‬في‭ ‬المُقرَضِ‭ ‬حتى‭ ‬يتسلم‭ ‬القرض،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭: ‬بيع‭ ‬مؤسسات‭ ‬القطاع‭ ‬العام؛‭ ‬كالتعليم‭ ‬والصحة،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تصريح‭ ‬الحكومة‭ ‬المغربية‭ ‬بتاريخ‭ ‬30‭ ‬ابريل‭ ‬2019‭ ‬حول‭ ‬تفويت‭ ‬قطاع‭ ‬الطاقة‭ ‬إلى‭ ‬الخصخصة‭.‬

ونذكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬كذلك،‭ ‬حدثين‭ ‬بارزين‭:‬

‭- ‬1971‭ ‬فك‭ ‬النظام‭ ‬المالي‭ ‬ارتباطه‭ ‬بالذهب‭.‬

‭- ‬1976‭ ‬المصادقة‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬الدولار‭ ‬بالبترول‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬جمايكا‭.‬

وعلى‭ ‬أنقاض‭ ‬هذين‭ ‬الحدثين‭ ‬ستتشكل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬نمط‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬نحيل‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ “‬القاتل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للأمم‭” ‬لجون‭ ‬بركينز؛‭ ‬الذي‭ ‬يَعُجُ‭ ‬بالمعلومات‭ ‬والمعطيات‭ ‬التي‭ ‬تُظهر‭ ‬جليا‭ ‬وقاحة‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬يخفي‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬الجشع‭ ‬والاستغلال‭ ‬اللامحدود‭ ‬لمقدرة‭ ‬الشعوب،‭ ‬عبر‭ ‬إنهاكها‭ ‬بالديون،‭ ‬ورهن‭ ‬ثرواتها‭ ‬وخيراتها‭ ‬في‭ ‬خزائن‭ ‬المركز‭ ‬الامبريالي؛‭ ‬فتحويل‭ ‬الثورة‭ ‬المنتجة‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬العاملة‭ ‬وطنيا‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬تفقير‭ ‬شعوبنا‭ ‬وتدمير‭ ‬أي‭ ‬محاولة‭ ‬للنهوض‭ (‬العراق،‭ ‬سوريا،‭ ‬ليبيا،‭ ‬اليمن‭ …) ‬وإفقاد‭ ‬الدول‭ ‬سيادتها‭ ‬الوطنية‭ ‬وكذا‭ ‬تدمير‭ ‬الحدود‭ ‬القومية‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬الرأسمال‭ ‬العالمي‭.‬

نعتقد‭ ‬أن‭ ‬توطئة‭ ‬كهذه‭ ‬مهمة‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬أوصلتنا‭ ‬إليها‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بمظاهرها‭ ‬النيوليبرالية‭ ‬منذ‭ ‬الحربين‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وكذا‭ ‬نسوقها‭ ‬هنا؛‭ ‬حتى‭ ‬يسهل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬اليوم،‭ ‬وعن‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬واضحة‭ ‬للعيان‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬تفشي‭ ‬فيروس‭”‬كورونا‭” ‬التاجي‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬ووفقا‭ ‬لفهم‭ ‬ماركس‭ ‬وتحليلاته‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تنشب‭ ‬الأزمة‭ ‬أو‭ ‬الركود‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬2018‭/ ‬2019‭ ‬بعد‭ ‬الانهيار‭ ‬المالي‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬سنة‭ ‬2008،‭ ‬والتي‭ ‬دفعت‭ ‬البرجوازية‭ ‬العالمية‭ ‬إلى‭ ‬ابتكار‭ ‬حلول‭ ‬عديدة‭ ‬ومتنوعة،‭ ‬لكنها‭ ‬ظلت،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬حلولا‭ ‬ترقيعية،‭ ‬عجزت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬البرجوازيات‭ ‬عن‭ ‬إيجاد‭ ‬إجابة‭ ‬جدرية‭ ‬للركود‭ ‬المستمر‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭. ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يبطل‭ ‬جُل‭ ‬التصريحات‭ ‬المزعومة‭ ‬والكذب‭ ‬المعلن‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬كل‭ ‬منظري‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ومثقفي‭ ‬البنك‭ ‬الدولي؛‭ ‬إذ‭ ‬يحاول‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭”‬إخفاء‭ ‬الشمس‭ ‬بالغربال‭” ‬في‭ ‬ظل‭ ‬المعاناة‭ ‬العميقة‭ ‬للشعوب،‭ ‬وظروفها‭ ‬الحالكة،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬اتساع‭ ‬رقعة‭ ‬مناهضي‭ ‬الإمبريالية‭ ‬والمطالبين‭ ‬بالقصاص‭ ‬من‭ ‬أفعالها‭ ‬الشنيعة،‭ ‬يظهر‭ ‬للواجهة‭ ‬أشباه‭ ‬المثقفين‭ ‬ومهرجي‭ ‬الإعلام‭ ‬الرسمي‭ ‬وبعض‭ ‬الشياطين‭ ‬أصحاب‭ ‬المليارات‭ ‬ليطالبوا‭ ‬بتقليص‭ ‬حدة‭ ‬الفقر‭ ‬بدون‭ ‬خجل‭.‬

لقد‭ ‬اضطرت‭ “‬تيريزا‭ ‬ماي‭” ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬إلى‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬السوق‭ ‬وعن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بكل‭ ‬وقاحة،‭ ‬والإثناءعلى‭ “‬السوق‭ ‬الحرة‭” ‬بوصفها‭ ‬عاملا‭ ‬أساسيا‭ ‬للتقدم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬كما‭ ‬امتلأت‭ ‬المكتبات‭ -‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭-‬بمؤلفات‭ ‬مرتزقة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬من‭ ‬أمثال‭: “‬ألان‭ ‬لي‭ ‬ستفن‭ ‬فنكر‭” ‬وكتاب‭ “‬حقائق‭ ‬الأمور‭” ‬لهانز‭ ‬روسلنغ،‭ ‬حيث‭ ‬شن‭ ‬هؤلاء‭ ‬وغيرهم‭ ‬حملة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬التشهير‭ ‬للرأسمالية‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منهم‭  ‬لإضفاء‭ ‬الملائكية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشيطان‭ ‬الجشع،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬رموز‭ ‬المال‭ ‬والبورصة‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ “‬بيل‭ ‬جيست‭”. ‬فكل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء،‭ ‬السلطويين،‭ ‬وباختلاف‭ ‬تخصصاتهم‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬ذر‭ ‬الرماد‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬العالم،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إلباسه‭ ‬لباس‭ ‬العفة‭ ‬وإظهاره‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المتعافي‭ ‬من‭ ‬الأزمة،‭ ‬فقد‭ ‬قاموا‭ ‬بتوزيع‭ ‬نسخ‭ ‬مجانية‭ ‬لكتب‭ “‬روسلينغ‭” ‬وكذلك‭ ‬تقديم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البرامج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬فنجحوا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬بعد‭ ‬2008‭ ‬بلغ‭ ‬مرحلة‭ ‬الخلود،‭ ‬وأن‭ ‬البرجوازية‭ ‬تخطت‭ ‬أزماتها‭ ‬ببراعة‭ ‬كموقع‭ ‬ساعة‭ ‬الفقر‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬رسومات‭ ‬وإحصائيات‭ ‬مغلوطة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نشر‭ ‬الوهم‭ ‬حول‭ ‬مسألة‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الفقر‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الوهم‭ ‬وهذا‭ ‬التجاوز‭ ‬المزعوم‭ ‬للأزمة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تهاوى‭ ‬أمام‭ ‬الوقائع‭ ‬العيانية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬نفسه،‭ ‬فالإحصائيات‭ ‬المقدمة‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تبين‭ ‬ـ‭ ‬قطعا‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬ماركس‭ ‬كان‭ ‬محقا‭ ‬حينما‭ ‬تنبأ‭ ‬باتساع‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬الأغنياء‭ ‬والفقراء،‭ ‬بحيث‭ ‬أن‭ ‬الليبرالية‭ ‬جعلت‭ ‬نصف‭ ‬ثروة‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الرأسماليين‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬نسبتهم‭ ‬واحدا‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭. ‬وهذا‭ ‬يبين‭ ‬حجم‭ ‬المهزلة‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬وقس‭ ‬عليها‭ ‬النصف‭ ‬المتبقي‭ ‬من‭ ‬الثروة‭.‬

إن‭ ‬كل‭ ‬طَرْقٍ‭ ‬لأبواب‭ ‬البنك‭ ‬الدولي‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الدول‭ ‬يخلف‭ ‬–‭ ‬بالضرورة‭ – ‬نتائجَ‭ ‬وخيمةٍ‭ ‬من‭ ‬فقرٍ‭ ‬وبطالة‭. ‬ولا‭ ‬أدَلَّ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬البرازيل‭ ‬التي‭ ‬استنجدت‭ ‬ـ‭ ‬فترة‭ ‬الثمانينيات‭ ‬ـ‭ ‬بالبنك‭ ‬الدولي،‭ ‬ليتم‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تسريح‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬عمالها،‭ ‬وتفويت‭ ‬قطاعاتها‭ ‬الحية‭ ‬إلى‭ ‬الخوصصة،‭  ‬كما‭ ‬تم‭ ‬إغراقها‭ ‬بالديون،‭ ‬ما‭ ‬شَرع‭ ‬الباب‭ ‬لدخولها‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬استمرت‭ ‬نحو‭ ‬12‭ ‬سنة،‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬البرازيل‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سددت‭  ‬ديونها،‭ ‬فانطلقت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬البناء،‭ ‬وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬الأرجنتين‭ ‬واليونان‭ ‬بوصفهما‭ ‬نموذجين‭ ‬قريبين‭. ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬شعوب‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬المغرب؛‭ ‬إذ‭ ‬تعرف‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬ارتفاعا‭ ‬حادا‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬الفقر‭ ‬بحسب‭ ‬الإحصائيات،‭ ‬إذ‭ ‬ترى‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬تقريبا‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع؛‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬3‭.‬2‭ ‬دولار‭ ‬كحد‭ ‬أقصى‭ ‬في‭ ‬اليوم،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬للبلدان‭ ‬المتوسطة‭ ‬الدخل‭ ‬يبلغ‭ ‬1‭.‬9‭ ‬دولارا‭ ‬للفرد‭ ‬في‭ ‬اليوم‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬أمريكا‭ ‬فبدورها‭ ‬تسجل‭ ‬نسبا‭ ‬في‭ ‬معدل‭ ‬الفقر‭ ‬قدرت‭ ‬ب13بالمائة‭ ‬من‭ ‬سكانها؛‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬41‭ ‬مليون‭ ‬من‭ ‬الساكنة‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬الفقر،‭ ‬وأن‭ ‬18‭ ‬مليونا‭ ‬منهم‭ ‬يعيشون‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع،‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬طفل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬ثلاثة‭ ‬فقراء،‭ ‬وحسب‭ ‬نفس‭ ‬الإحصائيات‭ ‬فإن‭ ‬عدد‭ ‬المشردين‭ ‬بأمريكا‭ ‬قدر‭ ‬بنحو550‭ ‬ألف‭ ‬نسمة‭ ‬دون‭ ‬مأوى‭ (‬أغلبهم‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬السوداء‭).‬

وحسب‭ ‬تقرير‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الأرقام‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭ ‬مستمر‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬المهرج‭ ‬ترامب‭ ‬الذي‭ ‬يتجه‭ ‬نحو‭ ‬إلغاء‭ ‬شبكة‭ ‬الأمن‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬ملايين‭ ‬الفقراء،‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬التقرير‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬توفير‭ ‬حماية‭ ‬اجتماعية‭ ‬قوية‭ ‬للفقراء‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬فرنسا‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬سابقاتها؛‭ ‬إذ‭ ‬يعيش‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬طفل‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬تسعة‭ ‬ملايين‭ ‬نسمة‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬الفقر،‭ ‬وحسب‭ ‬إحدى‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ “‬معهد‭ ‬ابيسوس‭ ‬لدراسة‭ ‬الأسواق‭” ‬بمعية‭ “‬منظمة‭ ‬النجدة‭ ‬الشعبية‭ ‬الفرنسية‭” ‬حول‭ ‬الفقر‭ ‬الغذائي‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬2018،‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬فرنسيان‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬خمسة‭ ‬فرنسيين‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬تحمل‭ ‬تكلفة‭ ‬ثلاث‭ ‬وجبات‭ ‬يوميا‭. ‬ففي‭ ‬فرنسا‭ ‬يتم‭ ‬تحديد‭ ‬عتبة‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتقاضى‭ ‬المرء‭ ‬راتبا‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬1180‭ ‬يورو‭. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬2015‭ ‬كانت‭ ‬عتبة‭ ‬الفقر‭ ‬تحدد‭ ‬بمدخول‭ ‬يوازي‭ ‬1015‭ ‬يورو،‭ ‬حينها‭ ‬وصل‭ ‬عدد‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬الفقر‭ ‬إلى‭ ‬14‭.‬2‭ ‬بالمائة،‭ ‬وأن‭ ‬81‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬يعتبرون‭ ‬أن‭ ‬أبنائهم‭ ‬مهددون‭ ‬بخطر‭ ‬الفقر،‭ ‬وأن‭ ‬59‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬يعتبرون‭ ‬أنهم‭ ‬عرفوا‭ ‬أو‭ ‬كادوا‭ ‬يعرفون‭ ‬الفقر،‭ ‬و65‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الدخل‭ ‬الضعيف،‭ ‬و21‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الفرنسيين‭ ‬يصعب‭ ‬عليهم‭ ‬توفير‭ ‬غذاء‭ ‬صحي‭ ‬لثلاث‭ ‬وجبات‭ ‬يوميا‭.‬

وفي‭ ‬جارتها‭ ‬ألمانيا‭ ‬والتي‭ ‬تعتبر‭ ‬النموذج‭ ‬البارز‭ ‬داخل‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬فقد‭ ‬أعلن‭ “‬المكتب‭ ‬الاتحادي‭ ‬للإحصاء‭” ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬2019‭ ‬بأن‭ ‬19‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الألمان‭ ‬يعيشون‭ ‬تحت‭ ‬خط‭ ‬الفقر‭ ‬أو‭ ‬مهددين‭ ‬بذلك،‭ ‬كما‭ ‬صرح‭ ‬المكتب‭ ‬بأن‭ ‬عدد‭ ‬المهددين‭ ‬بالفقر‭ ‬والإقصاء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬تخطى15‭.‬5‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬19‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬السكان‭. ‬وقد‭ ‬صرح‭ “‬الاتحاد‭ ‬الألماني‭ ‬لحماية‭ ‬الأطفال‭” (‬دب‭ ‬كيه‭ ‬ا‭ ‬سبي‭) ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬نحو‭ ‬4‭.‬4‭ ‬مليون‭ ‬طفل‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬حاليا‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬بزيادة‭ ‬1‭.‬4‭ ‬مليون‭ ‬طفل‭ ‬عن‭ ‬السابق،‭ ‬والحال‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬كبريطانيا‭ ‬وإسبانيا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬واليونان‭…‬والأعداد‭ ‬في‭ ‬ازدياد‭ ‬دائم‭.‬

وحسب‭ ‬المنظمة‭ ‬العالمية؛‭ ‬فإن‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬شهدت‭ ‬ارتفاعا‭ ‬ملحوظا‭ ‬في‭ ‬أعداد‭ ‬من‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬1‭.‬9‭ ‬دولار‭ ‬للفرد،‭ ‬فاليمن‭ ‬وفلسطين‭ ‬وسوريا‭ ‬والعراق‭…. ‬بلدان‭ ‬تم‭ ‬تشريدها‭ ‬وتصدير‭ ‬مقدراتها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المؤامرة‭ ‬الكونية‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وليبيا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬عايناه‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭.‬

دون‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬القارئ‭ ‬وننوهه‭ ‬بأن‭ ‬الأرقام‭ ‬المقدمة‭ ‬قد‭ ‬استقيناها‭ ‬من‭ ‬الإحصائيات‭ ‬الرسمية،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬خفي‭ ‬كان‭ ‬أعظم‭. ‬فالتلاعب‭ ‬بالأرقام‭ ‬والإحصائيات‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الهيمنة‭ ‬الامبريالية،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬معروف‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬يقدمها‭ ‬أستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬لندن‭ ‬‭(‬جايسون‭ ‬هايكل‭) ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬فيها‭ ‬موجزا‭ ‬لانعدام‭ ‬المساواة‭ ‬العالمية‭ ‬وحلولها‭ ‬تاريخيا،‭ ‬وهو‭ ‬موجز‭ ‬للتلاعب‭ ‬بالإحصائيات،‭ ‬وفيه‭ ‬دلائل‭ ‬على‭ ‬بطلان‭ ‬ادعاءات‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬ذر‭ ‬الرماد‭ ‬في‭ ‬أعين‭ ‬الجماهير؛‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬يتهاوى‭ ‬علميا‭ ‬وعلنيا‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬اللغط‭ ‬الذي‭ ‬تقدم‭ ‬به‭ (‬بينكنز،‭ ‬و‭ ‬روسلينغ،‭ ‬وبيل‭ ‬جيتس‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬يتقارب‭ ‬كثيرا‭ ‬مع‭ ‬تنبؤات‭ ‬ماركس‭ ‬و‭(‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الماركسيين‭) ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭ ‬مجبرا‭ – ‬ومنذ‭ ‬بدايته‭ -‬على‭ ‬الترحيب‭ ‬بأفكار‭ ‬كارل‭ ‬ماركس،‭ ‬رغم‭ ‬السنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬من‭ ‬التعتيم‭ ‬والطمس‭ ‬والتشويه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬دراساته‭ ‬وأفكاره‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬حاضرة‭ ‬ولم‭ ‬تغب‭ ‬يوما،‭ ‬بل‭ ‬ويزداد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الأزمات‭ ‬الدورية‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الرأسمالي‭. ‬

بعد‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬سنة‭ ‬2008‭ ‬ستظهر‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الإشكالات‭ ‬في‭ ‬المراكز‭ ‬الرأسمالية‭ ‬التي‭ ‬عاشت‭ ‬الرخاء‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬مقدرات‭ ‬شعوبنا‭ ‬الإفريقية‭ ‬والعربية،‭ ‬فالاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬يعيش‭ ‬أوضاعا‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬عاشها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬المتدهوريتجلى‭ ‬بشكل‭ ‬ساطع‭ ‬في‭ ‬حقله‭ ‬السياسي،‭ ‬وما‭ ‬تأزم‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بالأمس‭ ‬القريب‭ ‬تسهر‭ ‬على‭ ‬تسيير‭ ‬اللعبة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬إلا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬الأزمة‭ ‬المذكورة‭ ‬أعلاه،‭ ‬فصعود‭ ‬الشعبويين‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬التصويت‭ ‬لصالح‭ ‬خروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬الاتحاد،‭ ‬وهذا‭ ‬قد‭ ‬أوصل‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الموت،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭”‬تريزا‭ ‬ماي‭” ‬تقدم‭ ‬استقالتها‭ ‬فورا‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬مجرد‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬سيناريو‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬هو‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬إفلاس‭ ‬كامل‭ ‬للنظام‭ ‬السياسي‭ ‬البريطاني‭.  ‬لكن‭ ‬أزمة‭ ‬أوروبا‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد؛‭ ‬فألمانيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ – ‬لزمن‭ ‬طويل‭ – ‬محركا‭ ‬فاعلا‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ – ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬قبضة‭ ‬الحزبين‭ “‬الديمقراطي‭ ‬المسيحي‭” ‬و‭”‬الاشتراكي‭ ‬الديمقراطي‭” – ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬الانهيار،‭ ‬وما‭ ‬تخلي‭ “‬ميركل‭” ‬عن‭ ‬منصبها‭ ‬في‭ ‬رئاسة‭ ‬الحزب‭ ‬إلا‭ ‬مظهر‭ ‬للاضطرابات‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الألماني‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬صعود‭ ‬الحزب‭ ‬اليميني‭ ‬الجديد،‭ ‬بشكل‭ ‬يثير‭ ‬الانتباه‭.‬

أما‭ ‬فرنسا‭ ‬والتي‭ ‬تعتبر‭ ‬الوجه‭ ‬المفضوح‭ ‬للأزمة،‭ ‬فقد‭ ‬أسقطت‭ ‬معها‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬الوسطي‭ ‬الصغير‭ (‬ماكرون‭) ‬والذي‭ ‬كانت‭ ‬تعلق‭ ‬عليه‭ ‬آمال‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وأوروبا‭ ‬لتخطي‭ ‬الأزمة‭. ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يتبخر‭ ‬أمام‭ ‬موجات‭ ‬الصراع‭ ‬الطبقي‭. ‬وما‭ ‬نضال‭ ‬أصحاب‭ “‬السترات‭ ‬الصفراء‭” ‬إلا‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الموجات‭. ‬ليفتضح‭ ‬زيف‭ ‬ماكرون‭ ‬ومن‭ ‬معه‭. ‬أما‭ ‬الانقسام‭ ‬الذي‭ ‬يتبين‭ ‬للعموم‭ ‬والحاصل‭ ‬بين‭ ‬مركز‭ ‬أورويا‭ ‬وشمالها؛‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬مظهر‭ ‬للأزمة‭ ‬الوجودية‭ ‬التي‭ ‬استوطنت‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬القارة‭ ‬العجوز‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬أزمة‭ ‬اللاجئين‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬تعميق‭ ‬هذا‭ ‬الانقسام‭ ‬وهذا‭ ‬التوتر‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬ألمانيا‭ ‬وبولندا‭ ‬والمجر‭ ‬بدعم‭ ‬من‭ ‬اليمين‭ ‬النمساوي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬هذا‭ ‬الأمرعزز‭ ‬أفكار‭ (‬حزب‭ ‬نداء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ألمانيا‭)‬،‭ ‬فهذه‭ ‬التعبيرات‭ ‬هي‭ ‬أشكال‭ ‬سطحية‭ ‬للأزمة‭ ‬والانشقاق‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العميق‭ ‬بين‭ ‬شمال‭ ‬وجنوب‭ ‬أوروبا‭.‬

في‭ ‬اليونان‭ (‬التجربة‭ ‬القريبة‭) ‬فقد‭ ‬استعملت‭ ‬فيها‭ ‬البورجوازية‭ ‬الأوروبية‭ ‬جميع‭ ‬المحاولات‭ ‬لضخ‭ ‬أموال‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬اليوناني،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬وصل‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬لدرجة‭ ‬الصفر،‭ ‬وانهار‭ ‬بشكل‭ ‬درامي‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬الجميع،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬اقترب‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يستسيغ‭ ‬هذه‭ ‬الخسائر‭ ‬وهذا‭ ‬السقوط،‭ ‬حتى‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬أزمة‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا،‭ ‬إذ‭ ‬وصل‭ ‬العجز‭ ‬المتراكم‭ ‬إلى‭ ‬أزيد‭ ‬من‭ ‬130‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬المحلي‭ ‬الإجمالي‭. ‬ورغم‭ ‬محاولات‭ ‬التحالف‭ ‬الحكومي‭ ‬للتملص‭ ‬من‭ ‬الشروط‭ ‬المفروضة‭ ‬عليه،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬إجبارهم‭ ‬على‭ ‬دفع‭ ‬غرامات‭ ‬ضخمة‭ ‬واستسلام‭ ‬زعيم‭ ‬حركة‭ ‬الخمس‭ (‬لويجي‭ ‬دي‭ ‬ماي‭) ‬وكذلك‭ ‬زعيم‭ ‬رابطة‭ ‬الشمال‭ (‬مني‭ ‬تو‭) ‬فتعهدت‭ ‬إيطاليا‭ ‬على‭ ‬تخفيف‭ ‬عجز‭ ‬ميزانيتها‭ ‬من‭ ‬2‭.‬4‭ ‬إلى‭ ‬2‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬الداخلي‭ ‬العام،‭ ‬وهذه‭ ‬الحلول‭ ‬ترقيعية‭ ‬لا‭ ‬غير‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬حل‭ ‬عام‭ ‬2019‭ ‬حتى‭ ‬بدا‭ ‬التوتر‭ ‬الفرنسي‭ ‬الايطالي‭ ‬ظاهرا،‭ ‬حيث‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كلمته‭ (‬كونتي‭) ‬الذي‭ ‬صرح‭ ‬بأن‭ “‬حكومتنا‭ ‬تواجه‭ ‬كل‭ ‬الصعوبات‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وأوروبا‭” ‬وذلك‭ ‬بلغة‭ ‬شديدة‭ ‬اللهجة،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تهديد‭ ‬صريح‭ ‬معناه؛‭ ‬إما‭ ‬رفع‭ ‬الضغط‭ ‬عنا‭ ‬أو‭ ‬ستشهد‭ ‬المنطقة‭ ‬انفجارا‭ ‬اجتماعيا‭ ‬ستترتب‭ ‬عنه‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬أوروبا‭  ‬كلها‭. ‬ووفقا‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬واستنادا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬خلفتها‭ ‬الامبريالية‭ ‬وصندوقها‭ ‬الدولي‭ ‬وقبل‭ ‬نهاية‭ ‬2019‭ ‬كان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬ودارسي‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والمستقبليات‭ ‬يتنبئون‭ ‬بأزمة‭ ‬عميقة‭ ‬قد‭ ‬تتجاوز‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬ل‭ ‬2008،‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬ركودها‭ ‬قائما‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الإجراءات‭ ‬التدبيرية‭ ‬والاحترازية‭. ‬فحسب‭ ‬بعض‭ ‬المعطيات‭ ‬الرسمية‭ ‬فإن‭ ‬2020‭ ‬كانت‭ ‬ستكون‭ ‬أسوأ‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لكن‭ ‬ينبغي‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬كوننا‭ ‬نتحدث‭ ‬قبل‭ ‬ظهور‭ ‬أي‭ ‬مؤشر‭ ‬لفيروس‭ ‬كورونا‭ ‬بغية‭ ‬توضيح‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬كانت‭ ‬قادمة‭ ‬وعلى‭ ‬الأبواب،‭ ‬وما‭ ‬ال‭”‬كورونا‭” ‬سوى‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬أفاضت‭ ‬الكأس‭ ‬وعجلت‭ ‬وسرعت‭ ‬وعمقت‭ ‬الأزمة‭.‬

لكل‭ ‬أزمة‭ ‬أثرها‭ ‬وتغيراتها‭ ‬وتحولاتها،‭ ‬وأول‭ ‬تحول‭ ‬واضح‭ ‬للعيان‭ ‬هو‭ ‬ظهور‭ ‬قوى‭ ‬جديدة‭ ‬تتمركز‭ ‬في‭ ‬أسيا‭ ‬بدل‭ ‬البيت‭ ‬العميق‭ ‬للرأسمال‭ ‬العالمي،‭ ‬لكن‭ ‬ظهور‭ ‬القوى‭ ‬الأسيوية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صدفة‭ ‬أو‭ ‬ظهر‭ ‬مع‭ ‬كورونا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬والعمل‭ ‬الجاد‭ ‬الطامح‭ ‬إلى‭ ‬النهوض،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬الأسيوية‭ ‬كسنغافورة‭ ‬والصين‭ ‬وإيران‭ ‬وكوريا‭ ‬وروسيا‭ ‬والهند‭ ‬واليابان‭. ‬والحديث‭ ‬اليوم‭ ‬سينصب‭ ‬على‭ ‬الصين‭ ‬خصوصا‭ ‬لكونها‭ ‬المنافس‭ ‬الحقيقي‭ ‬للمركز‭ ‬الرأسمالي‭ ‬التاريخي‭. ‬هنا‭ ‬يتبادر‭ ‬في‭ ‬أذهاننا‭  ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬هل‭ ‬تملك‭ ‬الصين‭ ‬قدرات‭ ‬ومؤهلات‭ ‬لإنجاز‭ ‬هذه‭ ‬المهمات‭ ‬التاريخية؟

إن‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬ستكون‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أرقام‭ ‬ومقارنات‭ ‬بين‭ ‬اقتصادها‭ ‬وبين‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬العالم‭ ‬ويحركه‭ ‬منذ‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ (‬الاقتصاد‭ ‬الأمريكي‭ ‬ومنظومته‭) ‬وهذه‭ ‬الأرقام‭ ‬والدراسات‭ ‬أغلبها‭ ‬من‭ ‬مصادرأمريكية،‭ ‬فالصعود‭ ‬الصيني‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬يرعب‭ ‬أمريكا‭ ‬تاريخيا،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬2002،‭ ‬وهذا‭ ‬مايفسر‭ ‬سبب‭ ‬الهجمة‭ ‬الشرسة‭ ‬التي‭ ‬يشنها‭ ‬ترامب‭ ‬ومن‭ ‬سبقه،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬يعلمون‭ ‬تمام‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬الصين‭ ‬قادمة‭ ‬للريادة‭ ‬لا‭ ‬محال،‭ ‬ويقومون‭ ‬بأقصى‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬لكبح‭ ‬وصول‭ ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬تقهقر‭ ‬أمريكا‭ ‬وتراجعها،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬باقي‭ ‬الدول،‭ ‬مسالة‭ ‬وقت‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭.  

تشير‭ ‬بعض‭ ‬الأطروحات‭ ‬والدراسات‭ ‬القديمة‭ ‬والجديدة‭ ‬ـ‭ ‬بوضوح‭ – ‬أن‭ ‬سنة‭ ‬2020‭ ‬بداية‭ ‬سقوط‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تقليص‭ ‬نفوذها‭ ‬العالمي‭. ‬وهنا‭ ‬نستعرض‭ ‬للقارئ‭ ‬أهم‭ ‬التنبؤات‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭.‬

أول‭ ‬تنبؤ‭ ‬يشير‭ ‬إليه‭ ‬العالم‭ ‬الأمريكي‭ ‬المستقبلي‭ “‬الفين‭ ‬طوفلير‭” ‬وهو‭ ‬كاتب‭ ‬ومفكر‭ ‬وعالم‭ ‬مختص‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬المستقبلية،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬صيت‭ ‬طويل‭ ‬ومكانة‭ ‬مرموقة‭ ‬بين‭ ‬أقرانه‭. ‬إذ‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬يديه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬والشخصيات‭ ‬السياسية‭ (‬ميخائيل‭ ‬غورباتشوف،‭ ‬والرئيس‭ ‬الهندي‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬زين‭ ‬العابدين،‭ ‬ورئيس‭ ‬ماليزيا‭ ‬محمد‭ ‬مهاتير‭.. ‬وغيرهم‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬شكلت‭ ‬أعماله‭ ‬نظرة‭ ‬خارج‭ ‬السرب،‭ ‬خصوصا‭ ‬حول‭ ‬الثورة‭ ‬الرقمية‭ ‬والتطور‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬وركز‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬على‭ ‬التكنولوجية‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭.‬

ومن‭ ‬كتبه‭ (‬صدمة‭ ‬المستقبل‭) ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬نجاحا‭ ‬واسعا‭. ‬وكان‭ ‬لكتاباته‭ ‬أهمية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬فهم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية،‭ ‬وقد‭ ‬وصفته‭ ‬مؤسسة‭ “‬اكسطور‭ ‬للاستشارات‭ ‬الإدارية‭” ‬بأهم‭ ‬شخصية‭ ‬بين‭ ‬رواد‭ ‬الإدارة‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ووصفته‭ ‬جريدة‭ (‬فايناتشال‭ ‬البريطانية‭) ‬بأنه‭ ‬أشهر‭ ‬عالم‭ ‬دراسات‭ ‬للمستقبل،‭ ‬وكذلك‭ ‬صحيفة‭ ‬الشعب‭ ‬الصينية‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬خمسين‭ ‬أجنبي‭ ‬ساهموا‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الصين‭ ‬الحديثة‭. ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬تنبؤاته‭ ‬هو‭ ‬الحدث‭ ‬الفارق‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬سنة‭ ‬1987‭. ‬ففي‭ ‬كتابه‭ “‬الموجة‭ ‬الثالثة‭” ‬قدم‭ ‬طوفلير‭ ‬رؤيته‭ ‬حول‭ ‬سقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقديم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدلائل‭ ‬القائلة‭ ‬بذلك،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬إصدار‭ ‬الكتاب‭. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الكتاب‭ ‬يخلص‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬بأن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ستتفكك‭ ‬إلى‭ ‬ولايات‭ ‬مستقلة‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬ب‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬2007‭ ‬كلف‭ “‬الكونكريس‭” ‬الأمريكي‭ ‬فريقا‭ ‬من‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭”: ‬هل‭ ‬تشكل‭ ‬الصين‭ ‬تهديدا‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الأمريكي؟‭”. ‬وقد‭ ‬جاء‭ ‬تقريره‭ ‬من‭ ‬63‭ ‬صفحة‭ ‬وفيه‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬كون‭ ‬القلق‭ ‬الذي‭ ‬يعتري‭ ‬صناع‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬من‭ ‬صعود‭ ‬الصين‭ ‬كقوة‭ ‬عالمية‭ ‬عظمى‭ ‬هو‭ ‬قلق‭ ‬مشروع‭ ‬وأنه‭ ‬سيزداد‭ ‬حدة‭ ‬حينما‭ ‬تتجه‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬صناعة‭ ‬وتصدير‭ ‬منتجات‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬عالية‭ (‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬والسيارات‭….) ‬وهذا‭ ‬ماشرعت‭ ‬فيه‭ ‬الصين‭ ‬رسميا‭ ‬بعد‭ ‬2015‭ ‬حينما‭ ‬كشف‭ ‬الرئيس‭ ‬الصيني‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ “‬صنع‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬2025‭”‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬هذا،‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬الصين‭ ‬ستتخطى‭ ‬أمريكا‭ ‬تجاريا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬القريب‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬سنة‭ ‬2010،‭ ‬فحجم‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬للصين‭ ‬يساوي‭ ‬3‭.‬2‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬وأمريكا‭ ‬3‭.‬1‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬أما‭ ‬سنة‭ ‬2018‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬فقد‭ ‬تعمقت‭ ‬الهوة،‭ ‬إذ‭ ‬أصبح‭ ‬حجم‭ ‬التجارة‭ ‬الصينية‭ ‬4‭.‬7‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬وأمريكا‭ ‬4‭.‬1‭ ‬تريلون‭ ‬دولار،‭ ‬وركز‭ ‬هذا‭ ‬التقرير‭ ‬على‭ ‬الخطر‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يهدد‭ ‬أمريكا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬شرعت‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬تصدير‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والأدوات‭ ‬التقنية‭ ‬بدل‭ ‬الألعاب‭ ‬والمنتجات‭ ‬العادية‭. ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ما‭ ‬شرعت‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬تطبيقه‭ ‬حينما‭ ‬صدمت‭ ‬العالم‭ ‬بمشروعها‭ ‬الكبير‭ “‬صنع‭ ‬في‭ ‬الصين‭” ‬أي‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬منتجات‭ ‬بسيطة‭ ‬إلى‭ ‬أشباه‭ ‬الموصلات،‭ ‬ويتم‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬عشر‭ ‬قطاعات‭ ‬صناعية‭ ‬رئيسية‭:‬

1‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬المعلومات‭.‬

2علم‭ ‬الروبوتات‭.‬

3‭ ‬الطاقة‭ ‬الخضراء‭.‬

4‭ ‬صناعة‭ ‬الفضاء‭.‬

5‭ ‬هندسة‭ ‬المحيطات‭ ‬والسفن‭ ‬ذات‭ ‬التقنية‭ ‬العالية‭.‬

6‭ ‬صناعة‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭.‬

7‭ ‬صناعة‭ ‬الطاقة‭.‬

8‭ ‬المواد‭ ‬الجديدة‭.‬

9‭ ‬الطب‭ ‬والأجهزة‭ ‬الطبية‭.‬

10‭ ‬الآلات‭ ‬الزراعية‭.‬

وتشير‭ ‬توقعات‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬2030‭ ‬هي‭ ‬السنة‭ ‬التي‭ ‬ستصبح‭ ‬فيها‭ ‬الصين‭ ‬أكبر‭ ‬اقتصاد‭ ‬عالمي‭ (‬البنك‭ ‬الدولي‭). ‬

يوهان‭ ‬غالتونغ‭ ‬عالم‭ ‬اجتماع‭ ‬نرويجي‭ ‬وعالم‭ ‬رياضيات‭ ‬ومؤسس‭ ‬لدراسات‭ ‬السلام‭ ‬والصراع،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬أوسلو‭ ‬النرويج‭ ‬24‭ ‬أكتوبر‭ ‬1930‭ ‬والمؤسس‭ ‬الرئيسي‭ ‬لمعهد‭ ‬بحوث‭ ‬السلام‭ ‬أوسلو‭ ‬سنة‭ ‬1959،‭ ‬وشغل‭ ‬مديرا‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬سنة‭ ‬1970،‭ ‬كما‭ ‬يعود‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬مجلة‭ ‬بحوث‭ ‬السلام‭ ‬سنة‭ ‬1964،‭ ‬ويعتبر‭ ‬أول‭ ‬بروفيسور‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬يختص‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬السلام‭ ‬والصراع‭ ‬سنة‭ ‬1969‭. ‬وفي‭ ‬حوزته‭ ‬جائزة‭ “‬ايريك‭” ‬وجائزة‭ “‬رايت‭” ‬والدكتوراه‭ ‬الفكرية‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬لمبلوتشي‭ ‬2017،‭ ‬وله‭ ‬أعمال‭ ‬ومساهمات‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬مثل‭ “‬أخلاقيات‭ ‬غاندي‭ ‬السياسية‭” ‬1955،‭”‬نظرية‭ ‬البحث‭ ‬الاجتماعي‭”‬،‭ “‬السلام‭ ‬والعنف‭ ‬والامبريالية‭”…‬وقام‭ ‬بنشر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1000‭ ‬مقالة‭ ‬وأزيد‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬كتاب،‭ ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬تنبؤات‭ ‬حول‭ ‬ضعف‭ ‬وانحسار‭ ‬دور‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬كقوة‭ ‬عالمية،‭ ‬وهذا‭ ‬منذ‭ ‬سقوط‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭. ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬2004‭ ‬تم‭ ‬نشر‭ ‬مقال‭ ‬أثار‭ ‬الجدل‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬الجميع،‭ ‬حيث‭ ‬سرد‭ ‬فيه‭ ‬14‭ ‬تناقضا‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إضعاف‭ ‬وإسقاط‭ ‬أمريكا‭. ‬في‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ “‬غالتونغ‭” ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬لن‭ ‬تتخطى‭ ‬سنة‭ ‬2025،‭ ‬لكن‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬عاد‭ ‬ليقلص‭ ‬توقعه‭ ‬إلى‭ ‬سنة‭ ‬2020،‭ ‬وذلك‭ ‬تزامنا‭ ‬مع‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ “‬بوش‭ ‬الابن‭” ‬وفقا‭ ‬لموقع‭ “‬ماذربورد‭”. ‬

يرى‭ ‬غالتون‭ ‬أن‭ ‬تولي‭ ‬ترامب‭ ‬للرئاسة‭ ‬سيسرع‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬الانهيار‭ ‬الأمريكي،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬تنبؤاته‭ ‬الدقيقة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬عام‭ ‬1978،‭ ‬ومظاهرة‭ ‬ساحة‭ ” ‬تيانآن‭ ‬مين‭” ‬في‭ ‬الصين‭ ‬عام‭ ‬1989‭. ‬وفي‭ ‬كتابه‭ “‬سقوط‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الأمريكية‭” ‬توقع‭ ‬صعود‭ ‬الخطاب‭ ‬الفاشي‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬وتقريبا‭ ‬كل‭ ‬تنبؤاته‭ ‬كانت‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬نظرية‭ ‬الروسي‭ (‬الكوكراكتيف‭) .‬

أما‭ ‬الدكتور‭ ‬وليد‭ ‬عبد‭ ‬الحي‭ ‬فيقدم‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬المحاضرات‭ ‬الدسمة‭ ‬تم‭ ‬بثها‭ ‬على‭ ‬قناة‭ “‬الفينق‭” ‬الأردنية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬والأبحاث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬تنبؤات‭ ‬الدراسات‭ ‬المستقبلية‭ ‬حتى‭ ‬2030‭ ‬وهو‭ ‬يستند‭ ‬على‭ ‬نتائج‭ ‬بحوث‭ ‬27‭ ‬عالما‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬خلال‭ ‬2018‭ ‬و‭ ‬2019‭ ‬ونتائج‭ ‬بحوث‭ ‬العلوم‭ ‬التطبيقية،‭ ‬حيث‭ ‬اتضح‭ ‬له‭ ‬ـ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثلاث‭ ‬اتجاهات‭ ‬حظيت‭ ‬بالتوافق‭ ‬بين‭ ‬أغلب‭ ‬العلماء،‭ ‬وسأكتفي‭ ‬هنا‭ ‬ب‭ “‬الاتجاه‭ ‬الأول‭” ‬ويتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمكانة‭ ‬أمريكا‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬هناك‭: “‬استمرار‭ ‬في‭ ‬تآكل‭ ‬المكانة‭ ‬الدولية‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭”‬،‭ ‬ويقدم‭ ‬أبرز‭ ‬المؤشرات‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ (‬ويمكنكم‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المقال‭ ‬لكونه‭ ‬غني‭ ‬بالمعطيات‭). ‬ونكتفي‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬حول‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬تقدمت‭ ‬وتؤكد‭ ‬السقوط‭ ‬الوشيك‭ ‬لأمريكا،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬وقبل‭ ‬نهاية‭ ‬2019‭ ‬أقر‭ ‬أغلب‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬2020‭ ‬ستكون‭ ‬هي‭ ‬الأسوأ‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وحتى‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬كان‭ ‬يؤكد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭. ‬فالركود‭ ‬هو‭ ‬السمة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬عنها‭ ‬جل‭ ‬الأبحاث‭ ‬والإحصائيات،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الركود‭ ‬قد‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الكساد‭ ‬لمدة‭ ‬طويلة،‭ ‬وحسب‭ ‬إحصائيات‭ “‬جوجل‭” ‬فإن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬الأزمة‭ ‬تضاعفت‭ ‬بخمس‭ ‬مرات‭ ‬عن‭ ‬2018،‭ ‬وحسب‭ ‬مركز‭”‬بيو‭” ‬لاستطلاعات‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬فإن‭ ‬50‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬ستضرب‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬وأن‭ ‬20‭ ‬بالمائة‭ ‬منهم‭ ‬يحتاطون‭ ‬من‭ ‬الأمر،‭ ‬وقد‭ ‬قاموا‭ ‬بسحب‭ ‬كل‭ ‬أموالهم،‭ ‬واكتنزوها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬البنوك،‭ ‬أما‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬فهو‭ ‬يحذر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬مقبل‭ ‬على‭ ‬ركود‭ ‬عميق،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬حوالي‭ ‬90‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬اقتصاد‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬ستشهد‭ ‬تراجعات‭ ‬في‭ ‬النمو،‭ ‬ويتوقع‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬ب‭ ‬3‭ ‬بالمائة،‭ ‬وهو‭ ‬أقل‭ ‬نسبة‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬2008‭. ‬وهناك‭ ‬أسباب‭ ‬أخرى‭ ‬لها‭ ‬وزن‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الركود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متوقعا‭ ‬قبل‭ ‬كورونا؛‭ ‬فالحرب‭ ‬التجارية‭ ‬بين‭ ‬أمريكا‭ ‬والصين‭ ‬عامل‭ ‬أساسي‭ ‬له‭ ‬وزنه،‭ ‬فاقتصاد‭ ‬البلدين‭ ‬يمثل‭ ‬حوالي‭ ‬40‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬العالمي،‭ ‬وأي‭ ‬تباطؤ‭ ‬في‭ ‬اقتصادهما‭ ‬سيجر‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬الويلات،‭ ‬وخروج‭ ‬بريطانيا‭ ‬عامل‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬تشكل‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة؛‭ ‬لأن‭ ‬اقتصادها‭ ‬يمثل‭ ‬حوالي‭ ‬2‭.‬8‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬مما‭ ‬سيكون‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬كتلة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬أما‭ ‬المديونية‭ ‬فهي‭ ‬مجرد‭ ‬بالونات‭ ‬قابلة‭ ‬للفرقعة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭. ‬فالعالم‭ ‬مديون‭ ‬بالكامل‭ ‬حسب‭ ‬المعهد‭ ‬الدولي‭ ‬للتموين‭ ‬التابع‭ ‬للبنك‭ ‬الدولي‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬حجم‭ ‬الديون‭ ‬حوالي‭ ‬244‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬2018‭ ‬هذا‭ ‬يضاعف‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭ ‬العالمي‭ ‬لثلاث‭ ‬مرات،‭ ‬ونصيب‭ ‬الحكومات‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الديون‭ ‬هو‭ ‬65‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬والأفراد‭ ‬حوالي‭ ‬46‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬والشركات‭ ‬بجميع‭ ‬أنواعها‭ ‬130‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭. ‬وهذا‭ ‬بوسعه‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬بالبنوك‭ ‬إلى‭ ‬الإفلاس،‭ ‬وأمام‭ ‬أعيننا‭ ‬نموذج‭ ‬2008‭.‬

إلى‭ ‬هنا‭ ‬قد‭ ‬أوضحنا‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬بسيط‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قائما‭ ‬قبل‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭ ‬الذي‭ ‬زاد‭ ‬هذا‭ ‬المناخ‭ ‬تأزما‭ ‬جراء‭ ‬ما‭ ‬ترتب‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬ضرر‭ ‬على‭ ‬القطاعات‭ ‬الصحية‭ ‬وعلى‭ ‬غفلة‭ ‬من‭ ‬انتباه‭ ‬العالم‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬التوقعات‭ ‬تتعمق‭ ‬بشكل‭ ‬رهيب،‭ ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتظر‭ ‬فيه‭ ‬الاقتصاديون‭ ‬وأغلب‭ ‬دارسي‭ ‬المستقبل‭ ‬ظهور‭ ‬بؤر‭ ‬اقتصادية،‭ ‬ظهرت‭ ‬أمامهم‭ ‬أزمة‭ ‬إضافية‭ ‬فيما‭ ‬أصبح‭ ‬يعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بفيروس‭ ‬كورونا‭ ‬الذي‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬2019‭ ‬وبداية‭ ‬2020‭ ‬تحديدا‭ ‬في‭ ‬وهان‭ ‬الصينية،‭ ‬فكان‭ ‬تعاطي‭ ‬العالم‭ ‬مع‭ ‬الخبر‭ ‬كلٌ‭ ‬حسب‭ ‬ثقافته‭ ‬وواقعه،‭ ‬الغرب‭ ‬مثلا‭ ‬تنصل‭ ‬لعلاقته‭ ‬بالصين‭ ‬وفرّ‭ ‬المستثمرون‭ ‬التابعون‭ ‬له‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬فقد‭ ‬ظلت‭ ‬تشمت‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لحق‭ ‬بالصين،‭ ‬بدعوى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬قمع‭ ‬مسلمي‭ “‬الإيغور‭”. ‬وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬ومهرجها‭ ‬ترامب‭ ‬فقد‭ ‬سخر‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬الأولى‭ ‬لظهور‭ ‬الوباء،‭ ‬ولم‭ ‬يتوقع‭ ‬حجم‭ ‬الكارثة‭ ‬لسذاجة‭ ‬تفكيره‭ ‬الفاشي،‭ ‬وبعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬كانت‭ ‬أورويا‭ ‬قد‭ ‬شربت‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الكأس،‭ ‬وأصبحت‭ ‬إيطاليا‭ ‬أولى‭ ‬البؤر‭ ‬بعد‭ ‬الصين،‭ ‬وحتى‭ ‬باقي‭ ‬بلدان‭ ‬أوروبا‭ ‬لم‭ ‬تتعاطى‭ ‬مع‭ ‬الأمر‭ ‬بجدية‭ (‬باستثناء‭ ‬اليونان‭ ‬الجارة‭ ‬الإيطالية‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬الأرقام‭ ‬تزداد‭ ‬بشكل‭ ‬مرعب،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لأمريكا‭ ‬إلا‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬بدون‭ ‬إرادة‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭. ‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى