الزواج الكاثوليكي بين الدولة والزاوية
استراتيجية الإحياء والاحتواء
◆ عبد المجيد مصدق
الزوايا في المغرب أنواعها وأدوارها ووظائفها
أهم الزوايا المشهورة بالمغرب هي: الزاوية التيجانية، والزاوية الدلائية، والزاوية البوتشيشية، والزاوية الشادلية، والزاوية الوزانية، والزاوية الناصرية، والزاوية الدرقاوية، والزاوية العيساوية والزاوية الجزولية..
الزاوية الدلائية
لا يعرف بالضبط متى وجدت زاوية الدلاء، غير أنه يمكن القول بأن تأسيسها كان في الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري، حوالي عام 974 هـ/1566 م، أسسها أبو بكر بن محمد المجاطي بن سعيد الدلائي بإشارة من شيخه أبي عمر القسطلي دفين روض العروس بمراكش.
وكانت عبارة عن حركة دينية علمية ثم حركة سياسية، جمعت بقايا قبائل صنهاجة وبالضبط أيت مجاط، وكان موطنهم ملوية، وانتقلوا خلال القرن الرابع عشر الهجري إلى منطقة أيت إديلا الواقعة غرب الأطلس المتوسط، حيث أسسها أحد أحفادهم، وهو أبو بكر المجاطي، وانقطع فيها للعبادة و الوعظ والإرشاد، فنمت الزاوية وتطورت خصوصا في عهد ابنه محمد أبي بكر الذي تولى قيادة الزاوية سنة 1612م. واقتصر اهتمام الدلائيين في بداية الأمر على الجانب العلمي والديني وحافظوا على ولائهم للدولة، ثم دخلوا المجال السياسي، حيث عارضوا الدولة العلوية، فقام المولى الرشيد بهدمها في معركة بطن الرمان سنة (1079 هـ/ 1668م )، ليقوم بعد ذلك بنفي الدلائيين عن زاويتهم إلى فاس وتلمسان وتشتيت علمائهم.
كان غياب السلطة المركزية مع سقوط آخر سلاطين الدولة السعدية، السبب الرئيسي الذي سيدفع الدلائية إلى التفكير في خوض المغامرة التاريخية الكبرى، إن الطموح “الدلائي” في التحول إلى سلطة مركزية (المخزن)، الذي بدأ يتحول مع “محمد الحاج” سيقتضي تحولا من نوع آخر: هو تكسير بنية “الزاوية” وبلورة بنية “الطريقة”، وهكذا سيتم التفكير في التملص من الخصوصيات المحلية (=القبيلة) لاختراق المجتمع بأكمله، هذا على الصعيد السياسي، أما على المستوى الأيديولوجي فسيتم التركيز على العلم. وعلى الرغم من ذلك فإن الدلائية ستفشل في تحقيق هذا التحول، وبالتالي فشلها أمام العلويين. ترجع أسباب هذا الإخفاق إلى عاملين: عامل مادي، ذلك أن الدلائية لم تستطع كسب العنصر العربي إلى جانبها، وعامل أيديولوجي يتمثل في كون الدلائية ركزت على العلم ولم تهتم بعنصر كان من الممكن أن يساهم في تحقيق هذا التحول، وهو الشرفاوية، أعمل السلطان الرشيد معاول الهدم في الزاويتين القديمة والحديثة، فظلت مهمشة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، حيث أن الآثار الذي لا زال الآن يوجد على بعد حوالي 8 كيلومترات من مركز الجماعة القروية أيت إسحاق بإقليم خنيفرة.
الزاوية البودشيشية
تنتسب الطريقة القادرية البودشيشية إلى الشيخ عبد القادر الجيلالي، الذي ظهر في القرن الخامس الهجري أما لقب البودشيشية فقد اكتسبه بواسطة الشيخ على بن محمد الذي حمل لقب ” سيدي علي بودشيش”، لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة طعام ” الدشيشة” بزاويته، وتتالى عدة شيوخ على الطريقة القادرية البودشيشية في المغرب، ويوجد مقر الطريقة الرئيسي ببلدة “مداغ ”، التي تبعد عن مدينة بركان بحوالي 15 كيلومتر، وفيها يعيش شيخ الطريقة الحالي حمزة بلعباس وقد تحولت هذه القرية الصغيرة إلى محج لأعداد كبيرة من المريدين مغاربة وأجانب.
ومن ضمن مميزاتها حسب اعتقاد وادعاء المريدين فإن الأمراض الباطنية يعالجها الشيخ حسب الطريقة والأذكار الفردية التي يتم القيام بها يوميا عند الاختلاء بالنفس أو عند الاجتماع بالجماعة بين العشاءين، وهو ما يسمى بالوظيفة، إلى جانب ما يتم ترديده من أذكار خاصة حيث تنفعل الروح مع الأحوال الربانية والتي هي طبيعة لذكر الله تعالى وفيضان محبته على القلب حسب اعتقادهم، وبذلك فإن الصوفية وأتباع الطريقة البودشيشية خاصة يعتبرون أنفسهم أنهم يصلون إلى تحقيق التوازن بين متطلبات النفس ومتطلبات الروح، والذي بدونه يختل الوجود الإنساني حسب ظنهم.
زاوية الطريقة التيجانية
مؤسسها هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد سالم التيجاني، ولد بقرية “عين ماضي” في الجزائر عام 1737م، وتوفي بفاس عام 1815 م، تتلمذ على يد مشايخ عدة طرق صوفية منها الزاوية الوزانية، والزاوية الدرقاوية، عرف الشيخ التيجاني بطريقته المترفة في العيش، فكان يعد أتباعه بالغنى في الدنيا والجنة في الآخرة، مما شجع العديد من الأثرياء والتجار على الانضمام إليها. بعد فراره من الجزائر هاربا من اضطهاد الأتراك عام 1798م، فحل بفاس، أحاطه السلطان مولاي سليمان بعناية خاصة، حيث منحه دار كبيرة تسمى “دار المرآة”، وأنعم عليه بصلة.
فيما يخص طقوس الزاوية التيجانية، فمن خاصية هذه الزاوية أنه بمجرد الانتهاء من أداء صلاة العصر، تبدأ الأذكار والأوراد وتبدأ الوظيفة التيجانية بتلاوة الفاتحة ثم صلاة الفاتح، وجوهر الكمال، والتي تعتبر من مميزات الطريقة التيجانية.
ومراتب الطريقة التيجانية أربعة : المريد، المقدم، الخليفة، القطب.
والتيجانية زاوية بلا زعامة وبلا سماع، بخلاف العديد من الزوايا الصوفية، لا نجد للطريقة التيجانية شيخا معاصرا يتزعم المريدين، إذ لها شيخ واحد فقط هو مؤسسها، هذا ما يجعلها طريقة مغلقة بحيث لا يتم إدخال أي جديد فيها.
الزاوية الناصرية
تأسست على يد الشيخ عمرو بن أحمد الأنصاري سنة 1575م، في قرية تمكروت الواقعة على بعد 18 كيلومترا شرق مدينة زاكورة، جنوب شرقي المغرب، وارتبط اسم الزاوية باسمه، ثم دعيت بالزاوية الحسينية نسبة إلى الشيخ عبد الله بن حسين الرقي، الذي خلف الشيخ المؤسس، قبل أن تسمى من جديد بالناصرية بتولية محمد بن ناصر. وبعد حياة من العز انتقلت الآن إلى الفقر والعوز، فقد كانت الزاوية ملاذا لأكثر من 1200 طالب علم، يحجون إليها كل عام، فقد أصبحت في السنوات الأخيرة ملجأ لعشرات المرضى النفسيين، الذين يختار بعضهم المكوث فيها لشهور طويلة، يصفها المؤرخون بـ «أم الزوايا» في المغرب، تخرّج منها عدد كبير من العلماء، وكان فيها أكثر من 10 آلاف مخطوطة، بقي منها الآن نحو 4 آلاف، بعد أن نقل العديد منها إلى الخزانة الحسنية والمكتبة الوطنية في العاصمة الرباط.
الزاوية الوزانية “دار الضمانة”
تم تأسيسها على يد الشيخ الصوفي مولاي عبد الله الشريف الوزاني، خلال أواسط القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي. فقد ذكر المتتبعون للزاوية الوزانية معطيات مهمة تفيد بكون من مميزات هذه الزاوية، أن تربية المريدين عند شيوخ هذه الزاوية كانت تتم بالنظر والهمة، لأن التربية بالاصطلاح اندثرت لضعف حال المريدين وقلة الرغبة في الدين، وكثرة الإقبال على الدنيا، وإعراض الناس عن الآخرة، كما يعتقدون. والتربية بالنظر والهمة والتي تدعى أيضاً بطريقة التبرك والتلقين، أو بطريقة الإفادة بالهمة والحال، هي في واقع الأمر طريق الزاوية الشاذلية نفسها، وتتلخص تعاليمها في «تلاوة الأوراد والأذكار والأحزاب، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي، كما تتميز هذه الطريقة بوسطيتها واعتدالها، وتمسكها بالكتاب والسنة، وبمراعاتها للمقاصد السامية للتصوف الإسلامي السُّني في عملها بمفهومي «التحلية» و«التخلية» : تحلية النفس بمكارم الأخلاق والفضائل وبذلك أمكن لها البقاء منتشرة في المغرب وغيره من بلدان العالم الإسلامي، منذ عهد الشيخ أبي الحسن الشاذلي (ت.656هـ/1268م) إلى يومنا هذا، ويماثل شيوخ الطريقة الوزانية في هذا النهج التربوي، معظم شيوخ الطرق الصوفية الشاذلية بالمغرب وغيره، ممن اقتفوا أثر الكتاب والسنة، والتزموا بمبادئ الإمام أبي الحسن الشاذلي، التي تتلخص في كون التصوف والحياة صنوان لا تعارض بينهما.
ولا بد من تسجيل الحماية الفرنسية للحاج عبد السلام الوزاني سنة 1884، كما الحماية البريطانية لفائدة الحاج بن سعيد المصلوحي سنة 1893، كنوع من تداخل الاستعمار والزاويتين الوزانية والمصلوحية.
الزاوية الدرقاوية “الحسنية”
تعتبر من أهم الزوايا بمدينة فاس، وقد لعبت دورا مهما في الحياة السياسية وكانت تحظى باهتمام خاص من طرف السلطان مولاي الحسن، وهكذا يظهر أن الدرقاوية جاءت بأسس وشعارات جديدة، تتلخص الأولى في: إتباع الكتاب والسنة ومجانبة البدع، والإكثار من الذكر والاشتغال بالمذاكرة، وترك ما لا يعني، وإسقاط التدبير والاختيار مع التبري من الدعوى والاقتدار، وكسر النفس مع قطع الطمع من المخلوقين، هذا إضافة إلى ضرورة الشيخ في الصحبة حيث يجب أن يطاع في جميع الأحوال، فضلا عن ضرورة التفقه في الدين أما شعاراتها فأهمها: لبس الدرابيل والمرقعات والشواشي، والسؤال في الأسواق وغيرها، ووضع السبحة في العنق، والمشي بالحفا، وحمل قرب الماء في الأسواق، واتخاذ العصا وغيرها، ولأجل ذلك كان معتنقها يبدو رجلا متقشفا يرتدي مرقعة، ويتقلد سبحة ذات حبات كبيرة ملتفة حول عنقه، ويحمل عكازه، وعلى رأسه عمامته الخضراء الضخمة وهو يطوف متسولا.
وقد اشتهر درقاوة بنوع آخر من التجريد، وهو ما يسمى “العمارة”، وهي حلقة الذكر الجماعية التي لم تكن معروفة من قبل، والتي شكلت المدار الذي يدور عليه المذهب الدرقاوي، حيث اعتبرها شيخ الطريقة أسمى الوسائل التربوية التي لا غنى عنها، حتى إن المبتدئ والمتوسط والمنتهي وطالب التبرك، وذو المحبة، كلهم عنده (الدرقاوي) فيها سواء، أكانوا رجالا أم نساء شريطة تجنب الاختلاط.
وينحصر التجريد عند مولاي العربي الدرقاوي في أربع مسائل وهي: الفرار من الدنيا، والفرار من الناس، وإهمال الجسد، وإهمال البطن، لكن ليس معنى هذا أن الطريقة تدعو إلى الانزواء عن الحياة والخلق كما يبدو،
فسلوكيات درقاوة أو ما سمي شعبيا “هداوة” جلبت الانتقاد للطريقة من طرف الفقهاء والمتصوفة، بل أدى ذلك إلى محاكمة درقاوة محاكمة جماعية بتطوان سنة 1209هـ/ 1794م، وزج بالعديد منهم في السجن، ومع ذلك لم يتخل الدرقاويون عن مبدأ التجريد، لأن الهدف منه حسب شيوخ الطريقة هو تصفية الروح وهضم النفس والخروج من قيود العادة والطبع، فإن تحقق هذا الهدف، وتخلص الفقير من توهم وجود السوى، حتى عاد يأخذ ولا يؤخذ، ونظرا لهذه البساطة، يظهر أن التصوف الدرقاوي استهوى مختلف الفئات الاجتماعية في المغرب.
الزاوية العيساوية
أسسها محمد بن عيسى المغربي الذي توفي بمدينة مكناس المغربية سنة 1524 ميلادي ودفن في مكناس، وأصل هذه الفرقة الصوفية يعود بدوره إلى محمد بن سليمان الجازولي، وتشتهر الطريقة العيساوية حاليًا باستعمالها للأمداح بصوت عال واستخدام الموسيقى في مسارات التنوير الروحاني وليس لها وزن كبير.
الزاوية الشاذلية
تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، وإن كانت تختلف عنها في سلوك المريد وطريقة تربيته، بالإضافة إلى اشتهارها بالذكر المفرد “الله” أو المضمر “هو”،، يتسم أتباعها بالحماس في نشر طريقتهم في الوقت الحالي، حيث يمتلكون جمعية رسمية، ومجلة تصدر كل ثلاثة أشهر، وموقعًا على شبكة الإنترنت، وعددًا من الكتب والنشرات.
وظائف الزوايا وأدوارها
بتتبع هاته الأدوار جميعها، لعبت الزوايا في تاريخ المجتمع المغربي أدوارا دينية وثقافية وتأطيرية وسياسية، اختلف عمقها باختلاف الظروف المعطيات.
1ـ الوظيفة الدينية والاجتماعية
الوظيفة الدينية والعلمية للزاوية تتمثل في تحفيظ القرآن الكريم والقراءات، وتحفيظ الحديث وتدريس الفقه وأصوله، وإنشاء المكتبات، ولعل من أبرز الشواهد على ذلك هو المستوى الثقافي الذي خلفته هذه الزوايا في مختلف العصور، من مكتبات زاخرة بتراث نفيس، أما أهم وظيفة اجتماعية للزوايا فهي التكافل الاجتماعي، ويتعلق الأمر بنظام الإيواء والإطعام المرتبط بجهاز التصوف، وهو نظام تطوعي تكافلي مبني على التعامل بالمثل بكيفية توفر لكل مسافر من الصوفية إمكانية الاستفادة من بنية استقبال في أي مكان ذهب إليه، فانطلاق الزويا والتصوف في المغرب تحددت طريقته في اتجاه سني اعتمد على تعاليم المدرسة الجنيدية في صيغتها الغزالية، وبهذه الطرق الصوفية الدينية العتيدة، وبواسطة رجال الزوايا انتشر الإسلام في إفريقيا.
مرحلة التنظيم ودعم الشرفاوية
بدأت هذه المرحلة مع تصاعد نجم الشرفاء بتحالف القوة الروحية للشرفانية مع القوة الاجتماعية للزاوية، وقد شكلت هذه المرحلة فترة المرور من طور التنظيم الهيكلي للزاوية والطريقة، بالشكل الذي سمح للزاوية باستثمار قوتها الروحية والاجتماعية في تحريك الساحة السياسية، ويبرز ذلك جليا عند الرجوع إلى التقلبات السياسية التي عرفها المغرب في العصر الحديث مع السعديين والعلويين.
ويشكل النسب الشريف، العنصر الأكثر أهمية وحضورا في الثقافة المغربية. وقد كانت الزوايا والأولياء أكثر استئثارا بهذه الشريفية. فنافسوا من خلالها السلاطين من أجل الاستحواذ على وجدان الشعب. ويسجل المؤرخون على سبيل المثال تنافسا قويا بين شيخ الزاوية الكتانية وبين السلطان مولاي عبد الحفيظ؛ حيث كان رهانه للحصول على السلطة السياسية مرورا بكسب رمز الشريفية كقيمة رمزية ودينية عظيمة. إنها علاقة البيعة التي تؤسس لمفهوم الشرعية الدينية عند السلطة، غير أن المواجهة انتهت في النهاية بقتل الزعيم الكتاني سنة 1909.
سلطة الكرامة في تثبيت الفعل الصوفي
مثلت الكرامة سلطة الولي على غيره وحجة مبينة لتزكية ولايته وصلاحه، وبفعل الأثر الإيجابي على الجماعة التي حملت على تصديقها، تنسب الكرامة واقعيتها المكتسبة من أدوار الصوفي المحققة، حسب اعتقاد المريدين، وبسبب حاجة الناس لتجاوز أزماتهم الذاتية أو تلك المتصلة بأوضاعهم المجتمعية. لذلك ظلت الكرامة الصورة المعبرة عن مظاهر الأزمة وتطلعا “افتراضيا” لتجاوزها. وبالرغم من تعدد أوجه الكرامة وفعل أصحابها، تظل انعكاسا حقيقيا لأوضاع مجتمعية محققة، وإن عبر تعلق بها في صور مستحيلة الوقوع وبتواتر اعتقادي جعلها جزءا من ثقافة المجتمع.
2ـ الوظيفة السياسية تاريخيا
دور الجهاد
فالزاوية إلى جانب كونها عبارة عن مدارس تربوية وأخلاقية وتثقيفية، فقد كانت بمثابة حصون عسكرية تعمل على التسلح من أجل الجهاد في سبيل الله من الناحية العسكرية، وكذلك تسليح المجاهد من الناحية النفسية بتصحيح حقيقة الإيمان وتقوية اليقين في الله.
دور الصلح والتحكيم
إن من أهم الوظائف الزاوية قيامها بدور الصلح والتحكيم للفصل في مشاكل الأفراد والجماعات المحيطة بها، نظرا لما يرمز إليه شيخ الزاوية من تجسيد للحقيقة والحق والعدالة الدنيوية والأخروية. ويتدرج عمل شيخ الزاوية في هذا المجال من التوسط لتحقيق الصلح بين الأفراد إلى دور التوسط بين القبائل لحل مشاكلهم مع بعضهم البعض أو بين بعضهم مع ممثلي السلطة.
بالرجوع إلى دراسات الانتروبولوجيين، نلاحظ أن وظيفة التحكيم كانت إحدى القضايا التي استوقفت نظرهم في وظائف الزاوية، مما جعلهم يعملون على تشخيصها وضبط آلياتها، إلى حد اعتبارها الوظيفة الأكثر فاعلية في أدوار الزاوية، باعتبار أثرها السياسي والمكاسب المترتبة عليه لفائدة الزاوية. فظاهريا، يبدو تحكيم المرابط شيئا مألوفا في المجتمع المغربي القائم على قاعدة التمايز القبلي، بسبب مكانة المرابط ضمن الهرم الاجتماعي العام وعدم ارتباطها الفعلي نظريا بأية مجموعة قبلية بعينها، كما أن دوره كان مرغوبا فيه من طرف كل مكونات هذا المجتمع. وتقوم وظيفة التحكيم على مبدأ المسالمة، الذي ميز نشاط الولي وقناعة المتنازعين في الاعتراف له بهذه الصفة، وهي الصفة التي منحته قدرا كبيرا من السلطة.
من الوظائف التي شكلت ركيزة أساسية في تمثل الزاوية للسلطة الرمزية، وظيفة الحرم أو المأمن المقدس. فقد مارست الزوايا على الدوام هذه الوظيفة الحساسة، حتى صارت في الاعتقاد الشعبي سلطة لا تنازعها في ممارستها أي سلطة أخرى مهما كان وزنها أو تأثيرها. وأثبتت الممارسة أن مجال الزاوية، وبالخصوص ضريح وليها وكيفما كان حجمها، ظل مجالا حرما وملاذا لكل معتصم مهما كانت دواعي التجائه أو اعتصامه حتى وإن كان جانيا أو مجنيا عليه، كما آوت الزاوية بحرمها أمن الناس من كل الطبقات.
مرحلة التنافس والتصادم مع السلطة
أهم عنصر أو عامل كان وراء هذا التنافس، اكتسابها نوعا من الاستقلال المادي ومن الإشعاع الروحي ما جعلها تنتصب كدولة داخل الدولة، بفضل استنادها على قاعدة اقتصادية عريضة متمثلة في أراض فلاحيه وعقارات تجارية ومنشآت سكنية، بالإضافة إلى ما يقدمه الزوار من هدايا وقرابين، وقد أصبحت تهدد بفعل وزنها المتنامي وانتشار طقوسها السلطة السياسية الحاكمة، وقد بدأت هذه المرحلة بالاضطهاد الذي تعرض له المتصوفة المغاربة والأندلسيون من طرف السلطة الموحدية، بسبب تخوفها من منافسة رمزية مؤسس الفكرة الموحدية أي المهدي، والذي يمكن اعتباره نموذجا للمزج الذي عرفه المتصوفة بين التصوف والعلم.
هذه المنافسة التي أصبحت تقوم بها الزوايا تجاه السلطة، بسبب تنامي قوتهم الرمزية وتزايد قوتهم الاجتماعية، فشكلت أكبر تهديد للسلطة السياسية، وذلك راجع لطبيعة تحركها في صلب المجتمع.
لقد شكلت الزوايا في مراحل تاريخية جبهة قوية معارضة للسلطة السياسية، خاصة وأنها استقطبت عددا هائلا من الأتباع، وهو الشيء الذي تعكسه الزاوية الدرقاوية التي أصبح لها أكثر من أربعين ألفا من الأتباع في ظرف وجيز (1728-1785)، ودخلت بذلك لعبة الاصطدامات السياسية، معتمدة في ذلك على المقدس والرأسمال الرمزي، ومن أهم تمرداتها واصطداماتها حين هزم مولاي العربي الدرقاوي (شيخ الزاوية الدرقاوية) المخزن سنة 1818، وقتل ابن السلطان، كما أن حجم الزاوية الدرقاوية وتغلغلها في الأوساط الاجتماعية كان يثير مخاوف السلطة، لاسيما حين بدأت تحتكر السلطة الدينية وتبرز كهيئة مدافعة عن التصوف والشرع، الأمر الذي جعل المخزن يفرض عليها بعض التضييق، وهو ما أدخلها في مشاحنات ظرفية معه، بلغت أوجها في أواخر عهد السلطان المولى سليمان حتى كادت تعصف بهذا الأخير، حيث تذكر بعض المصادر أن الشيخ العربي الدرقاوي وأتباعه سعوا إلى الإطاحة به ومبايعة المولى إبراهيم بن يزيد مكانه، لكن هذه الاختلافات سرعان ما تلاشت مع خلفه المولى عبد الرحمن بن هشام، الذي حاول استمالة الدرقاويين إلى جانبه، بل يظهر أنه هو نفسه أصبح درقاويا.
الأمر نفسه حصل بالنسبة للزاوية الشرادية التي ألحقت بالمولى سليمان هزيمة نكراء، عندما أعلن مناصرته لقبائل الرحامنة ضد قبائل الشراردة.
أما الزاوية الناصرية مثلا فلم تكن تهتم بالمجال السياسي إلا أن علاقتها لم تكن على ما يرام مع العلويين، حيث أخذت موقفا معاديا للدولة العلوية الفتية، حينما رفض شيوخها للخطبة بمبايعة الملوك العلويين على المنابر، غير أن هذا الموقف لم يكن من اعتبار سياسي بل نابعا من رغبة شيوخ الزاوية في عدم السقوط في البدعة، فالنسبة لهم الدعاء من المنبر بدعة، هذا الموقف أزم العلاقة بينهما، واستعمل معهم المولى الرشيد سياسة العصا والجزرة، لكنه في الأخير تركهم على حالهم.
الزوايا بين محاربة الاستعمار والعمالة له
كل المصادر المكتوبة والرواية الشفوية تؤكد على الدور الذي قامت به بعض الطرق الصوفية والزوايا لتسهيل عمليات الغزو والاحتلال، ثم صارت فيما بعد وسيلة في يد المستعمر بهدف استعباد المغاربة، وكانت الزاوية الكتانية هي التي تتزعم هذا التوجه في شخص زعيمها عبد الحي الكتاني. وقد أدرك الاستعمار الغربي لمنطقة شمال إفريقيا، ومنها المغرب، هذه الأهمية التي كانت تلعبها الزوايا في النسيج الاجتماعي القبلي، وفهم أنها كانت دائما مفتاح الاستقرار أو الفوضى، بالنظر إلى ذلك التداخل بين الزاوية والقبيلة. لذلك سعى منذ دخوله المنطقة إلى نسج تحالفات معها بوصفها الأداة الأكثر نجاعة لضمان استقرار الوضع لصالحه، وهو ما أدى إلى الانقسام داخل خريطة الزوايا بين الموالين للاحتلال وبين المدافعين عن حوزة البلدان في مواجهته.
لقد اهتمت الأنتروبولوجيا و الإثنوغرافيا الممهدة للاستعمار بجمع كل التفاصيل عن الزوايا بالمغرب، فلا يفوت الباحث الإثنوغرافي المرور بمكان لزاوية أو ضريح دون تسجيل ما يلاحظه، ومن ذلك ما قاله ادموند دوتي عن ضريح سيدي بليوط”، فما كان ضريحه يزيد عن بيت بائس يقوم بحراسته رجل يدعى بالمكناسي.”
اهتم الإثنوغرافيون الاستعماريون بدراسة ذهنيات السكان من خلال التركيز على تحليل ودراسة أنماط التفكير السائدة لديهم، ومن بين هذه الأنماط الحديث عن الكرامات، وفي هذا الصدد يتحدث دوتي عن كرامات “سيدي بليوط”، ويقال كذلك أن لسيدي بليوط بركة التحكم في الحيوان، فقد كان إذا مشى تحيط به الأسود، ومنها جاء اسمه سيدي بليوط، الذي لا يعدو أن يكون تحريفا للاسم الفصيح (أبو الليوث). وتنسب إليه الخرافة “بركة الحضور في كل مكان”، وقد كان المستعمر الفرنسي واعيا بأهمية الزوايا ودورها الحاسم في تهدئة الأهالي، ويتبين هذا الوعي من خلال الاهتمام المبكر للإثنوغرافيين الفرنسيين بهذه الوظيفة، خاصة لدى ادموند دوتي.
لقد اعتبروا الزوايا قوات اجتماعية يجب عليهم تسخيرها لصالح تغلغلهم في البلاد، وكانت وسائل الإغراء والاجتذاب المستعملة من طرف الغزاة، عبارة عن إعانات مالية وامتيازات أخرى مادية يذوب تحت تأثيرها الشعور الوطني للمستفيدين.
إن الأرضية والظروف كانت كلها مناسبة لاكتساح عالم الزوايا بالمغرب وجعله يدور في فلك فرنسا، إلى درجة أنه من ضمن عشرات الزوايا النشيطة لم تقف في وجه المستعمر سوى اثنتين، وهما زاوية ماء العينين في الجنوب، والزاوية البوعزاوية التي كانت وراء انتفاضة الشاوية عند دخول قوات الاحتلال إلى الدار البيضاء سنة 1907م. وهذا ما أكده جورج سبيلمان: “وفعلا لزمت التنظيمات الدينية الأخرى حيادا حذرا، وأكثر من ذلك لأن البعض منها، احتراما للقرارات الشريفة، وضعت نفوذها سرا رهن إشارتنا، وأذكر على الخصوص شرفاء وزان، وشيخ الدرقاويين، وزاوية أبي الجعد، والزاوية الكتانية التي أعيد فتحها تحت تأثير شيخها السيد عبد الحي الكتاني الذي خلف السيد محمد الكبير.”
لقد استعان الفرنسيون في احتلال المغرب ببعض شيوخ الزوايا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كالدعم الذي قدمه الشيخ الحاج العربي الوزاني، والزاوية التيجانية، والزاوية الوزانية والدرقاوية مع بعض الاستثناءات، قبل أن تعود هذه الزوايا لتعلن عن قطيعتها مع الفرنسيين وتأييدها للمخزن مجددا، وتحارب من ثم إلى جانبه، مما جعل مواقف هذه الزوايا تكتسي طابعا من الغموض والثنائية الصارخة في التعاطي مع الخطر الأجنبي والتهديدات الخارجية.
لم يكن التعاون بين الطرق الصوفية والزوايا من جهة والسلطات الفرنسية وليد معاهدة الحماية أو أحد نتائجها، فقبل هذا التاريخ بأكثر من عقدين، لم يتردد زعماء بعض الطرق في الارتماء بين أحضان الحمايات الأجنبية، متملصين بذلك من سلطة المخزن ومعززين النفوذ الأجنبي بالمغرب، وأبرز نموذجين في هذا الصدد، هما الحاج عبد السلام الوزاني شيخ الزاوية الوزانية، الذي دخل تحت الحماية الفرنسية سنة 1884 ومن بعد، والحاج بنسعيد المصلوحي شيخ زاوية تمصلوحت الذي دخل تحت الحماية البريطانية سنة 1893.
وفي هذا المضمار، يقول بول أودينو: “منذ ذلك التاريخ لم يكن لفرنسا إلا الثناء تجاه الخدمات الجليلة التي قدمها لنا شرفاء وزان”. ونتجت عن حماية شيخ الزاوية، كما كان منتظرا، تفاعلات عمت كثيرا من أتباع الزاوية المعنية، الذين بدورهم طلبوا ومنحوا الحماية الفرنسية. ومن جراء ذلك بدأت سمعة الزاوية الوزانية في التراجع لدى الرأي العام المغربي.
فقد ورد في تقرير للمفوضية الفرنسية بهذا الشأن بتاريخ 23 نونبر 1896م ما نصه: “إن الحماية الأجنبية الممنوحة لشرفاء وزان من سلالة المؤسسين لهذا التنظيم، والسلطة التي يمارسونها على أتباعهم، ساعدتا على زيادة مستمرة في صفوف المنتمين لهذه الزاوية، الذين بواسطتها يبتغون التخلص من ابتزازات المخزن، خاصة في أقاليم الرباط والغرب.
مرحلة الهدنة والتطبيع مع السلطة الحاكمة
في فترة من تاريخ المغرب كان المخزن يراهن بشدة على مدخل اقتطاع الأرض كآلية لتنفيذ مشروعه المخزني الرامي لضبط المجال وبسط السيطرة، وذلك للقيمة الاقتصادية والاجتماعية والرمزية التي تمتلكها الأراضي بالنسبة له وللقبائل، فاستعان بالزوايا، وهي استعانة بالمقدس الذي يمتلك قوة التأثير والتوقير، وذلك للعب دور الوساطة بينه وبين القبائل، ولتدبير الصراعات والقيام بدور التحكيم بخصوص النزاعات التي كانت تقوم حول حدود الأراضي أو المراعي، وهذا لسد الخصاص الذي يتركه ضعف تمثيل السلطة المخزنية أو غيابها. الاستعانة هاته لا بد وأن يقابلها اعتراف رسمي بنفوذها وتكليفها بالقيام بوظائف رسمية لصالحه، وهنا يتم تطبيع العلاقة بين الزاوية والمخزن بمنحها ظهائر التوقير والاحترام وإهدائها الأراضي، وإعفائها من أداء الضرائب، وأراضي الشرفاء والزوايا تشكل حاليا حضورا وازنا في التركيبة العقارية الفلاحية، وتحمل الزوايا بالمغرب رمزية دينية قوية مرتبطة بالنسب الشريف، ودعمت الحكم العلوي على اعتبار ترويجهم لتشاركهم مع السلطة الحاكمة في الأصول الشريفة نفسها، واستنادهم إلى الانتساب إلى آل البيت، وبقي هذا التحالف الضمني مستمرا إلى اليوم، وخاصة أن السلطة الحاكمة في المغرب تستند في حكمها على شرعية دينية أيضا. وهكذا أمكن للمخزن في المغرب أن ينسج تحالفات دائمة أو مؤقتة مع زوايا بعينها في فترات مختلفة، بهدف ضمان ولاء القبائل التي تتبع لها، وهو ما جعل النزاعات التي كانت تقوم بين بعض القبائل وبين المخزن نزاعات موازية مع الزوايا التي تنتمي إليها تلك القبائل. وفي نفس الوقت كان المخزن يعتمد على الزاوية الأكثر انتشارا في صفوف أوسع نطاق من القبائل، بحيث كان يختار جيشه من أبنائها لضمان الولاء. وكان ذلك التحالف يوفر للطرفين المكاسب التي يسعيان إليها، فالدولة تجد فيه سندا لمشروعيتها ووسيلة لفرض شوكتها، والزاوية تجد فيه وسيلة لبسط نفوذها على القبائل الأخرى والاستقواء عليها بالمخزن، وإطلاق يدها في الغصب.
الطريقة التيجانية كأداة في الصراع الاقليمي بين المغرب والجزائر
كشف تصريح للخليفة العام للزاوية التيجانية، الشيخ علي التيجاني، حول رفض الزاوية محاولة السلطات المغربية استغلال الزاوية ومحاولة إلغاء المركز الروحي للزاوية التيجانية الموجود في الجزائر، عن حرب سرية بين السلطات الجزائرية والمغربية حول من له الحق في قيادة الحركة الصوفية في شمال إفريقيا.
تصدرت الطريقة الصوفية التيجانية طيلة سنوات التنافس السياسي والدبلوماسي بين المغرب والجزائر، وذلك بسبب الثقل الديني والسياسي الذي تتمتع به هذه الطريقة الدينية التي يتبعها الملايين في أفريقيا والعالم، حيث ولد مؤسسها وشيخها الشيخ أحمد التيجاني بالجزائر ثم تعلم واستقر وتوفي بالمغرب. في البداية دعا المغرب المنتسبين للتيجانية جميعا إلى أول ملتقى دولي لهم بفاس عام 1986. واعترف زعماء الطائفة التيجانية في ذلك الملتقى بمغربية الصحراء وأدانوا موقف الجزائر منها. ومن هنا سيتطور الصراع مع الجارة الجزائر التي فطنت إلى دور الزوايا كورقة روحية ودينية أولا لمواجهة مد حركة الإسلام السياسي داخليا، وثانيا كورقة وأداة لصراع النفوذ مع المغرب إقليميا وفي العمق الغربي لإفريقيا، وكذا بالنسبة لجالية الدولتين في أوربا، وخصوصا في فرنسا، ولا زال ملف هذه الزاوية ينبعث من رماده ليحلق في سماء العلاقة بين البلدين.
لذلك شكلت هذه الزاوية محط رهان سياسي بين كل من المغرب والجزائر خلال العقد الماضي، وظهرت الخلافات على السطح مرة أخرى وبشكل خاص في سنة 2006، ففي نونبر من تلك السنة نظمت الجزائر أول ملتقى دولي للطريقة التيجانية بمنطقة الأغواط القريبة من عين ماضي، التي تعد مسقط رأس أحمد التيجاني، مؤسس الطريقة، في محاولة لمزاحمة المغرب في المجال الديني بالمنطقة، ضمن إطار الصراع حول النفوذ في القارة الإفريقية، على خلفية النزاع الترابي حول الصحراء. وتعد الزاوية التيجانية أكثر الزوايا من حيث النفوذ السياسي، بيد أن حضورها الذي صار باهتا في المغرب بقي مجرد جسر لتقوية العلاقات المغربية الإفريقية، لأن الزاوية التيجانية لديها نفوذ أوسع في القارة السمراء، وخاصة في السينغال. ويعود الاهتمام بالزاوية التيجانية من طرف الدولة المغربية إلى القرن التاسع عشر، الذي شهد أهم محطات انتشار الطريقة في كل من المغرب والسينغال، بفضل حركة التنقل التي كان يقوم بها علماء ومريدو الطريقة وشيوخها بين السينغال والمغرب، حيث أصبحت زاوية فاس المقر الرسمي.
تتمتع الطرق الصوفية والزوايا المغربية بامتداد كبير في إفريقيا، وانتشارها في عديد الدول الإفريقية شكّل بمعية باقي الطرق والزوايا الصوفية المنتشرة في دول القارة السمراء، لوبيا ضاغطا لفائدة المغرب في القضايا السياسية الكبرى، لاسيما قضية الصحراء. فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لفائدة الجزائر أو جبهة البوليساريو، كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب. واستمرارا لهذا الصراع تلعب الزوايا دورا كبيرا وسط جالية البلدين وخصوصا بفرنسا، بغض النظر عن دورها في التأطير الديني للجالية المغربية المقيمة بالخارج في مواجهة المد الإسلام السياسي للجماعات.
الدور السياسي للزاوية في الوقت الحالي
دور مواجهة تنامي اليسار
انتهت الزاوية المغربية، عبر تطور وظائفها المختلفة، إلى أن تصبح مكونا ضروريا في توازن المجتمع المغربي في حقب تاريخية طويلة، فقد جمعت بين ما كان ينشده الناس من أمان وحاجيات العيش، وما تنشده السلطة من استقرار سياسي واجتماعي.
وهناك ملاحظة أساسية وهي أن تاريخ الزوايا ارتبط ارتباطا وثيقا بالتاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب، على أساس أنها كانت قوة سياسية ضاغطة فرضت نفسها على النظام الحاكم، ونافسته في الكثير من رموز شرعيته الدينية والسياسية، تدعمها في ذلك قاعدة شعبية عريضة وتنظيمات متجذرة في عمق المجتمع، ولها امتياز رمزي كانت تستلهمه من الانتماء إلى آل البيت والنسب الشريف، لذلك عملت السلطة على احتوائها وتقزيمها، عبر مدها بالامتيازات المادية واستعمالها كأداة في خدمة الاستبداد إلى أن انتهت ووجدت نفسها بين أنياب السلطة الحاكمة. حيث أصبحت أغلب الزوايا لا تخفي ولائها للسلطة، وتقدم نفسها ومريديها كحلفاء للسلطة الحاكمة، يمكن أن تعتمد عليهم في مواجهة التيارات اليسارية والعلمانية.
ففي سنوات المواجهة مع الأحزاب الوطنية والتيارات اليسارية الراديكالية، في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وفي عز سنوات الجمر والرصاص، شجعت السلطة الإسلام القادم من الشرق الذي حمله معهم معارضون اسلاميون هاربون من أنظمتهم، ومولتهم السلطة، بتغاض عن إرهابهم وبتشجيع وتواطؤ معهم، وشجعت توزيع وانتشار وسائط الدعوة السلفية الوهابية، باستعمال أتباع الزوايا لمواجهة تصدير الثورة الإيرانية عام 1979، وللوقوف في وجه المد التحرري الذي كان يقوده شباب الجامعات والمعاهد العليا اليساري.
إن الزوايا ليست وليدة ظروف سياسية حديثة، وإنما لها جذور ضاربة في التاريخ. فقد استمدت أغلب الأسر الملكية التي حكمت المغرب شرعيتها من دعم الزوايا والطرق الصوفية لها، وغالباً ما كان يبرز اعتماد السلطة على الزوايا في أثناء الأزمات، وظهر ذلك جليا أثناء مواجهة السلطة احتجاجات ما سمي بالربيع العربي، عندما لجأت إلى أكبر زاوية صوفية في المغرب، لحشد الدعم السياسي للسلطة لاحتواء غضب الشارع.
الزاوية وحركة 20 فبراير
لقد نظم أتباع الزاوية البودشيشية الصوفية مسيرات مؤيدة للدستور الجديد في الدار البيضاء، وتصدت للأصوات الداعية للخروج إلى الشارع ومقاطعة الاستفتاء على الدستور في العام 2011 أو رفض الدستور، والتي كانت دعت إليها حركة 20 فبراير المعارضة، حين خرج مريدوها في مظاهرات حاشدة معلنة دعمها لتوجهات الحٌكم، هذا الإنزال إلى الشارع كان هدفه الأساسي دعم السلطة وتمرير الدستور الممنوح. حيث دعت الزاوية التي يقودها الشيخ حمزة بن عباس إلى تنظيم ليلة دعاء وذكر بمناسبة المصادقة عليه. ويطرح هذا التحرك تساؤلات عدة حول تحول الطريقة البوتشيشية إلى العمل السياسي العلني، رغم أن رموز الطريقة ينفون ممارستهم للسياسة، فالناطق الرسمي باسمها قال إن الطريقة عبرت من خلال ما قامت به فقط عن موقف وطني. لكن الاستنتاج العام والسوابق التاريخية والمواقف السابقة واللاحقة تؤكد أن النظام قام بتسييس الزوايا والطرق الروحية من جديد، بعد أن خفت دورها في هذا المجال، وفق مصالحه وأهدافه، ودفع بها لمواجهة المعارضة الشعبية، وهي لعبة خطيرة غامر بها نظام الحكم، خصوصا وأن الزاوية البوتشيشية يصل أتباعها إلى الملايين، وهي تعكس موقفا متناقضا في خطاباتها من خلال هذا الدعم. فهي تعزل نفسها عن السياسية شكليا، مؤكدة أن دورها روحي كلما تطلب الأمر اتخاذ موقف مناهض للدولة، وتسارع إلى المشاركة الفعالة بالبيانات والتصريحات والمسيرات كلما تعلق الأمر بالتصفيق على أفعالها. وبهذا الانحياز الواضح يصعب القول بأن الطريقة البودشيشية طريقة مستقلة، بل إنها أداة تدخل في إطار الإستراتيجية الدينية التي اختارتها الدولة لمواجهة التيار السلفي بالتيار الصوفي وكل أشكال معارضة الحُكم اليسارية والديمقراطية. ولا يعد دعم الزاوية للدستور أول تدخل في السياسة من جانبها، فقد ندد شيخ الطريقة البوتشيشية في عام 2005 بأعداء الملكية. لقد وضعتها السلطة السياسية كقوة احتياطية قابلة للعب كل الأدوار والدسائس المعادية لتطلعات الشعب المغربي.
ومن أشهر المواقف المعروفة في السجل السياسي لهذه الزواية، مشاركة البودشيشيين في تظاهرات مناوئة للمطالب التي رفعتها حركة 20 فبراير، ويمكن الإشارة كذلك إلى كون البودشيشية فتحت أبوابها لاستقطاب المئات من الشباب المغاربة الذين كانوا يعملون داخل التيار السلفي، حيث حاولت أن تبرز لهم محاسن التصوف، وكان هذا العمل في حد ذاته عملا ذا طبيعة سياسية، باعتبار أنه ينخرط في التوجه العام للدولة بتشجيع التيار الصوفي. بعد أن دمج الزاوية ضمن سياسته الدينية، وهو ما أعطى الانطباع بأنه يحاول بذلك احتواء تيارات الإسلام السياسي.
ظهر هذا الاحتواء حين خرج مريدو الزاوية في مظاهرات حاشدة مؤيدة لسلطة الحُكم وداعمة للإصلاحات الدستورية التي أفضت إلى دستور جديد في العام 2011 في سياق الربيع العربي، والذي شكلت حركة 20 فبراير وجهه المغربي. مع أنه غير مسموح للزوايا في المغرب بمزاولة أي نشاط سياسي ما دامت تعتبر حركات دينية تشتغل في مجال التصوف والروحيات.
فخلاصة القول من الوقائع اليومية لغليان الشارع المغربي في أكثر من 70 مدينة، في ذلك الوقت، أثبتت أن الدولة لا تستطيع مواجهة 20 فبراير ومكوناتها المتعددة، لذلك فإن الدفع بخروج مريدي الطريقة القادرية البوتشيشية جاء لإحداث نوع من التوازن في التظاهر بالشارع العام، وبالتالي أراد النظام الحاكم بعث رسالة واضحة من أن القوى الدينية ليست كلها مناهضة للمؤسسة الملكية، ويمكن القول بأن هذه السياسة، في الوقت الذي ساهمت في تقزيم بعض الزوايا التي كانت ذات نفوذ قوي في الماضي وإشعاع ديني على مستوى المنطقة، ساهمت أيضا بالمقابل في تضخيم مكانة زوايا أخرى لم يكن لها دور، في إطار خلق توازنات جديدة على مستوى خريطة الزوايا في المغرب، والهدف هو تحكم النظام في وجودها لتحقيق أهدافه منها.
ضرب السلفية بالزاوية
بعد تغول تفرعات التنظيمات المتطرفة والتكفيرية، وعلى إثر انخراط المغرب في الحرب على السلفية الجهادية، تبنت السلطة الحاكمة مشروع ”إعادة هيكلة الحقل الديني” القائم على فكرة تشجيع الإسلام: التقليدي والصوفي، لمحاربة “الغلو الديني”، وقطع الطريق على الإسلام السياسي المتطرف. وتجلى اتجاه السلطة هذا بشكل واضح في تعيين متصوف وزيراً للأوقاف والشؤون الإسلامية، والباقي في موقعه منذ عام 2003. وكذا الإغداق بالهبات المالية على الزوايا والطرق الصوفية، وتشجيع حضور أنشطتها في الإعلام الرسمي، وفي المجال العام، بتشجيع وتمويل مواسمها واحتفالاتها وطقوسها وندواتها ومؤتمراتها. تلتقي إذن سياسة السلطة القائمة على مبدأ “التحكم والتسلط”، مع تقاليد الطرق الصوفية القائمة على ثقافة “السمع والطاعة” الواجبين على المريد تجاه شيخه، وهي الثقافة التي تريد السلطة تكريسها في المجال السياسي، من خلال “طاعة ولي الأمر”. ومن أجل نشر هذه الثقافة الصوفية التي تخدم مصلحة السلطة، فتقدم الدولة دعماً رسمياً للزوايا الصوفية، لتكريس الصوفية توجهاً دينياً في المجتمع، علاوة على إيجاد توازن سياسي داخل الحقل الديني، لوقف تمدد التيارات الإسلامية المحسوبة على الإسلام السياسي وتطورها. وبمحاولة السلطة إعادة إحياء دور الزوايا كمن ينفخ روحا في جثة، لأن دورها وتأثيرها تراجع نتيجة ارتفاع منسوب درجة وعي فئات كبيرة من المجتمع، وصلتها بالواقع شبه منقطعة، ووجودها أصبح يغلب عليه الطابع الاحتفالي والطقوسي، وأغلب روادها من الفئات الميسورة التي تمارس طقوس التصوف، كنوع من الرياضة الروحية، بحثاً عن التطهير الروحي. وربما قد تكون هذه غاية السلطة من تشجيع مثل هذا النوع من الإسلام، الذي يشجع رواده على الابتعاد عن السياسة، والاهتمام بما هو روحي. لكن، الهدف المسكوت عنه هو مواجهة “الإسلام السياسي” الذي يجمع بين الدين والسياسة، ولا تسمح قوانين السلطة في المغرب لأي تيار ديني أو سياسي أن يجمع بينهما، مع استثناء سلطة الملك الذي يمنحه الدستور الممنوح حق الجمع بين السلطتين، الدينية والسياسية، تحت عنوان “إمارة المؤمنين”.
تعد أدوار زوايا الصوفية كثيرة، فمنها الاجتماعي والديني، لكن عبر التاريخ يبقى الدور السياسي للزوايا الصوفية أساسيًا، فهي في النهاية تسعى وتساهم في تثبيت سلطة الدولة والنظام الحاكم، وهذا ما يفسر دعم ومساعدات الدولة للزوايا.
الزواج الكاثوليكي بين الدولة والزاوية.. استراتيجية الإحياء والاحتواء
وفي ظل الانحرافات الاقتصادية، حظيت الزوايا -خاصة الكبرى منها- عبر التاريخ الطويل، بالرعاية والدعم الماليين، من خلال الامتيازات والهبات والإقطاعيات، ونال شيوخها وأتباعها امتيازات ضريبية وإقطاعات أرضية بظهائر ملكية، منذ أمد بعيد، مثل ظهير السلطان السعدي سنة 1586، الذي خص رؤساء تلك الزوايا بعائدات الضرائب الدينية (الزكاة والعشور)، وبـ (حكرة المنتوج الفلاحي للأرض)، واحترام طرق الزاوية. وقد جدد ظهير المولى إسماعيل سنة 1673 ولا زال السير على نفس النهج وإن بوسائل وصور أخرى، لكن الهدف هو تثبيت أركان السلطان الحاكمة، ثم اعتماد التصوّف كمحدد مركزي لإعادة هيكلة الحقل الديني. ومع الوقت تحولت الزوايا الصوفية إلى أجهزة إدارية تابعة لنظام الحكم تخدم مصالحها وتدافع عنها وتبررها أمام الناس وتسهم في تحقيق أهدافها وسياساتها، وتجعل من نفسها أداة ووسيلة للدفاع عن نظام الحُكم وتكريس شرعيته.
ولا يرى المنتسبون إلى هذه الزوايا الصوفية، أي تعارض بين معتقداتهم الدينية وولائهم للنظام المغربي وقوانينه، خاصة وأن النظام عمل على احتواء مشايخ الصوفية ومريديهم على اختلاف طرقهم، ومكّنهم من مناصب كبرى في الدولة من خلالها يقومون بدور مركزي في مختلف دواليبها.
ورغم انخفاض وزنها، تحولت الزاوية في مغرب اليوم إلى شبه حزب سياسي في خدمة “المخزن”، الذي يمدها بالمال كأوكسجين لاستمرارها، ويعتمد عليها في نشر الفكر الخرافي والاتكالي، وأصبحت مكونا من مكونات إيديولوجيا النظام
وتحظى برعايته خاصة، إذ تشرف لجنة في كل سنة على توزيع الهبات على شيوخها والقائمين عليها، إذ تتلقى دعما مالياً كبيرا من المال العام من قبل المخزن، على الرغم من أنها ليست حزباً أو نقابة أو جمعية قانونية. وعندما احتج السلفيون والحقوقيون على دعم المخزن للزاوية، أوصت النخبة المخزنية الزاوية وأتباعها بتأسيس مؤسسة ذات المنفعة العامة لتلقي الدعم بطرق شرعية.
ولمكانتها الكبيرة في صفوف المجتمع القروي، عملت الدولة على تطويعها خدمة لأغراضها السياسية، فمن خلالها تمكن لها أن تسيطر على مصدر ثقة كبير داخل هذا المجتمع الريفي مع طغيان الجهل.
فالزاوية عنصر ضمن الآليات التي تحافظ بها الملكية على هويتها الدينية، فضلا عن كونها اليد الطويلة للدولة، التي تسعى من خلالها إلى تثبيت سلطتها، وتشكل أحد الروافد الأساسية لجلب التأييد وإحياء الولاء الديني والروحي لـ “أمير المؤمنين” ضمن استراتيجية إعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، وهي استراتيجية جديدة، بدأ الإعداد لها عقب اعتداءات 11 شتنبر 2001، لقد عملت سلطة الحٌكم كل ما في وسعها لإدماج الصوفية في الحكم بهدف مواجهة ومحاربة ظاهرة إرهاب الإسلام السياسي ، وفي السنوات الأخيرة تقوى الاتجاه الداعي إلى العودة إلى الإسلام “الصوفي” الذي ارتبط بالطرق والزوايا الصوفية التي طبعت تاريخ المغرب الرسمي والشعبي على حد سواء، فأحداث 16 ماي 2003 الدموية استوجبت البحث عن حليف استراتيجي قديم/ جديد، هذا الحليف الجديد سيتمثل في الإسلام الصوفي الطُرقي، والذي يعد في الحقيقة مكونا من مكونات أيديولوجية النظام.
حظوظ نجاح هذه الاستراتيجية الجديدة أبعد من أن تكون أمرا مضمونا. فقد عمدت الدولة في سياق تنامي حركة الاحتجاجات الشعبية ضد اختياراتها الاقتصادية والأزمة السياسية، ومن أجل محاصرة الإسلام السياسي والحركات الأصولية المتطرفة، إلى تجيدد الاهتمام بالزوايا والطرق الصوفية وإعادة إحياء أدوارها كخيار استراتيجي ورهان سياسي لتوظيفه في مواجهة الإسلام الأصولي المؤدلج والذي كانت الدولة هي من أدخلته لشرايين نسيج المجتمع المغربي، وبالتالي كانت مناسبة للزوايا لتعاود الانتشار من جديد بتصور جديد ووظائف غير التي كان يضطلع بها شيوخها إبان الفترة الاستعمارية والمراحل التاريخية السابقة. وهي عودة للأصول السلطانية للمخزن والذي كان يعتمد على الزوايا الأكثر انتشارا في صفوف أوسع نطاق من القبائل، بحيث يختار عناصر جيشه من أبنائها لضمان الولاء.
أن محاولات الدولة ضرب الإسلام السياسي بالإسلام الصوفي، يمر على حساب شعاراتٍ سياسية يرفعها، من قبيل التحديث والديمقراطية، فإعادة إحياء طقوس التصوف البالية هي عودة إلى تعطيل ملكة العقل والتفكير، وتشجيع لثقافة التقليد والخرافة. كما أن ثقافة “الشيخ والمريد” التي يقوم عليها الفكر الصوفي والزوايا، تكرس فكر الخنوع والخضوع، وتنبذ ممارسة النقد وقبول الرأي الأخر والاعتراض التي بدونها لا تستقيم أية ديمقراطية.
إن النظام السياسي يستغل الزوايا لأنها تاريخيا كانت تنعم بنوع من الاحترام والتقدير، نظرا لطبيعتها الدينية واندماجها التام في محيطها الاجتماعي والاقتصادي، وربما نظرا كذلك لطبيعة المجتمع المغربي كمجتمع جد محافظ وميال إلى التأملات ذات الطابع الميتافيزيقي، لكن أدوارها السياسية تظل مطلوبة للنظام لتمطيط وجوده السياسي والديني، لتبدو وكأنها مجرد أداة سياسية تعززها مبررات التقديس، وبسبب ذلك تطور الجهاز الصوفي لدرجة اعتبره البعض “مشروع دولة مثالية دائم الوجود” أعطى لدور الصوفي تشكيلا متجددا، وجعل من مؤسسته مكونا من مكونات الدولة، وهو ما أفضى في النهاية إلى حاجة الدولة لهذا الجهاز وحاجة هذا الأخير للدولة، وهي العلاقة التي تأصلت وتقوت حسب منظور كل طرف للآخر، فيما يبدو أنه تنافس مبطن حول المشروعية الرمزية لتمثل الزعامة داخل الجماعة، لكن في المقابل يمكن النظر إلى ذلك من زاوية تبادل الأدوار : فالجهاز الصوفي يكمل الأداء السياسي فيما يضمن هذا الأخير للثاني سبل الاستمرارية وآليات الامتداد من داخل غرفة الإنعاش.
ومع أن التحولات التاريخية أدت إلى تراجع أدوار الزوايا بعد أن افتقدت كثيرا من الوظائف التي كانت تضطلع بها في المجتمع التقليدي كمؤسسات تأطيرية للمجتمع؛ الوظائف التعليمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية والجهادية،.. لم تعد من مجال عملها بفعل عملية التحديث التي طالت المجتمع، فان الدولة لا زالت تنفخ فيها روح العمالة لخدمتها، لأنه لم يجد إلى الآن بديلا يساعده لحماية وجوده، حيث لا تظهر قوة الزوايا إلا في المناسبات الطقوسية لطرقهم، وداخل المجتمع يكاد لا يوجد أي أثر لهم، ما قد يفسر بأن تأثير الزوايا والطرق عمليا قد انتهى أو يحتضر.
إن المكانة التي خص بها المجتمع تلك الزوايا على مدى تاريخها بغض النظر عن الجانبين الديني والسياسي، يعود جزء كبير منها إلى عدة عوامل كتناسل القصص والروايات الأسطورية التي كانت تثبت لهذا الولي أو ذاك خوارق وهمية، إن الكثير من الزوايا والقائمين على الأضرحة قد استغلوا نفوذهم للتمويه على العامة من الناس بكرامات مصطنعة تتبع الأولياء في أضرحتهم، مثلما نسبت إليهم في حياتهم عن حق أو باطل. إن الوجه القبيح للسلطة في زواجها الكاثوليكي مع الزوايا أنها تحمي السلطات العليا والسفلى الزوايا والأضرحة وتؤمم المواسم التي تنظم حولها، وتشرف عليها وتدعمها ماديا ومعنويا. بينما تعجز عن تأميم المدارس والمستشفيات ؟؟؟