التصوف.. بارود مرطب في أيادي مرتجفة
◆ ذ. رشيد العلوي
للزوايا الصوفيَّة تاريخ عريق في المغرب القديم والحديث، بل ولبعضها باع طويل في مقاومة الاستبداد السيَّاسي، رغم أنها تتمتع باستبداد ديني لا حد له. ليست علاقة الزوايا بالقصر دوماً علاقة تكافؤيَّة ولا تصالحيَّة، فقد كان لبعض الزوايا دور هام في معارضة النِّظام في مراحل تاريخية مختلفة. يقول حمودي: “انتشرت الطريقة الدرقاويَّة، كما نعلم، في المدن والبوادي، وتجاوزت “المغرب الأقصى” إلى سائر بلدان الشمال الافريقي. وقد حركت معارضة شديدة في الأطلس المتوسط وضعت السُّلطة في مأزق” (الشيخ والمريد، ص 126).
ظهر مفعول خطة إعادة هيكلة الحقل الدِّيني مع نضالات حركة 20 فبراير، حيث سارعت الزاوية البودشيشيَّة لحشد أنصارها في مسيرة البيضاء لدعم الدستور الجديد ولمواجهة جماعة العدل والإحسان التي ينحدر زعيمها ومؤسسها من نفس الزاوية. كان لافتاً اصطفاف كافة المنخرطين بهاته الزاوية في إطار السيَّاسة الدينيَّة الجديدة، في خانة المناهضين لـحركة 20 فبراير. ورغم وجود استثناءات، فالأمر، كان متعلقاً بدواع مصلحيَّة وليس بمنظور نقدي للتسلُّط: يتعلق الأمر هنا بحضور أنصار المغراوي لبعض المظاهرات لغاية فتح دور القرآن التي أغلقتها وزارة الداخلية سنة 2003، ثم بعض الفقهاء المحتجين لتحسين أوضاعهم الاجتماعيَّة وقليل منهم من المرتبطين بتيَّارات إسلاميَّة ضمنهم نددوا بوصاية وزارة الأوقاف على المساجد، لكن بمجرد تحرك الآلية المخزنيَّة وفق ثنائيَّة العطايا والوعيد حتى تبخر ذلك.
المسألة الأكثر دلالةً، في هذا السيَّاق، هي أنه في ظل مظاهرات 20 فبراير ضد دستور 2011، لم تستطع أي من القوى السيَّاسيَّة حشد أنصارها في الشارع للدفاع عن الدستور رغم اصطفافها إلى جانب الملك. والقوة الوحيدة التي استطاعت القيام بهذا الدور هي الزاوية البودشيشيَّة التي حشدت أكثر من مائة ألف بالبيضاء في مسيرة ضخمة. الدرس الذي يجب استخلاصه هنا هو أنه في ظل فقدان أدوات الوساطة السيَّاسيَّة للملك (أحزاباً ونقابات وجمعيَّات) لمشروعيَّتها في شروط تنامي الكفاح الجماهيري فإن الخزَّان الاحتياطي للمشروعيَّة ستبحث عنه الملكيَّة في قوى دينيَّة أخرى محافِظة قادرة على لعب دور الطابور الخامس للدولة.
في مارس 2012 قدم القصر الملكي هِبات عدَّة لعدد من الأضرحة والزوايا لعل أهمها: هبة ملكيَّة لشرفاء ومريدي ضريح مولاي بوعزة (خنيفرة)، هبات لشرفاء ومريدي زاويتي سيدي حمزة وسيدي يحي أو يوسف (ميدلت)، شرفاء مكناس، زاوية مولاي بوسلهام (القنيطرة)، عدد من الأضرحة بالعرائش والقصر الكبير وطنجة، شرفاء زاوية سيدي لغليمي (سطات)، زاويتي الشيخ محمد بن محمد سالم٬ والشيخ محمد المامي (الداخلة)، الزاوية الوزانيَّة (تطوان)… وفي الحقيقة تشكل هذه الهبات دعماً مباشراً للطرق الصوفيَّة والأضرحة لمواصلة أنشطتها الدينيَّة العاديَّة وتنظيم مزاراتها، للقيام بأدوارها في عمليَّة إعادة الإنتاج، هذا ناهيك عن الدور “الاستشفائي” الذي تقوم به العديد من الأضرحة، ولعل أبرزها “بويا عمر” الذي قرَّر وزير الصحة إغلاقه سنة 2015 دون أن يوفر الإيواء لمرتاديه من المرضى النَّفسانيِّين والعقليِّين. فهل يمكن الاعتقاد أن هذه الهبات هي مجرد فعل خيري إحساني لا علاقة له بالشرعيَّة الدينيَّة لأمير المؤمنين؟ من المؤسف الاعتقاد أن الهبات الملكيَّة مجرد عطف وبركة يخصها الملك لرعاياه الصوفيِّين، بل إن في ذلك مصالح وخدمات متبادلة، والعطف هنا يأخذ بمعانيه السيَّاسيَّة كاملةً، أي كعطف محكوم بمصالح متبادلة، لهذا يجمل موليم العروسي كلامه في التداخل بين التصوف والسُّلطان في قوله: “يتلازم الدِّين والسيَّاسة في الأوقات الحرجة. فبالنسبة للملك يتراجع الدِّين في الأوقات الصعبة لصالح الإستراتيجية؛ بمعنى في القبَّة عندما أحس السُّلطان بالخطر طرح تساؤلاً: ماذا يمكنني أن أفعل؟ وهذا هو شأن الشيخ “الهسكوري” الذي درس بالقرويِّين وأراد أن يكون متصوفاً ويشيِّد زاويَّة. لكن منطق الدولة طغى على منطق التصوف. هذا أمر موجود منذ زمن على أساس أن هناك محاربين ويلزمهم مال ويجب أن يكونوا ملتزمين. فالمسألة واضحة، فالقُدسِي والدُنيوي يحملان بعداً آخر عندما نريد أن نغطي على مسائل محددة. ” (جريدة الاتحاد الاشتراكي، رمضان 2016).
اخترق المغرب العديد من الدول الإفريقية للحفاظ على ما يسمى بالأمن الروحي للمملكة في إطار اتفاقات ثنائيَّة تهم علاقة المغرب ببعض البلدان، وقد وقع المغرب وجمهوريَّة الصومال الفيدراليَّة، يوم 20 يوليو 2016 بالرباط، على اتفاق للتعاون الإسلامي وتبادل التجارب والخبرات بهذا الشأن، حيث قال الوزير الصومالي إن هذه الاتفاقيَّة ستتيح لبلاده الاسترشاد بتجربة المغرب الرائِدة القائمة على الوسطيَّة والاعتدال والتسامح ومنهجيَّته الحكيمة في احتواء التطرُّف وتجفيف منابِعه، مؤكداً حاجة جمهوريَّة الصومال الماسَّة إلى الاسترشاد بمنهجيَّتِه المتميزة والسَّير على منوالها، بالنَّظر إلى أن المغرب راكم تجربة “شاملة ومتميزة ليس في محاربة التطرف والإرهاب فحسب بل في الوقاية منه”، ما دفع بدول العالم إلى الإشادة بها والرغبة في استلهامها. وقد قال أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة، إن تدبير الشأن الدِّيني بالمغرب منوط بإمارة المؤمنين بمقتضى عقد البيعة باعتبارها “نظاماً سيَّاسيّاً دينيّاً مستمداً من كون الإسلام منذ نشأ، نشأ دينا ودولة”. وأبرز التوفيق، في اللقاء المنظم في إطار “الملتقى الديبلوماسي” يوم الأربعاء 5 رجب 1437هـ (13 أبريل 2016) بالرباط، بحضور ممثلي السلك الدبلوماسي المعتمد بالمغرب، أن الملك هو رئيس الدولة وفي نفس الوقت أمير المؤمنين والساهر على “حفظ الكليَّات الخمس المتمثلة في حماية الدِّين والنفس والنِّظام العام والأموال والعرض”، مضيفاً أن المغرب الذي اندمج في اللُّغة الحديثة للسيَّاسة، نص في الفصل 41 من الدستور على أن الدِّين من اختصاص أمير المؤمنين “لأنه موضع اتفاق من لدن الأمة”. كما أكد أن مشروعية إمارة المؤمنين في المغرب “تقوم على عقد مكتوب منذ قرون يسمى البيعة”، موضحا أن ضمان إمارة المؤمنين للدين يكون باحترام الكليات المذكورة التي تتحكم في ضمير الناس وتصورهم للعالم والحياة. لأن التوجه الإفريقي لسيَّاسة الملك متعدد الأبعاد، يستمد تميزه من الأواصر الجغرافية والروابط التاريخيَّة والأسانيد العلمية، مشيرا كرئيس منتدب لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، أن العديد من مشاريع الشراكة الاقتصاديَّة التي أطلقها الملك في المدة الأخيرة، مع بلدان في جنوبي الصحراء، تقترن في أذهان أهل تلك البلدان برصيد المغرب الدِّيني والعلمي والروحي المشترك، حيث يقر المصنفون بأن ما تم بناؤه عبر العصور، في مجال ذلك الرأسمال اللامادي، لا يقاس بنفع ولا يقدر بثمن، وهو باق صامد لكل حوادث الزمان، ومن ثمراته أن علاقات المغرب مع إفريقيا الغربيَّة على الخصوص، لها طابع شعبي مستدام، لا يتأثر بالظروف العابرة. وقد أبرز أن مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، “تستشرف تحقيق ربط فعال على صعيد القارة بين العلماء، والغاية المشتركة هي العمل على أن يحافظ لهذه الشعوب على إيمانها وعقليتها المحبة للسلم، وأن تصان لها، في نفس الوقت، ثقافتها المتميزة التي لم تخرجها يوما من توحيد الله والعمل بمكارم دينه، المبين بسنة رسوله الأكرم”. وسجل أن أفاق مستقبل هذه المؤسسة، كما خطط لها الملك من خلال أهدافها في الظهير الشريف، ستتبلور في شراكة في الخبرة بين علماء المغرب وعلماء البلدان الإفريقية الراغبين في ذلك، وبالقدر المتاح لهم سياقا وقانونا، من أجل مقاربة شمولية لقيام الدِّين، بحمايته وتنمية خدماته: “لقد ابتكرتم، هذه الآليَّة، قبل كل شيء، بقصد نيل رضا الله في القيام بالأمانة الموضوعة على عاتقكم، كحام للملة والدِّين، وكراع للتاريخ الروحي المشترك بين المغرب وإفريقيا، وكغيور على الأمن والاستقرار في المنطقة”، لأن هذه الشراكة من خلال المؤسسة، ستمتد، إلى مجال التأطير العلمي، وذلك بإسهام العلماء في تبليغ مبني على الوسطيَّة، وبتنسيق الجهود لنشر فكرة أولويَّة دفع الفِتنة واستدامة الأمن والاستقرار كضرورة شرعيَّة قصوى..
في الاجتماع الثالث لأتباع الطريقة التيجانيَّة بمدينة فاس يوم الأربعاء 14 ماي 2014 وجه الملك بصفته أمير المؤمنين رسالة إلى المشاركين ألقاها وزير الأوقاف والشون الإسلاميَّة جاء فيها:
”ننوه بما يجمع التيجانيِّين قاطِبةً، منذ تأسيس طريقتهم إلى اليوم، من مشاعر التعلق والوفاء لملك المغرب، بوصفه أميراً للمؤمنين وسيطا للنَّبي الأمين، مبادلين إياهم نفس الوفاء، مسبغين عليهم موصول الرعاية أينما كانوا، داعين إياهم أن يحافظوا على اتخاذ المغرب قبلة لهم في الورد والصدر”. وفيها نتلمس المصلحة المتبادلة بين إمارة المؤمنين والطريقة التيجانيَّة في تعاون وثيق مبني على الحفاظ على الشرعيَّة الدينيَّة للإمارة ، مقابل الدعم السيَّاسي للطريقة.
خلاصة القول من استعراض هاته المقولات التي تؤطر الحقل الديني السلطاني، أن تثبيت دعائم السلطة يقوم على الشرعية الدينية، وضمان ولاء الزوايا وتداخل البعد السياسي بالديني بإدخال مفهوم البيعة لمجال القداسة، بحيث لا شرعية دينية تعلو على شرعية إمارة المؤمنين، فالريع المخزني يضخ إمكانيات استمرار الولاء.