التصوف بين الجانب الروحي للزوايا والاحتواء المخزني
◆ رشيد سليم
التاريخ كسياسة
داخل أي جماعة إنسانية هناك رؤى مختلفة للوجود، هذه الرؤى تتمثل الوجود البشري داخل العالم كمجموعة من العلاقات المعقدة، تربط الناس بعضهم ببعض ثم تربطهم بمحيطهم الخارجي، وتتضمن مجموعة من التمركزات والأولويات والتي تحدد وعيا كليا معينا.
فالإسلام (كفكر) على سبيل المثال، ليس كتلة بسيطة منسجمة ذات بعد وحيد، بل يعكس مجموعة من التمركزات المتداخلة مع بعضها البعض: منها على سبيل المثال (حسب قراءتنا التاريخية) – الانحياز للذكر على حساب الأنثى – الانتصار لله مقابل الإنسان (الأولوية لحفظ الدين على حفظ النفس) – الدفاع عن مصالح الفقراء في وجه الأغنياء تارة ـ والدفاع عن مصالح الأغنياء في وجه الفقراء تارة أخرى (إقرار العبودية والفقر…إلخ).
هذا الوعي الكلي يحاول استيعاب الحياة والوجود بكل تعقيداتها في لحظة تاريخية معينة، وهو ما يفتأ يتغير ويتطور ليشكل التاريخ. هذا التصور للتاريخ يقابله عند هيجل مفهوم “روح العالم” والتي تكشف عن ذاتها من خلال الوعي الانساني المتجسد بثقافة المجتمع.
بالمقابل وأحيانا أخرى، يتخذ هذا التمثل وهذه الرؤيا شكلا بسيطا لفئة معينة من الناس لهم غاية مباشرة آنية ضيقة مادية،
هي امتلاك الثروة ووسائل الإنتاج، في هذه الحالة نتحدث عن مصلحة وعن صراع مصالح عوض الحديث عن وعي كلي
وتمثل هذه الرؤية المادية، القراءة الماركسية للتاريخ.
وسواء تعلق الأمر بالوعي الكلي أو المصلحة الضيقة فكلها غايات ورؤى فكرية تسعى لفرض نفسها على أرض الواقع، من خلال فرض حزمة من القوانين التي تحدد حقوق وواجبات كل فئة وتكرس تراتبية اجتماعية لفئة على حساب فئة.
وطالما الواقع لا يسعها كلها فهي تدخل في صراع حتمي فيما بينها، هذا الصراع يتم على مستويين:
• مستوى فوقي هو مستوى الصراع الفكري: فيتخذ شكل جدل وحوار وتنظير فكري (مثاله دعوة الرسول للإسلام في مكة لمدة ثلاثة عشر سنة).
• مستوى تحتي هو الصراع على السلطة الذي يمكن أن يتخذ شكل نزاع عسكري (الإسلام في المدينة) أو تنافس اقتصادي أو منافسة على الفضاء العام ووسائل التواصل (أنظر هابرماس).
وسواء تعلق الأمر بالصراع في مستواه الفوقي أو التحتي فكلاهما يدخل في مفهوم السياسة بمعناها الواسع.
الدين كفعل سياسي
الدين كوعي وكرؤية للوجود تحاول فرض نفسها على أرض الواقع هو بمثابة فعل سياسي وهو يمر بمرحلتين:
• مرحلة حياة النبي حيث يكون الوعي حيا متفاعلا مع محيطه.
• مرحلة موت النبي: ففي الإسلام مثلا خلف النبي إثر وفاته نصا يُفصل رؤيته الوجودية، لكن النص -أي نص ـ مهما كان مفصلا يظل بمثابة “وعي ميت ناقص”، وغير قادر على التفاعل مع الواقع ومتغيراته وأحداثه وزخمه، الشيء الذي طرح إشكالا بالنسبة للمسلمين وجعلهم ينقسمون إلى ثلاثة مذاهب رئيسية في محاولتهم لاسترجاع الوعي الحي :
- فئة اعتبرت النص وعيا كاملا يمكنه استيعاب الواقع، إلا أنها ما فتئت تناقض نفسها وتضيف إليه من خارج النص الأصلي تحت مسميات مختلفة (رأي الصحابة، رأي التابعين، إجماع العلماء، الاجتهاد)، وهذا هو المذهب السني.
- فئة دعت إلى إعادة تمثل الوعي النصي من خلال البشر، ثم فسح المجال لهذا التمثل أن يحيا من خلال ملكة العقل وقواعده المنطقية (مذهب المعتزلة).
- وأخيرا فئة نفت انقطاع الاتصال بمصدر الوعي أو الحضرة الإلهية، وأعادت الاتصال به مباشرة عن طريق الكشف والفتوحات الربانية في شخص شيخ الطريقة العارف بالله، ذو النسب الشريف وهذا هو المذهب الصوفي.
البنية الفكرية للمذهب الصوفي
رأينا كيف أن المذهب الصوفي ينحو نحو إعادة ربط الصلة مباشرة بالمصدر المتعالي عن طريق الشيخ، هذا الإحياء والاسترجاع للمصدر يُفقد النص شيئا ما من مركزيته لصالح الشيخ، والذي يكتسب هيبة وقداسة، ولهذا الأمر نتيجتين رئيسيتين:
ـ من جهة، واعتمادا على قدسيته وعلى الكشف الرباني، يقوم شيخ الطريقة بتحييد النص المقدس بما يمثله من كثرة التمركزات وتعددها وتباينها بطريقة قد تخلق تصادما وعنفا مع تمثلات ورؤى الآخرين. وذلك لفائدة مبدأ وحيد وبسيط هو الانتصار للتسامح والحب ولمكارم الأخلاق، مع تهذيب النفس ومحاربة شهواتها بالدعوة للزهد وعدم الخوض في الصراعات على المصالح الضيقة وعلى السياسة خصوصا.
ـ ومن جهة أخرى فإن الفكر الصوفي يكرس لنمط علاقة بين الشيخ والمريد، يتماهى مع العلاقة التي تربط بين المقدس والمدنس، وتتميز بالخصائص التالية:
= الطاعة والخضوع التام : يتبدى ذلك من خلال حزم الواجبات والأذكار والطقوس المرهقة التي يفرضها الشيخ على مريديه قصد اختبار مدى طاعتهم وإذعانهم.
= “الإيمان” بالشيخ : والمقصود بذلك الطاعة العمياء للأوامر في غياب أي فهم أو إدراك لغاياتها (كحال سيدنا موسى مع الخضر).
= عدم “الشرك” : ومعناه الولاء المطلق المتفرد للشيخ دون سواه (سلطة أو صلة قرابة…إلخ).
= الثواب والعقاب: حيث يُكافئ المريد الخاضع بتقريبه من الشيخ وإجازته، بينما المريد الذي لا يستجيب لكل الشروط السابقة يتم استبعاده أو على أقل تقدير لا تتم ترقيته وإجازته.
كخلاصة فإن كل ما أسلفنا يؤسس لعلاقة سلطوية استبدادية استيلابية.
البنية المؤسساتية الاجتماعية للزاوية وعلاقتها بمحيطها
الزاوية لغويا هي الركن، وتأتي في هذا السياق بمعنى الركون إلى الزاوية والاعتزال. فالشيخ “الصالح” المتصوف يعتزل الحياة اليومية بما هي ثرثرة Bavardage، على حد تعبير هيدجر، واستغراق في تفاصيل الحياة اليومية وفروعها الهامشية من أجل العودة للمركز النقي الصافي الإلهي.
تدريجيا يؤسس الشيخ لطريقته أو مدرسته ليكون له مقدمين يرتقون تدريجيا قربا إليه حتى يصلوا إلى مرحلة تسمح للشيخ بإجازة الواحد منهم، كما لو أنه يمنحه قبسا من الهدي الرباني (السر)، مما يتيح له إنشاء زاوية أخرى تظل تابعة روحيا للزاوية الأصلية ووفية لطريقتها. وهكذا تنتشر الزاوية أفقيا وتدخل في علاقات مع البنية الاجتماعية لمحيطها الجغرافي، والذي تمثله القبيلة.
تملك القبيلة بنيتها السلطوية الخاصة المتمثلة في شيخ القبيلة أو مجلس القبيلة “الجماعة”، والذي يفرض سلطته من خلال الأعراف والعادات والتقاليد، لكن رغم أهمية هذه البنية إلا أنها تظل عاجزة عن ضمان الاستقرار والأمن؛ بل في كثير من الأحيان قد تكون هي ذاتها تقف وراء العديد من النزاعات القبلية والحروب الأهلية، هنا يدخل شيخ الزاوية على الخط بإعطائه إمكانية فرض هذا النظام وهذا الأمن من خلال سلطته الروحية والتي تفرض نفسها على الجميع، فرضى الشيخ من رضا الله، وأي إرضاء له هو جلب للبركة بما هي إحلال للأمن، والرخاء، والاستقرار، على العكس من ذلك، فعصيانه أو إغضابه هو جلب للسخط والقحط والأمراض. كل ذلك منح للزاوية مكانة اجتماعية وسلطة داخل القبيلة.
علاقة المخزن بالقبيلة ومن خلالها بالزاوية
اتسمت علاقة المخزن بالقبيلة في عهد السيبة بالتوتر مدا وجزرا، فالمخزن لم يكن متجذرا ومندمجا في ثقافة بلاد السيبة، وكان يُنظر إليه كسلطة خارجية غايتها جبي الضرائب. بالإضافة إلى فرض واجبات أخرى كالجندية، والسخرة، والمؤونة وغيرها من لوازم الخدمة المخزنية، والتي كانت تقتضيها مسألة تجهيز “الحركات المخزنية” الموجهة لقمع الانتفاضات والتمردات القبلية والحركات الانفصالية.
وبالتالي فهذه العلاقة اتسمت في كثير منها بالجفاء، مما قلل من دور العامل أو القايد ممثل المخزن محليا، إلا أن ذلك لم يمنع المخزن من السعي لفرض نفسه بوسائل أخرى، إما إداريا عن طريق تزكية الزعامات القبلية وربط علاقات بالأعيان اعتمادا على تبادل الهبات والهدايا..، أو عسكريا بالقمع أو ما يسمى ب “الحَرْكة” .
كل هذا السياق السياسي والتاريخي جعل المخزن يلجأ إلى الزوايا كوسيلة لتعضيد سلطته وفرض سطوته على القبائل ومن خلالها على مجموع ربوع البلاد.
علاقة الزاوية بالمخزن
علاقة مباشرة
حاول المخزن استغلال نفوذ الزاوية لتمرير شرعيته وإحكام سلطته على الهامش المتمرد، فأسس لعلاقة تبادل مصالح مع الزوايا. من جهة تقوم الزاوية بإضفاء الشرعية على بيعة السلطان وكذا على سياسة المخزن (من ضرائب وخدمة…إلخ.)، وتمنع بالتالي أي تمرد. مقابل ذلك يغدق السلطان على الزوايا بالأموال والهبات ما يسمح لها بتقديم خدمات أكبر للناس (إطعام الفقراء وأبناء السبيل وإيواءهم، بناء المدارس والمكتبات…إلخ)، ويمكنها ذلك من توسيع نفوذها. كما يمكن للسلطان أن يمنح لشيخ الزاوية ظهائر التوقير والاحترام، وقد وصل به الأمر إلى تفويض سلطة الجباية لشيخ الزاوية.
علاقة غير مباشرة من خلال خلق نمط تفكير معين
بغض النظر عن سلطة الزاوية والتي تعتبر وسيلة من الوسائل التي قد يلجأ إليها المخزن لتمرير سياسته وفرضها على رعاياه، فإن انتشار التصوف كنمط تفكير وترسيخه في المجتمع، يعتبر في حد ذاته وسيلة ناجعة لضمان نفاذ هذه السلطة في المجتمع. حيث أن الفكر الصوفي يتميز بصفتين تساهمان في تكريس الحكم المطلق :
ـ فالوعي الصوفي هو وعي يعتمد على الزهد وعدم الخوض في المجال السياسي وصراع المصالح ما يؤدي إلى ترك الساحة فارغة وعدم مزاحمة السلطة عليها.
ـ زد على ذلك أن الفكر الصوفي يركز في دعوته على مكارم الأخلاق، متساهلا من ناحية تطبيق الشريعة مما يميز في أدبياتهم بين الحقيقة والشريعة، الشيء الذي يمنح للسلطة هامشا من المناورة لتمرير قوانينها وسياساتها (وعيها) دونما حاجة للدخول في صراعات تحت يافطة الزامية الشريعة.
من جانب آخر، يوضح عبد الله حمودي في كتابه (الشيخ والمريد)، أن بنية السلطة وآلياتها داخل الفكر الصوفي تكرس الخضوع والتقديس كسلوك لدى العامة، فينطبع ذلك على علاقة الحاكم بالمحكوم، والتي لا ترقى الى مرتبة علاقة واضحة بين طرفين متكافئين تؤطرها واجبات وحقوق، بقدر ما هي علاقة مبنية على التقديس والإجلال. فيكون فيها الحاكم بمثابة الأب الروحي الذي يسهر على مصلحة رعاياه بمبادرته الشخصية، خارج أي إلزامية أو محاسبة. ففي هذا الإطار تعتبر المراقبة سوء نية والمحاسبة إساءة والنقد مساسا بالقداسة، وبالتالي فهذه العلاقة تبقى غير خاضعة لآليات العقل من تحليل ونقد ومراجعة.
ينجم عن ذلك أن دور الرعايا ينحصر في التدافع والتنافس على خدمة السلطة خارج أي معيار من معايير الجدارة والاستحقاق سعيا لنيل رضاها والحصول على العطايا والهبات.
خـــــــــــــــــــاتمة
لا نعلم ما هي البدايات والشذرات الأولى للتصوف في بلاد المغرب، لكن الأكيد أن انتشاره لم يكن عبثيا بل بدعم من السلطة التي وجدت فيه ضالتها. فحسب إحصائيات تعود لسنة 2003 يضم المغرب 5471 ضريحا، و1588 زاوية، الشيء الذي جعل المغرب يلقب ببلد الأولياء مقابل المشرق الذي هو بلد الأنبياء. هذا الانتشار المتضخم للزوايا والأضرحة ومن خلالهما للفكر الصوفي ساهم في انتشار نمط تفكير غير عقلاني، ونمط سلوكي يعتمد على الخضوع والطاعة سواء في المجال السياسي (حاكم – محكوم) أو في مجال التعليم (معلم – تلميذ) أو داخل الأسرة (أب – أبناء).