متابعة

غزلان – الوجه الآخر لنتائج اللامساواة

◆ سارة سوجار

استيقظت‭ ‬جهة‭ ‬سوس‭ ‬ماسة‭ ‬على‭ ‬فاجعة‭ ‬وفاة‭ ‬عاملة‭ ‬زراعية‭ ‬أخرى،‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬الرابطة‭ ‬بين‭ ‬أكادير‭ ‬وتزنيت،‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬أصبح‭ ‬مألوفا‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الساكنة‭. ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬الضحية‭ ‬تلميذة‭ ‬بالسنة‭ ‬الأولى‭ ‬باكالوريا،‭ ‬فرضت‭ ‬عليها‭ ‬ضائقة‭ ‬العيش‭ ‬الاشتغال‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬البلاستيكية‭ ‬الزراعية،‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مدخول‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬مصاريف‭ ‬الدخول‭ ‬المدرسي‭ ‬لهذه‭ ‬السنة‭.‬

فقيدتنا‭ ‬غزلان،‭ ‬تربت‭ ‬في‭ ‬أسرة‭ ‬فقيرة‭ ‬في‭ “‬الزاوية‭” ‬بنواحي‭ ‬أكلو،‭ ‬وهي‭ ‬أخت‭ ‬عاملة‭ ‬زراعية‭ ‬و‭ ‬ابنة‭ ‬عاملة‭ ‬زراعية،‭ ‬باختصار‭ ‬أسرة‭ ‬استعبدتها‭ ‬طاحونة‭ ‬الإقطاع‭ ‬الزراعي‭. ‬كانت‭ ‬طفلة‭ ‬تحلم‭ ‬بتغيير‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المتوارث،‭ ‬لكي‭ ‬تصنع‭ ‬واحدا‭ ‬آخر‭ ‬تستطيع‭ ‬به‭ ‬تحقيق‭ ‬أحلامها‭ ‬و‭ ‬أحلام‭ ‬عائلتها،‭ ‬لكن‭ ‬قدرها‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬رأي‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬مشهد‭ ‬مرعب،‭ ‬أنهى‭ ‬حياتها‭ ‬وأحلامها،‭ ‬كما‭ ‬انتهت‭ ‬حياة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العاملات‭ ‬الزراعيات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭.‬

وأنا‭ ‬أتابع‭ ‬تراجيديا‭ ‬الواقع‭ ‬اليومي‭ ‬للعاملات‭ ‬الزراعيات،‭ ‬استحضر‭ ‬مقولة‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ “‬ويل‭ ‬لأمة‭ ‬تأكل‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬تزرع‭ ‬وتلبس‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭”‬،‭ ‬كلمات‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتساءل‭ ‬بحسرة‭ ‬وألم‭ ‬عن‭ ‬مآل‭ ‬ما‭ ‬ننتج‭ ‬وما‭ ‬نصنع‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وعن‭ ‬مدى‭ ‬استفادتنا‭ ‬منه‭ ‬أفرادا‭ ‬وجماعات،‭ ‬فهل‭ ‬لغزلان‭ ‬وأخواتها‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬هاته‭ ‬الثروة‭ ‬المحصورة‭ ‬بين‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الأيدي‭ ‬الآثمة‭ ‬؟؟‭.‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬أغلبية‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬المجال،‭ ‬أجمعوا‭ ‬على‭ ‬فشل‭ ‬النموذج‭ ‬الزراعي‭ ‬المغربي،‭ ‬وعلى‭ ‬فشل‭ ‬استراتيجية‭ ‬احتكار‭ ‬الأرباح‭ ‬والأسواق‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الرأسمال‭ ‬الأجنبي‭ ‬وبعض‭ ‬من‭ ‬الرأسمال‭ ‬المحلي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬ب‭ “‬مخطط‭ ‬المغرب‭ ‬الأخضر‭”‬،‭ ‬والذي‭ ‬رهن‭ ‬واستعبد‭ ‬عرق‭ ‬وقوت‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬المغربية‭ ‬للاستثمار‭ ‬الأجنبي‭.‬

تعاني‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬من‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬عدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشغل،‭ ‬بحكم‭ ‬الطبيعة‭ ‬الموسمية‭ ‬للعمل‭ ‬الزراعي،‭ ‬وبحكم‭ ‬تزايد‭ ‬الطلب‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬فيه‭ ‬خصوصا‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬القرى‭ ‬ومن‭ ‬الأحياء‭ ‬الهامشية‭ ‬بالمدن،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬المشغلين‭ ‬يستغلون‭ ‬هذه‭ ‬الوضعية‭ ‬الهشة‭ ‬والبنية‭ ‬الضعيفة‭ ‬لرقابة‭ ‬تنفيذ‭ ‬واحترام‭ ‬القانون،‭ ‬ما‭ ‬يفسح‭ ‬للإقطاع‭ ‬المجال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مضاعفة‭ ‬أرباحهم‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬هضم‭ ‬حقوق‭ ‬العاملات‭ ‬و‭ ‬العاملين،‭ ‬في‭ ‬انتهاك‭ ‬صارخ‭ ‬لأبسط‭ ‬حقوقهم‭. ‬ولا‭ ‬تملك‭ ‬هذه‭ ‬العمالة‭ ‬أي‭ ‬أداة‭ ‬للإنتاج،‭ ‬فلا‭ ‬أرض‭ ‬ولا‭ ‬آلات،‭ ‬لكن‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬تعتبر‭ ‬العنصر‭ ‬المحدد‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الإنتاج‭ ‬بحكم‭ ‬العمل‭ ‬الدقيق‭ ‬والمنهك‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭. ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬المضني‭ ‬الذي‭ ‬تتلقى‭ ‬العاملات‭ ‬مقابله‭ ‬أجرا‭ ‬هزيلا‭ ‬جدا،‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬50‭ ‬و75‭ ‬درهما‭ ‬لليوم،‭ ‬حسب‭ ‬تصريحات‭ ‬العاملات‭ ‬الزراعيات‭ ‬بمنطقة‭ ‬سوس‭ ‬ـ‭ ‬ماسة‭. ‬

تسجل‭ ‬المتابعة‭ ‬اليومية‭ ‬لهذا‭ ‬الملف،‭ ‬مشاهد‭ ‬بئيسة‭ ‬جدا،‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬المجتمع‭ ‬لهؤلاء‭ ‬النساء‭ ‬اللواتي‭ ‬تهاجرن‭ ‬بعائلاتهن‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬العمل،‭ ‬لكنهن‭ ‬تصطدمن‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬الوصم‭ ‬وأحكام‭ ‬القيمة‭ ‬الجاهزة‭ ‬والاحتقار‭. ‬مشاهد‭ ‬كذلك‭ ‬لحرمانهن‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حقوقهن‭ ‬الأساسية،‭ ‬خصوصا‭ ‬تلك‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتغطية‭ ‬الصحية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

الشهيدة‭ ‬غزلان،‭ ‬مثال‭ ‬حي‭ ‬لنتائج‭ ‬سياسات‭ ‬اللامساواة‭ ‬والتهميش‭ ‬التي‭ ‬تنهجها‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬والتي‭ ‬أنتجت‭ ‬أساسا‭ ‬منظومة‭ ‬استغلال‭ ‬وإفقار‭ ‬مضاعفة‭ ‬تجاه‭ ‬النساء‭ ‬العاملات‭ ‬الزراعيات‭. ‬تتحدث‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬تقارير‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬عن‭ ‬التمييز‭ ‬المركب‭ ‬الذي‭ ‬تعيشه‭ ‬هذه‭ ‬الفئة،‭ ‬بحكم‭ ‬انتمائها‭ ‬لطبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬مهمشة،‭ ‬وبحكم‭ ‬كونهن‭ ‬نساء‭ ‬تعيشن‭ ‬هشاشة‭ ‬الفقر‭ ‬وخطر‭ ‬التعرض‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬الاستغلال‭ ‬الجنسي‭ ‬دون‭ ‬حماية‭ ‬قانونية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية‭.‬

ان‭ ‬وفاة‭ ‬غزلان‭ ‬ومثيلاتها‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬مرتبطة‭ ‬بسياق‭ ‬العمل‭ ‬الزراعي‭ ‬الحالي،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬الشروط‭ ‬الدنيا‭ ‬للحماية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والقانونية‭ ‬ولظروف‭ ‬العمل‭ ‬الكريمة‭ ‬واللائقة،‭ ‬تعتبر‭ ‬الوجه‭ ‬الحقيقي‭ ‬للانهيار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والإنساني‭ ‬نتيجة‭ ‬سياسة‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬تكرس‭ ‬واقع‭ ‬التبعية‭ ‬والاحتكار‭ ‬والاستغلال‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬الوفاة‭ ‬المتجددة‭ ‬تجعلنا‭ ‬نحيي‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ملف‭ ‬الإصلاح‭ ‬الزراعي،‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يبنى‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬العمال‭ ‬والعاملات‭ ‬في‭ ‬الإنتاج،‭ ‬وذلك‭ ‬بفتح‭ ‬نقاش‭ ‬حقيقي‭ ‬حول‭ ‬السيادة‭ ‬الغذائية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬ومدى‭ ‬استفادة‭ ‬اليد‭ ‬العاملة‭ ‬المنتجة‭ ‬من‭ ‬أرباح‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬يعملون‭ ‬بها‭.‬

كوابيس‭ ‬الموت‭ ‬والعنف‭ ‬والاستغلال‭ ‬تجعلنا‭ ‬نساءل‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬حمايتها‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والقانونية‭ ‬لهذه‭ ‬الفئة،‭ ‬وعن‭ ‬مدى‭ ‬حمايتها‭ ‬كذلك‭ ‬لنمو‭ ‬وتطور‭ ‬الإنتاج‭ ‬المحلي‭ ‬وتحصينه‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬وهيمنة‭ ‬الاستثمار‭ ‬الأجنبي‭.‬

غزلان‭ ‬الحالمة‭ ‬بإتمام‭ ‬دراستها‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى،‭ ‬المنتمية‭ ‬بالصدفة‭ ‬للزاوية‭ ‬التي‭ ‬تعتبر‭ ‬مدرستها‭ ‬أول‭ ‬مدرسة‭ ‬عتيقة‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬غزلان‭ ‬المكافحة‭ ‬والباحثة‭ ‬عن‭ ‬قوت‭ ‬يومها‭ ‬وسط‭ ‬الحقول‭ ‬والمزارع،‭ ‬غزلان‭ ‬تغادرنا‭ ‬وتترك‭ ‬جرحا‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬المغاربة،‭ ‬غزلان‭ ‬عرت‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭  ‬الاجتماعي‭ ‬لبلد‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬المقدمة،‭ ‬لولا‭ ‬التسلط‭ ‬والقمع‭ ‬وسياسات‭ ‬اللاعدل‭ ‬واللامساوة‭ ‬التي‭ ‬تنهجها‭ ‬الدولة‭.‬

يبدو‭ ‬أننا‭ ‬مازلنا‭ ‬سنجفف‭ ‬دموع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمهات‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭. ‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى