أحمد بنجلون.. عندما يصبح التابوت عربة للنصر

◆ غريب محمد

  ‭ ‬يوم‭ ‬2‭ ‬فبراير‭ ‬حلت‭ ‬الذكرى‭ ‬السادسة‭ ‬لوفاة‭ ‬الفقيد‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬غيابه‭ ‬الجسدي‭ ‬فراغا‭ ‬كبيرا،‭ ‬يجعلنا‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬نشعر‭ ‬بحجم‭ ‬خسارة‭ ‬مناضل‭ ‬اجتمعت‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬مواصفات‭ ‬القائد‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬وفيا‭ ‬للمبادئ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬صارت‭ ‬فيه‭ ‬الانتهازية‭ ‬هي‭ ‬العملة‭ ‬الأكثر‭ ‬رواجا‭.‬

 

    ‬إن‭ ‬واجب‭ ‬الاعتراف‭ ‬والذاكرة‭ ‬يفرضان‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬ننسى‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬لهذا‭ ‬الوطن،‭ ‬ولقضية‭ ‬تحرر‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬والظلم‭ ‬والاستبداد‭.. ‬والدين‭ ‬الذي‭ ‬علينا‭ ‬اتجاهه‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬ذكراه‭ ‬حية‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يقال‭ ‬أن‭ ‬تضحيات‭ ‬عظماء‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬قد‭ ‬ذهبت‭ ‬سدى‭.‬

      ‬إن‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يفقد‭ ‬ذاكرته‭ ‬الجماعية،‭ ‬يفقد‭ ‬معها‭ ‬هويته‭ ‬الوطنية‭.. ‬وعندما‭ ‬ينسى‭ ‬الناس‭ ‬تاريخهم‭ ‬فإنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬منقطعين‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يحفزهم‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الظلم،‭ ‬والنضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‭ ‬وتصبح‭ ‬اللامبالاة‭ ‬والسلبية‭ ‬سلوكا‭ ‬مترسخا‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭.‬

      ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬مآسي‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬القصيرة،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يجر‭ ‬خلفه‭ ‬تاريخا‭ ‬حافلا‭ ‬بالأمجاد‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الاستعمار‭ ‬والظلم‭ ‬والاستبداد‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬من‭ ‬التردي،‭ ‬حيث‭ ‬تزداد‭ ‬بلادنا‭ ‬تراجعا‭.. ‬والأهداف‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬ضحى‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬عظماء‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬أصبحت‭ ‬بعيدة‭ ‬المنال‭.. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الواقع‭ ‬يزداد‭ ‬سوءا‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬الأفكار‭ ‬والآراء‭ ‬تخلفا‭ ‬أصبح‭ ‬أصحابها‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬أي‭ ‬حرج‭ ‬في‭ ‬ترديدها‭ ‬وبافتخار،‭ ‬مما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬التراجعات‭ ‬والهزائم‭.‬

      ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬للفقيد‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬قدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬اللغة‭ ‬لكي‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬أكثر‭ ‬الأمور‭ ‬تعقيدا‭.. ‬وأمام‭ ‬الانهيارات‭ ‬والخيانات‭ ‬كان‭ ‬يردد‭ ‬متأسفا‭ ‬عبارة‭ “‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نعرف‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬؟‭”.‬

    ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬سيضطر‭ ‬إلى‭ ‬نحت‭ ‬عبارات‭ ‬أكثر‭ ‬بلاغة‭ ‬للتعبير‭ ‬بدقة‭ ‬عن‭ ‬التردي‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬مجتمعنا‭.‬

من‭ ‬كان‭ ‬يتصور‭ ‬أنه‭ ‬سيظهر‭ ‬بيننا‭ ‬من‭ ‬يبتهج‭ ‬لقرار‭ ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬العنصري‭ ‬؟         

    ‬‭ ‬إن‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬زمن‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬وتشي‭ ‬غيفارا،‭ ‬والمهدي‭ ‬بنبركة‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬هي‭ ‬البؤرة‭ ‬التي‭ ‬تختصر‭ ‬مضمون‭ ‬الصراع‭ ‬القائم‭ ‬بين‭ ‬حركة‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والقوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليتفاجأ‭ ‬بالموقف‭ ‬الرسمي‭ ‬للنظام‭ ‬المغربي،‭ ‬لأنه‭ ‬يعرف‭ ‬جيدا‭ ‬طبيعة‭ ‬هذا‭ ‬النظام،‭ ‬ولكن‭ ‬أكيد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬سيتألم‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬كيف‭ ‬تم‭ ‬اختراق‭ ‬مجتمعنا‭.. ‬وكيف‭ ‬تحولت‭ ‬الصهيونية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬عنها‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ “‬المادة‭ ‬الكاشفة‭ ‬للفاشستية‭” ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الراهن،‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ “‬لأبناء‭ ‬عمومتنا‭” ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬المهرولون‭ ‬الذين‭ ‬أصبحت‭ ‬الرواية‭ ‬التوارثية‭ ‬مرجعا‭ ‬تاريخيا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭.‬

    ‬لقد‭ ‬كتب‭ ‬الفقيد‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬إن‭ ‬فلسطين‭ “‬كانت‭ ‬في‭ ‬الدم‭ ‬منذ‭ ‬النكبة‭.. ‬وهناك‭ ‬ندوب‭ ‬تحفر‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬محوها‭”.. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬وفيا‭ ‬لهذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬وانخرط‭ ‬في‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلح‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الفدائيين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬السورية‭ ‬والأردنية‭ ‬وكان‭ ‬مستعدا‭ ‬للموت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فلسطين‭ ‬لأن‭ ‬المبادئ‭ ‬لا‭ ‬تتجزأ‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يؤكد‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يسميهم‭ ‬ب‭”‬المتزلفين‭ ‬والمتملقين‭ ‬والانتهازيين‭”. ‬

ولكن‭ ‬كيف‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬؟‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬قدرنا‭ ‬المحتوم؟ 

    ‬‭ ‬كتب‭ ‬جورج‭ ‬أورويل‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬الشهيرة‭ “‬حظيرة‭ ‬الحيوانات‭” ‬أنه‭ “‬في‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬آجلا‭ ‬أم‭ ‬عاجلا‭ ‬إسقاط‭ ‬الطغاة،‭ ‬لأن‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الطبيعي‭ ‬للأشياء‭ ‬كانت‭ ‬دوما‭ ‬تواقة‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭.. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يضمن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬ستبقى‭ ‬من‭ ‬الثوابت‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الطبيعي‭ ‬للأشياء،‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬جدا‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬سلالة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬فاقدة‭ ‬لأي‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬أي‭ ‬تماما‭ ‬مثل‭ ‬إمكانية‭ ‬خلق‭ ‬سلالة‭ ‬من‭ ‬الأبقار‭ ‬بدون‭ ‬قرون‭”.‬

    ‬هناك‭ ‬فعلا‭ ‬محاولات‭ ‬حثيثة‭ ‬لتطويع‭ ‬الناس‭.. ‬ولكن‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬دوما‭ ‬تجري‭ ‬الأمور،‭ ‬والعمل‭ ‬السياسي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يسير‭ ‬أبدا‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬مستقيم‭.‬

    ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬يرفض‭ ‬تلك‭ ‬النظرة‭ ‬الطوباوية‭ ‬للنضال،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬التغيير‭ ‬ليس‭ ‬عملية‭ ‬صافية‭ ‬ونقية‭ ‬بالمطلق،‭ ‬ولكنه‭ ‬عملية‭ ‬‭ ‬معرضة‭ ‬لكل‭ ‬الاحتمالات‭.. ‬وأن‭ ‬الخيانات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدث،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحذر‭ ‬من‭ ‬أن‭ “‬النفس‭ ‬أمارة‭ ‬بالسوء‭” ‬وأن‭ ‬الهزائم‭ ‬ممكنة‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬معركة‭ ‬من‭ ‬المعارك‭.. ‬وهذا‭ ‬المنطق‭ ‬الجدلي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجعله‭ ‬يثور‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يزايد‭ ‬عليه،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬الثورية‭ ‬الصورية‭ ‬استعدادا‭ ‬للانقلاب‭ ‬على‭ ‬المبادئ‭ ‬عند‭ ‬أول‭ ‬امتحان‭. ‬لقد‭ ‬عايش‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تم‭ “‬استردادهم‭” ‬في‭ ‬آخر‭ ‬المطاف‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يقول‭.‬

      ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬جسد‭ ‬بنضاله‭ ‬وأسلوبه‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬على‭ ‬أن‭ “‬القائد‭ ‬هو‭ ‬تاجر‭ ‬أمل‭”.. ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬غيابه‭ ‬الجسدي‭.. ‬إنه‭ ‬التجسيد‭ ‬الحي‭ ‬لانتصار‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬النبيلة‭ ‬على‭ ‬الغرائز‭ ‬السفلى‭ ‬التي‭ ‬تحكمت‭ ‬في‭ ‬الطغاة‭ ‬بمختلف‭ ‬درجاتهم‭ ‬والانتهازيين‭ ‬بمختلف‭ ‬تلاوينهم‭.‬

      ‬لقد‭ ‬دخل‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬بابه‭ ‬الواسع‭ ‬وسيبقى‭ ‬حيا‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬كل‭ ‬الأحرار‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬وسيبقى‭ ‬اسمه‭ ‬خالدا‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬الجماعية‭ ‬يحفزنا‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى