أحمد حي بيننا

الثوريون لا يموتون

أين‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬ودع‭ ‬الوطن‭ ‬لاستكمال‭ ‬الدراسة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاش‭ ‬محنة‭ ‬العائلة‭ ‬نتيجة‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬أخيه‭ ‬عمر‭ ‬بالإعدام‭ ‬في‭ ‬مؤامرة‭ ‬16‭ ‬يوليوز‭ ‬1963‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬متشبعا‭ ‬بالفكر‭ ‬الثوري‭ ‬والقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬الرفيعة‭. ‬لذلك‭ ‬ترك‭ ‬الدرس‭ ‬وحمل‭ ‬السلاح‭ ‬لينخرط‭ ‬مقاتلا‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬الفلسطينية‭. ‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬مكللا‭ ‬بالورود‭ ‬استقبله‭ ‬الجلاد‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬المقري،‭ ‬حيث‭ ‬ذاق‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬التعذيب‭ ‬ليحال‭ ‬على‭ ‬السجن‭ ‬العسكري‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬محكمة‭ ‬الجنايات‭ ‬بمراكش،‭ ‬ليصدر‭ ‬في‭ ‬حقه‭ ‬حكم‭ ‬بالسجن‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭. ‬صادفت‭ ‬المحاكمة‭ ‬المحاولة‭ ‬الانقلابية‭ ‬الفاشلة‭ ‬لسنة‭ ‬1971،‭ ‬لذلك‭ ‬جاءت‭ ‬الأحكام‭ ‬مخففة‭. ‬وبعد‭ ‬إحالة‭ ‬المحكومين‭ ‬على‭ ‬السجن‭ ‬المركزي‭ ‬بالقنيطرة‭ ‬بدأت‭ ‬علاقتي‭ ‬تتوطد‭ ‬مع‭ ‬أحمد،‭ ‬بنجلون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭  ‬بخلاف‭ ‬بقية‭ ‬المعتقلين‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬إلا‭ ‬كتابا‭ ‬أو‭ ‬مجلة،‭ ‬وكان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نحتال‭ ‬لإيصالها‭ ‬له‭ ‬بتغيير‭ ‬العنوان‭  ‬أو‭ ‬استبدال‭ ‬الغلاف‭. ‬كنت‭ ‬آتي‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الرفاق‭ ‬من‭ ‬أسفي،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬نصادف‭ ‬آنسة‭ ‬تسبقنا‭ ‬أو‭ ‬تلينا‭ ‬ستصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬السيَدة‭ ‬حرم‭ ‬المرحوم‭ ‬أحمد‭ ‬بنجلون‭.‬

‭ ‬أفرج‭ ‬عن‭ ‬أحمد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬عقوبته‭ ‬كما‭ ‬أفرج‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حول‭ ‬حكمه‭ ‬من‭ ‬الإعدام‭ ‬إلى‭ ‬المؤبد‭. ‬لكن‭ ‬الأخوين‭ ‬لم‭ ‬ينعما‭ ‬إلا‭ ‬بلحظات‭ ‬لقاء‭ ‬محدودة،‭ ‬وقد‭ ‬ظل‭ ‬أحمد‭ ‬طيلة‭ ‬حياته‭ ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬طيور‭ ‬الظلام‭ ‬قد‭ ‬اختطفت‭ ‬منه‭ ‬لحظات‭ ‬الفرحة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يود‭ ‬أن‭ ‬يقتسمها‭ ‬مع‭ ‬الأسرة‭ ‬كلها‭ ‬باغتيال‭ ‬عمر‭.‬

أصبح‭ ‬بيت‭ ‬أحمد‭ ‬في‭ ‬زنقة‭ ‬الحسيمة‭ ‬محجا‭ ‬للمناضلين‭ ‬الذين‭ ‬يقاسمونه‭ ‬نفس‭ ‬الهموم‭ ‬وتجمعهم‭ ‬به‭ ‬نفس‭ ‬القناعات‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬الخفافيش‭ ‬ظلت‭ ‬تتحين‭ ‬الفرص‭ ‬لإيذاء‭ ‬أحمد‭ ‬ورفاقه‭ ‬فتوالت‭ ‬الاعتقالات‭ ‬كان‭ ‬آخرها‭ ‬اعتقال‭  ‬8‭ ‬ماي‭ ‬1983‭. ‬التقينا‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬حيث‭ ‬اكتشفت‭ ‬حقيقة‭ ‬الشخصية‭ ‬وظهرت‭ ‬لي‭ ‬بجلاء‭ ‬المواهب‭ ‬والمؤهلات‭ ‬التي‭ ‬ميزته،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اعتقالنا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جرم‭ ‬اقترفتاه‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رأي‭ ‬وتصور‭ ‬لمستقبل‭ ‬شعب‭ ‬ومصير‭ ‬أجيال‭. ‬حينها‭ ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الممارسة‭ ‬النضالية‭ ‬وإصدار‭ ‬التوجهات‭ ‬والاستعداد‭ ‬للممارسة‭ ‬المهنية،‭ ‬وقد‭ ‬أثبت‭ ‬جدارته‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات،‭ ‬لقد‭ ‬استبدل‭ ‬البندقية‭ ‬بالقلم،‭ ‬وامتهن‭ ‬المحاماة‭ ‬كما‭ ‬امتهن‭ ‬الصحافة،‭ ‬اشتغل‭ ‬في‭ ‬المحرر‭ ‬تم‭ ‬أصدر‭ ‬جريدتي‭ ‬المسار‭ ‬والطريق‭ ‬وعانى‭ ‬من‭ ‬مهنة‭ ‬المتاعب،‭ ‬كما‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬والإرهاب‭ ‬وقمع‭ ‬الحريات،‭ ‬فقد‭ ‬عشنا‭ ‬معه‭ ‬المعركة‭ ‬السياسية‭ ‬داخل‭ ‬اليسار‭ ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬مسخرة‭ ‬المسلسل‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬فتح‭ ‬المخزن‭ ‬باب‭ ‬التعويض‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬الرصاص‭ ‬بواسطة‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالإنصاف‭ ‬والمصالحة‭ ‬كنا‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬الذين‭ ‬رفضوا‭ ‬أن‭ ‬يتقدموا‭ ‬بطلبات‭ ‬التعويض‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬رفضنا‭ ‬إغلاق‭ ‬ملف‭ ‬القمع‭ ‬والإرهاب‭ ‬وهضم‭ ‬حقوق‭ ‬الملايين‭ ‬أشخاصا‭ ‬و‭ ‬جهات،‭ ‬وإيمانا‭ ‬منا‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬مصالحة‭ ‬دون‭ ‬كشف‭ ‬الحقيقة‭ ‬وكان‭  ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يستشهد‭ ‬ببول‭ ‬إلوار‭: “‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلا‭ ‬واحد‭ ‬فسيكون‭ ‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬أنا‭.”‬

استطاع‭ ‬أحمد‭ ‬ببعد‭ ‬نظره‭ ‬وحسه‭ ‬النضالي‭ ‬المرهف‭ ‬وبواسطة‭ ‬إسهاماته‭ ‬النضالية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬والنظرية‭ ‬أن‭ ‬يحول‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬راود‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المناضلين‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة،‭ ‬بتأسيس‭ ‬حزب‭ ‬الطليعة‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الاشتراكي‭ ‬كمكون‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬اليسار‭ ‬المغربي،‭ ‬وكاستمرار‭ ‬للحركة‭ ‬الاتحادية‭ ‬الأصيلة‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الميسورين‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتأخر‭ ‬عن‭ ‬دعم‭ ‬الرفاق‭ ‬وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬خلال‭ ‬سنة‭ ‬1997‭ ‬كان‭ ‬يجول‭ ‬المغرب‭ ‬طولا‭ ‬وعرضا‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬المناضلين‭ ‬الذين‭ ‬اعتقلوا‭ ‬بسبب‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬مقاطعة‭ ‬الانتخابات‭.‬

لأحمد‭ ‬بن‭ ‬جلون‭ ‬وجه‭ ‬آخر،‭ ‬فهو‭ ‬ابن‭ ‬لعامل‭ ‬وشقيق‭ ‬لقائدين‭ ‬نقابيين‭ ‬هما‭ ‬عمر‭ ‬وعباس،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬وحده‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬ارتباط‭ ‬أحمد‭ ‬بالطبقة‭ ‬العاملة‭. ‬إن‭ ‬اقتناعه‭ ‬بالفكر‭ ‬العلمي‭ ‬وبالدور‭ ‬الطلائعي‭ ‬للطبقة‭ ‬العاملة،‭ ‬جعله‭ ‬رفقة‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المناضلين‭ ‬ينخرط‭ ‬بحماس‭ ‬في‭  ‬اللجنة‭ ‬العمالية‭ ‬المتفرعة‭ ‬عن‭ ‬اللجنة‭ ‬الإدارية‭ ‬للاتحاد‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬ليكون‭ ‬أحد‭ ‬المنظرين‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬المؤطرين‭ ‬والمحضرين‭ ‬لميلاد‭ ‬الكونفدرالية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬للشغل،‭ ‬والتي‭ ‬ظل‭ ‬مرتبطا‭ ‬بها‭ ‬مدافعا‭ ‬عن‭ ‬معتقليها‭ ‬ومصححا‭ ‬لهفواتها‭. ‬لكن‭ ‬رغم‭ ‬قساوته‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬أحيانا‭ ‬فإنه‭ ‬ظل‭ ‬مرتبطا‭ ‬بها‭ ‬كإطار‭ ‬نضالي‭ ‬يوحد‭ ‬الطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد،‭ ‬ولعل‭ ‬خير‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الارتباط،‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬معتقلي‭ ‬إضراب‭ ‬20‭ ‬يونيو‭ ‬1981،‭ ‬لقد‭ ‬غاب‭ ‬أحمد‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬لأن‭ ‬الثوريين‭ ‬لا‭ ‬يموتون‭ ‬أبدا‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬المناضل‭ ‬جورج‭ ‬حبش‭ ‬القائد‭ ‬المؤسس‭ ‬للجبهة‭ ‬الشعبية‭ ‬لتحرير‭ ‬فلسطين‭.‬

‭ ‬مبارك‭ ‬المتوكل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى