متابعة

ركنُ بيتي حجر متصدّع

◆ عبد الحكيم برنوص

ربما‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬يستبطئ‭ ‬حلول‭ ‬المطر،‭ ‬إمّا‭ ‬تصريحا‭ ‬أو‭ ‬مداراة،‭ ‬خِفية‭ ‬أو‭ ‬إعلانا‭. ‬ينظرون‭ ‬بعيون‭ ‬متوجسة‭ ‬إلى‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار،‭ ‬وهي‭ ‬تبشرّ‭ ‬أو‭ ‬تنذر‭ ‬بالعارض‭ ‬القادم‭. ‬

هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬ليسوا‭ ‬تجارا‭ ‬من‭ ‬تجار‭ “‬الحرب‭” ‬والمصائب،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يجدون‭ ‬في‭ ‬كل‭ “‬مصيبة‭” ‬منفذا‭ ‬إلى‭ ‬تحصيل‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المال،‭ ‬والانتفاع‭ ‬مما‭ ‬يحلّ‭ ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬الناس‭ (‬الكمامات‭ ‬واللقاحات‭ ‬والمعقمات‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير‭…)‬،‭ ‬وليسوا‭ ‬من‭ ‬ذوات‭ ‬الدم‭ ‬البارد،‭ ‬أو‭ ‬عشاقا‭ ‬للمحْل‭ ‬واليبس‭. ‬بل‭ ‬هم‭ ‬ببساطة‭ ‬أناس‭ ‬يعيشون‭ ‬داخل‭ ‬الشقوق‭ ‬وتحت‭ ‬السراديب،‭ ‬ويقيمون‭ “‬حياة‭” ‬كاملة‭ ‬هم‭ ‬وذراريهم‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬والطلول‭. ‬فإذا‭ ‬جاء‭ ‬الماء‭ ‬المنهمر‭ ‬تهاوت‭  ‬فوق‭ ‬رؤوسهم‭ ‬تلك‭ ‬الجدران‭ ‬والألواح‭ ‬المُسندة‭ ‬والأسقف‭ ‬والجدران‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنقض‭. ‬

الدور‭ ‬الآيلة‭ ‬للسقوط‭ ‬أو‭ ‬المتداعية‭ ‬أو‭ ‬المشقوقة‭… ‬كلها‭ ‬تسميات‭ ‬متعددة‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬الدور‭ ‬الرادمة،‭ ‬التي‭ ‬تأبى‭ ‬عند‭ ‬انهيارها‭ ‬إلا‭ ‬تأخذ‭ ‬معها‭ ‬ساكنيها‭ ‬القدامى،‭ ‬تردمهم‭ ‬وتطمرهم‭ ‬وتدفنهم‭ ‬تحتها‭ ‬وتأخذهم‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬أخذ‭ ‬القبور‭. ‬

عندما‭ ‬تجود‭ ‬السماء،‭ ‬يفرح‭ ‬الناس،‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬النّاس‭.‬

‭ ‬فبينما‭ ‬تنفرج‭ ‬بعض‭ ‬الأفواه‭ ‬فرحا،‭ ‬تصطكّ‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬البرد‭ ‬والزمهرير‭. ‬وبينما‭ ‬يجلب‭ ‬كثير‭ ‬من‭ “‬عشاق‭” ‬الثلج‭ ‬والبياض،‭ ‬أولئك‭ ‬الذي‭ ‬يبنون‭ ‬من‭ ‬الثلج‭ ‬رجل‭ ‬الثلج‭ ‬البارد‭ ‬ويتقاذفون‭ ‬كرات‭ ‬الثلج‭ ‬كما‭ ‬يُفعل‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬الباردة،‭ ‬عندما‭ ‬يجلب‭ ‬هؤلاء‭ ‬معاطفهم‭ ‬المنسية‭ ‬في‭ ‬الأصوِنة‭ ‬المغبرة،‭ ‬ويحملون‭ ‬مطرياتهم‭ ‬وهم‭ ‬يرهفون‭ ‬السمع‭ ‬ويصيخونه،‭ ‬ينتشون‭ ‬بقطرات‭ ‬المطر‭ ‬تنقر‭ ‬مطرياتهم‭ ‬وزجاج‭ ‬مركباتهم‭ ‬نقرا‭ ‬لذيذا‭ ‬يجلب‭ ‬النعاس‭. ‬بينما‭ ‬يهجس‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬اللذيذ‭ ‬عند‭ ‬قوم،‭ ‬يحضر‭ ‬الكابوس‭ ‬والخوف‭ ‬والترقب‭ ‬عند‭ ‬أقوام‭  ‬آخرين‭. ‬

ليس‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬الصقيع‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬لوازمه‭ ‬من‭ ‬برد‭ ‬وبَرَد‭ ‬وثلج‭ ‬وزمهرير،‭ ‬وليس‭ ‬العتب‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬تدفأ‭ ‬حواسه‭ ‬في‭ ‬جو‭ ‬المطر‭ ‬والقرّ،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬يرَ‭ ‬قطّ‭ ‬ندف‭ ‬الثلج‭ ‬وهي‭ ‬تتمايل‭ ‬ساقطة‭ ‬فوق‭ ‬الأسقف‭ ‬الخشبية‭ ‬المهترئة،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬الصبية‭ ‬الصغار‭ ‬يرون‭ ‬الماء‭ ‬المتجمد‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬خارج‭ ‬الثلاجات‭  ‬المبردات‭.‬

‭ ‬إنما‭ ‬تكون‭ ‬التهمة‭ ‬وسباباتها‭ ‬المشيرة‭ ‬على‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ (‬ولا‭ ‬بنية‭ ‬فوقية‭ ‬معها‭ ‬طبعا‭) ‬المعدومة‭ ‬أو‭ ‬تكاد،‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬منسية‭ ‬متناسية،‭ ‬معاقل‭ ‬انتخابية‭ ‬موسمية،‭ ‬وممرات‭ ‬إلى‭ ‬الأماكن‭ ‬السياحية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬قليل‭. ‬فكلما‭ ‬حلّ‭ ‬البياض‭ (‬على‭ ‬قِلّة‭ ‬زيارته‭) ‬تذكّر‭ ‬الناس‭ ‬صنفا‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يطلّ‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬يشكو‭ ‬الزهمرير‭ ‬وقلة‭ ‬ذات‭ ‬اليد‭ ‬ويطلب‭ ‬المساعدة‭ ‬العجلى‭. ‬وكلما‭ ‬نزل‭ ‬الصقيع‭ ‬تتأبط‭ ‬عينة‭ ‬من‭ “‬المستكشفين‭” ‬عرباتها‭ ‬الضخمة‭ ‬وتنطلق‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ “‬النيزك‭” ‬الثلجي‭ ‬النازل‭ ‬الساقط‭.‬

‭ ‬موسم‭ ‬للاحتفال‭ ‬البارد،‭ ‬ومهرجان‭ ‬طقسيّ‭ (‬جاءت‭ ‬به‭ ‬تحولات‭ ‬الطقس‭) ‬تُستعرض‭ ‬فيها‭ ‬الألبسة‭ ‬القطنية‭ ‬والزلاجات‭ ‬والقفازات‭ ‬وأحدث‭ ‬أشكال‭ ‬النظارات‭ ‬السوداء‭ (‬طبعا‭)‬،‭ ‬وتبسط‭ ‬فيه‭ ‬الموائد‭ ‬الساخنة‭ ‬قرب‭ ‬صفحة‭ ‬الماء‭ ‬الباردة‭. ‬يحدث‭  ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬مساكن‭ ‬أشبه‭ ‬بالمغارات‭ ‬والكهوف،‭ ‬يُصورون‭ ‬أنفسهم‭ ‬ويملؤون‭ ‬ذاكرة‭ ‬الهاتف‭ ‬المُثخمة‭ ‬بمئات‭ ‬الصور،‭ ‬استعدادا‭ ‬لنشرها‭ ‬مساء‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ “‬الانفصال‭ ‬الاجتماعي‭” ‬إخبارا‭ ‬ومباهاة‭.‬

‭ ‬فمهما‭ ‬كونوّا‭ ‬من‭ ‬لِجن،‭ ‬ومهما‭ ‬تفرّع‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬لُجينات‭ ‬تراقب‭ ‬اللجان‭ ‬الأخرى،‭ ‬فلن‭ ‬نجد‭ ‬أحسن‭ ‬من‭ ‬الموسم‭ ‬المطير‭ ‬كشّافا‭ ‬ومعرّيا‭ ‬للكذب‭ ‬والرقّع‭ ‬والمنشآت‭ ‬المزورة‭. ‬المطر‭ ‬المنهمر‭ ‬والفيض‭ ‬الجاري‭ ‬مقياسان‭ ‬حقيقيان‭ ‬للوقوف‭ ‬على‭ ‬صلابة‭ ‬الأساس‭ ‬أو‭ ‬اهترائه‭. ‬فمهما‭ ‬تُدوري‭ ‬من‭ ‬غش‭ ‬ومهما‭ ‬تُغوفل‭ ‬الناس‭ ‬ومُكر‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬حين،‭ ‬فإنّ‭ ‬عودة‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬مجاريه‭ ‬الأولى‭ ‬لا‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬المستور،‭ ‬وتطيح‭ ‬بالدور‭ ‬و‭”‬الرؤوس‭” ‬التي‭ ‬أينعت‭ ‬وحان‭ ‬‭ ‬وقت‭ ‬سقوطها‭.‬

وفي‭ ‬الأخير‭ ‬يموت‭ ‬صاحب‭ ‬الردم‭ ‬شهيدا‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف،‭ ‬ويبقى‭ ‬المُخلّف‭ ‬شريدا‭ ‬طريدا‭. ‬لاجئا‭ ‬أو‭ ‬مضيّفا‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬الأقارب،‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬حائط‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ينقض‭ ‬بفعل‭ ‬المطر‭ ‬أو‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭. ‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى