الإنسان والحكاية – قراءة في كتاب: الإنسان وانسجام الكون – سيميائيات الحكي الشعبي – لـ «محمد حجو»
- ياسين معنان
صدر عن منشورات الاختلاف، سنة 2012م، كتاب: «الإنسان وانسجام الكون سيميائيات الحكي الشعبي»، للباحث المغربي محمد حجو، ويضم مقدمة وثلاثة أبواب، يتخلل كلَّ باب ثلاثة فصول، ثم خاتمة.
وإذا أمكن مقاربة الكتاب من زوايا عدة، مثل الحديث عن منهجه، أو منهجيته، أو مناقشة قضاياه، أو أسلوبه، أو نتائجه، أو… الخ، فإنني اخترت تناوله من زاويةٍ، أزعم أنها جوهر الكتاب وأساسه؛ وتتجلى هذه الزاوية في محاولة بيان العلاقة بين الحكاية الشعبية والإنسان، ثم العلاقة بين الإنسان والكون؛ الذي رأى الكاتب أنه منسجم، وهو اختيار فلسفي، سنتعقب الكتاب لكشفه، وبعد ذلك لمناقشته.
يعلن الكاتب منذ البداية أن بين الإنسان والكون رابطة، فالإنسان يقول الباحث «جزء من الكون، يتسامى ويحلم ويتخيل ويتقمص (…) والكون كمعطى من “الأشياء” الساكنة والمتحركة، فيتولد عنه الشعور بالاندماج أو الانسجام والتداخل، فالكون نسق واحد» (ص16)؛ ولأن الأمر كذلك، فأهمية الحكي الشعبي تأتي من كونه «يعبر عما هو شمولي، كوني وعام في علاقة الإنسان كذات عاقلة بالوجود» (ص17)، وهذا سبب في «إلغاء النسب الجغرافي للخرافات والحكايات بإلغاء موطنها المكاني، لئلا تنتسب في النهاية سوى للزمن» (ص 18).
وتتضح علاقة الحكاية الشعبية بالإنسان في فقرة نقلها الباحث عن غاستون باشلار، يقول فيها: «ماذا نقرأ حينما نقرأ الحكاية الشعبية؟ الجواب عن هذا السؤال لا يحتاج لكثير عناء، إذ الإحساس الأولي المباشر يدفع بالجواب كبداهة في ثنايا السؤال نفسه: إننا نقرأ ذواتنا؛ نلتفت إلى ما هو حميمي ولصيق بمكوناتها النفسية العميقة» (ص 23)، إننا نجد في الحكاية الشعبية طفولة البشرية، وعقلها الباطن. وهذا في نظر الكاتب «برهان قاطع على وحدة الفكر البشري وتقارب، وربما، تطابق البنى الذهنية للإنسانية منذ الأزل، وعبر سائر مراحل التاريخ والجغرافيا» (ص30). إن خريطة الحكاية، يقول الكاتب في سياق آخر، هي خريطة الأرض كلها، وتاريخُها، هو تاريخ اللغة.
وإذا كان هذا التجانس واضحا، فقد سعى الكاتب إلى بيان أن الحكايات لها نمط متقارب يصب في «اتجاه الكشف عن التجانس والملاءمة» (ص 139)، وذاك ما سعى لتبيانه في تحليله للحكايات الثلاث: مساعدة الأعمى – مائة صاحب وصويحب – الخاتم السحري.
إن الحكاية الشعبية تتجه للمستقبل، وإن جاءت من الماضي، فوظيفتها تقديم العبر، ثم يقف الباحث عند أمر يحير الألباب في الحكايات الشعبية، ويكاد يطرد، وهو تغلغل العددين “ثلاثة” و”سبعة” في الفكر البشري، ولعل الكاتب تأثر بذلك أيضا وهو يقارب هذه العوالم “المنسجمة”، فأفرد لكتابه ثلاثة أبواب، ولكل باب ثلاثة فصول.
إذا كانت دورة الحياة هي : الولادة – الحياة – الموت، وهذا مشترك بين الإنسان والحيوان والنباتات، فبطل الحكاية الشعبية أيضا يعرف في دورته السردية ثلاث محطات، يلخصها الباحث، في: «زمن الانسجام – زمن اللاانسجام – زمن الانسجام» (ص 166)، ويذهب الكاتب بعيدا، في استدلاله؛ إذ وجد أن الحكاية الشعبية، تجعل عالمي الإنسان والحيوان متداخلين، «حيث يكفي الإنسان أن يكون ماكرا ليكون ثعلبا، ويكفي الحيوان أن “يتكلم” ليكون إنسانا» (ص 237)، بل الأكثر من ذلك، يرتبط الإنسان بالنباتات، فالشجرة مثلا ترتبط بحياة الإنسان في حكاية الغولة، فحياة الأخت الصغرى رهينة بحياة الشجرة.
إن مدار الكتاب كله يدفع في اتجاه واحد، هو أن الحكايات الشعبية، يحكمها نسق واحد، وأنها تعبير عن طفولة البشرية ولا شعورها، فهي جزء منها ومن نمط فهمها للعالم، وأن الإنسان وعناصر الكون الأخرى، منسجمة. هذه العلاقة الجدلية تجعل من الحكاية الشعبية نصًاخالدا.
ويمكن بكثير من المجازفة القول، إن روح الفكرة (فكرة الكتاب) مستوحى من كتاب للباحث «محمد مفتاح»، عنوانه «الشعر وتناغم الكون – التخييل الموسيقى المحبة -»، والذي قال في مقدمته: «إن مقاربتنا في هذا الكتاب تستمد أصولها النظرية من هذا التراث الضخم الذي كانت تسيره وتوجهه فلسفة انتظام الكون؛ وهذه الفلسفة ذات التزام وجودي خاص من حيث وجود قوة قادرة محيطة، وذات تصور معرفي معين من حيث وجود نواة معرفية دائمة وأبدية، لكنها متلونة حسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وذات أبعاد علمية من حيث إن هناك تقدما وصيرورة، وذات أبعاد عملية من حيث إن كل ما في الكون من موجودات بينهما مشتركات تلزم بضمان حق الوجود لكل ما ومن هو موجود، مما يؤدي إلى التعايش والتساكن والتسامح…».
إن المدافع عن هذا الطرح (التناغم / الانسجام)، يرى أن موقع الإنسان في الكون مركزي، وهو موقع يقول محمد مفتاح «أكدته التصورات القديمة والدينية والصوفية والأدبية والفلسفية؛ فالإنسان خلق على صورة الرحمان، وهو خليفة الله في الأرض، وهو الإنسان الكامل، وهو الموجد للأشياء باللغة، وهو المؤثر في الكون بالفكر…»، ويحق لنا أن نتساءل اليوم عن الموقع الحقيقي للإنسان ضمن الكون؟ خصوصا بعد الذي أحدثه كوبرنيك من رجة تقول إن الأرض ليست مركزا للكون، بل هي مجرد جزء من عوالم قد تكون لا متناهية، ومن هنا ضرورة العودة لنداء سقراط بضرورة معرفتنا لنفسنا، ومنه لضرورة إعادة قراءة الحكاية الشعبية من منظور جديد.
إن الكون من المحتمل أن يكون أغرب بكثير مما يمكن للإنسان أن يدركه. وما الثورات العلمية إلا شاهد على كون الإنسان، ما هو إلا جزء بسيط جدا ضمن هذا الكون اللامتناهي.
ونضيف تساؤلا آخر، أليس من الحيف القول بوجود بنية داخلية مشتركة بين الحكايات الشعبية، دون مسح كلي للحكايات في العالم؟ وهذا يستتبع سؤالا آخر، هل يمكن تحقيق ذلك؟
يقول محمد أديوان في كتابه: «الثقافة الشعبية المغربية (الذاكرة والمجال والمجتمع)» إن «للحكاية الأمازيغية مجموعة من الخصوصيات البنيوية (على مستوى البنية السردية) تختلف عما للحكايات الأروبية والأمريكية (خاصة أمريكا اللاتينية) وحكايات الهنود الحمر والحكايات الروسية. فكل فضاء حضاري يخلق مكوناته الثقافية من خلال التفاعل الخلاق بين الإنسان ومحيطه»، وهذا تصور يخالف ما ذهب إليه محمد حجو، وهو الأقرب في اعتقادي للتحليل المادي؛ الذي يُرجع الإنتاج الأدبي والفني والثقافي للبنية الفوقية، التي تتغير بتغير البنية التحتية، فالاقتصاد هو محرك التاريخ، ثم يضيف قائلا: «لا يمكن التسليم بوحدة التوجه الحكائي ولا بوحدة البناء في الحكايات الصادرة عن مؤطرات حضارية وثقافية متباينة»، وواضح أن هذا تصور مباين لتصور محمد حجو الرائي أن الحكاية الشعبية لا نسب جغرافي لها، وإنما تنسب للزمن.
ختاما، نقول إن الحكاية الشعبية بغموضها، وتعدد مقارباتها فكريا ومنهجيا، هو ما يضمن خلودها، حتى في عصر الرِّقامَة.