المدرسة اليوم: مطلب اجتماعي أم رهان ثقافي – معرفي؟!

◆ ذ. عبد الغني عارف

لا‭ ‬أحد‭ ‬اليوم‭ ‬ينكر‭ ‬أن‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬يعرف‭ ‬تحولات‭ ‬عاصفة‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المستويات،‭ ‬خصوصا‭ ‬منها‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بالمعارف‭ ‬والقيم‭ ‬والرؤى،‭ ‬وهي‭ ‬تحولات‭ ‬تحدث‭ ‬تحت‭ ‬مسميات‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬ما‭ ‬يوصف‭ ‬راهنا‭ ‬بمجتمعات‭ ‬المعرفة،‭ ‬وهي‭ ‬مجتمعات‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬مخترقة‭ ‬برهانات‭ ‬ومصالح‭ ‬اقتصادية‭ ‬استراتيجية‭ ‬تتجاوز‭ ‬النظرة‭ ‬التقليدية‭ ‬للصراع‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العالمية‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬منابع‭ ‬الثروة‭ ‬والاستيلاء‭ ‬عليها،‭ ‬لتنفتح‭ ‬جبهات‭ ‬جديدة‭ ‬للصراع‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬ب‭” ‬المنابع‭ ‬الافتراضية‭ ‬والرقمية‭ ‬للثروات‭”‬،‭ ‬إذ‭ ‬أصبحت‭ ‬الثروة‭ ‬الحقيقية‭ ‬تتجسد‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬المعلومة‭ ‬وامتلاك‭ ‬المعرفة‭ ‬كشرط‭ ‬أساس‭ ‬لامتلاك‭ ‬السلطة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬امتلاك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تصريف‭ ‬القرارات،‭ ‬بل‭ ‬وفرضها‭ ‬على‭ ‬الأمم‭ ‬والمجتمعات‭ ‬الأخرى‭ ‬الفقيرة‭ ‬معرفيا‭.‬

إن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يبالغ‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬فنجده‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ “‬نهاية‭ ‬التاريخ‭” ‬وعن‭ ‬مرحلة‭ “‬ما‭ ‬بعد‭ ‬التاريخ‭”‬،‭ ‬وهي‭ ‬كلها‭ ‬تعبيرات‭ ‬مجازية‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬في‭ ‬تشكله‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري‭ ‬والعلمي‭ ‬مرحلة‭ ‬أصبحت‭ ‬تطرح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬بشأن‭ ‬المصير‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬والقرون‭ ‬المقبلة‭. ‬

ولعل‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يطرح،‭ ‬ضمن‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتفرعة،‭ ‬هو‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تأهيل‭ ‬العنصر‭ ‬البشري‭ ‬ليواكب‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬بأقل‭ ‬الخسارات‭ ‬الممكنة،‭ ‬أي‭ ‬عمليا‭ ‬بأوفر‭ ‬إمكانات‭ ‬النجاح‭ ‬والتفوق؟

في‭ ‬قراءة‭ ‬أولية‭ ‬وعامة‭ ‬لطبيعة‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الاستراتجيات‭ ‬التنموية‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬الرخاء‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬لهذا‭ ‬الرهان‭ ‬تكلفة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المالي‭ ‬أو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬بل‭ – ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الخطير‭ – ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي،‭ ‬وفي‭ ‬العمق‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الوجداني‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تشكل‭ ‬بنيات‭ ‬المجتمعات‭ ‬المعولمة‭.‬

ولأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬تنمية‭ ‬اجتماعية‭ ‬واقتصادية‭ ‬حقيقية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬الإنتاج‭ ‬المعرفي‭ ‬والفكري،‭ ‬فإن‭ ‬الرهان‭ ‬اليوم‭ ‬رهان‭ ‬مزدوج‭ :‬

‭ – ‬رهان‭ ‬معرفي‭ ‬مرتبط‭ ‬بتحديات‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أبعادها‭ ‬وبكل‭ ‬الطموحات‭ ‬المواكبة‭ ‬لها‭. ‬وهذا‭ ‬الرهان‭ ‬يستوجب‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المعرفة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬البيئة‭ ‬الرقمية‭ ‬المتجددة‭ ‬باستمرار،‭ ‬هي‭ ‬الوسيلة‭ ‬التي‭ ‬ستؤمن‭ ‬الدخول‭ ‬الحر‭ ‬إلى‭ ‬المعلومة،‭ ‬خصوصا‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬يصطلح‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬‭” ‬اقتصاد‭ ‬المعرفة‭ “‬؛

‭-  ‬رهان‭ ‬مجتمعي‭ ‬مرتبط‭ ‬بأفق‭ ‬بناء‭ ‬منظومة‭ ‬قيم‭ ‬تسمح‭ ‬بإرساء‭ ‬أسس‭ ‬المواطنة‭ ‬العالمية،‭ ‬بما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إمكانات‭ ‬دمقرطة‭ ‬فرص‭ ‬العيش‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجموعات‭ ‬والتوزيع‭ ‬العادل‭ ‬لخيرات‭ ‬المعرفة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬بين‭ ‬الشعوب‭ ‬والمجتمعات،‭ ‬وذلك‭ ‬ضمن‭ ‬منظومة‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬والاختيارات‭ ‬تؤطرها‭ ‬ثلاثية‭ ” ‬المعرفة‭ – ‬التنمية‭ – ‬الحرية‭ “.‬

إن‭ ‬تحقيق‭ ‬هذين‭ ‬الرهانين‭ ‬يطرح‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬مسؤولية‭ ‬رسم‭ ‬الأولويات‭ ‬التي‭ ‬تستجيب‭ ‬لطموحات‭ ‬الشعوب‭ ‬وتطلعاتها،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬تحديد‭ ‬العناصر‭ ‬الحاسمة‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬التحولات‭ ‬المجتمعية‭ ‬القوية‭ ‬والنوعية،‭ ‬تحولات‭ ‬تكون‭ ‬فيها‭ ‬المعرفة‭ ‬الإطار‭ ‬المرجعي‭ ‬لكل‭ ‬التغييرات‭ ‬التي‭ ‬ستمس‭ ‬باقي‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬محددات‭ ‬رهان‭ ‬التنمية‭ ‬الثقافية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستدعي‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬تنمية‭ ‬متناغمة‭ ‬الحلقات،‭ ‬تنمية‭ ‬تكون‭ ‬المعرفة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬العناصر‭ ‬المحددة‭ ‬لها‭ ‬والمؤطرة‭ ‬لامتداداتها‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تنمية‭ ‬مستدامة‭ ‬حقيقية‭ ‬بدون‭ ‬قاعدة‭ ‬معرفية‭ ‬صلبة‭.‬

هذا‭ ‬المدخل‭ ‬يتطلب‭ ‬ضرورة‭ ‬إدراج‭ ‬الشأن‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬النسق‭ ‬البيداغوجي‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬الجامعات،بكل‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اختيار‭ ‬توجيه‭ ‬مسارات‭ ‬التمكين‭ ‬والتأهيل‭ ‬وتقوية‭ ‬فرص‭ ‬الإنتاج‭ ‬المعرفي‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وإنشاء‭ ‬تخصصات‭ ‬جامعية‭ ‬تعنى‭ ‬أساسا‭ ‬بالنشاط‭ ‬الثقافي‭ ‬وبالهندسة‭ ‬الثقافية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬وأيضا‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬أولويات‭ ‬الفعل‭ ‬الثقافي‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬والتدخل‭ ‬المؤسساتي‭ ‬المؤطر‭ ‬للممارسة‭ ‬التربوية‭ ‬والثقافية‭ ‬فيه‭. ‬إنه‭ ‬اختيار‭ ‬استراتيجي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬التغيير‭ ‬عبر‭ ‬مدخل‭ ‬المعرفة،‭ ‬أي‭ ‬بناء‭ ‬مشروع‭ ‬مجتمعي‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬للإنسان‭ ‬المبدع‭ ‬وللفكر‭ ‬النقدي‭ ‬والسلطة‭ ‬العقل‭ ‬المكانة‭ ‬الأساس‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تهيئ‭ ‬التربة‭ ‬الوجدانية‭ ‬الملائمة‭ ‬والسماد‭ ‬المعرفي‭ ‬المناسب‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ضبط‭ ‬الهندسة‭ ‬الثقافية‭ ‬للمجتمع،‭ ‬بالمواصفات‭ ‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬آنفا،وذلك‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬سيرورة‭ ‬بناء‭ ‬هرم‭ ‬للمعارف‭ ‬قادر‭ ‬ردم‭ ‬الفجوة‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬المتقدمة‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬تصنف‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الدول‭ ‬السائرة‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النمو‭.‬

إن‭ ‬المدرسة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬مجرد‭ ‬مطلب‭ ‬يرسخ‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬التعلم‭ ‬ويقوي‭ ‬مشروعيته‭ ‬المجتمعية،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬أيضا‭ ‬الحاضنة‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬إمكانات‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬اللحظات‭ ‬النوعية‭ ‬للتحولات‭ ‬المأمولة،‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتطلبه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬شروط،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬ضرورة‭ ‬الثورة‭ ‬ضد‭ ‬منطق‭ ‬الاستكانة‭ ‬للأفكار‭ ‬والتصورات‭ ‬الجاهزة‭ ‬مسبقا‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬متجاوزة‭ ‬وغير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التفسير‭ ‬العلمي‭ ‬المطلوب‭ ‬للظواهر‭ ‬وعاجزة‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬أجوبة‭ ‬مقنعة‭ ‬لأسئلة‭ ‬العصر‭ ‬ولقضاياه‭ ‬الشائكة،‭ ‬والأخذ‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬بناصية‭ ‬العلم‭ ‬والعقل،‭ ‬باعتبارهما‭ ‬المختبر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لصناعة‭  ‬التقدم‭ ‬وتطور‭ ‬الحضارات‭.‬

‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الرهان‭ ‬الثقافي‭ ‬لمدرسة‭ ‬اليوم،‭ ‬وهو‭ ‬رهان‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬للمدرسة‭ ‬وظيفتها‭ ‬الأنوارية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تسريع‭ ‬وتيرة‭ ‬التغيير‭ ‬المنشود‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ثنائية‭ ‬تغيير‭ ‬الذهنيات‭ ‬وتحرير‭ ‬العقول‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى