الافتتاحية

العلاقة الجدلية بين السيادة الوطنية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية

افتتاحية العدد 338

في‭ ‬تصريح‭ ‬شهير‭ ‬للمفكر‭ ‬والمؤرخ‭ ‬المغربي،‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬العروي،‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ “‬المغرب‭ ‬جزيرة،‭ ‬بل‭ ‬وجزيرة‭ ‬محاصرة،‭ ‬وعلى‭ ‬المغاربة‭ ‬التصرف‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭”. ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬العميقة‭ ‬تشكل‭ ‬بالتأكيد‭ ‬خلاصة‭ ‬لقراءته‭ ‬لتاريخ‭ ‬بلادنا،‭ ‬وتجسد‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬الوضعية‭ ‬التي‭ ‬يوجد‭ ‬عليها‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬المغاربة‭ ‬شعبا‭ ‬ودولة،‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بحكمة‭ ‬وتبصر‭ ‬ورزانة،‭ ‬بل‭ ‬بذكاء‭ ‬استراتيجي‭ ‬يحدد‭ ‬بدقة‭ ‬المخاطر‭ ‬المحدقة،‭ ‬والفرص‭ ‬المتاحة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الانتقال‭ ‬المضطرب‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬أحادي‭ ‬القطبية‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬جديد‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬والقوى‭ ‬العظمى‭.‬

‭ ‬مناسبة‭ ‬هذا‭ ‬القول،‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬تتعرض‭ ‬له‭ ‬بلادنا‭ ‬من‭ ‬ضغوط‭ ‬وتحديات‭ ‬خارجية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬بسبب‭ ‬موقعها‭ ‬الجغرافي‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬وطموحها‭ ‬المشروع‭ ‬للتحول‭ ‬لدولة‭ ‬صاعدة‭. ‬إن‭ ‬ماحققه‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬لعلاقاته‭ ‬بدول‭ ‬غرب‭ ‬أفريقيا،‭ ‬ومنجزاته‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القطاعات‭ ‬الصناعية‭ ‬والبنيات‭ ‬التحتية،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الكلفة‭ ‬الباهضة‭ ‬ومشكل‭ ‬الحكامة،‭ ‬والإعداد‭ ‬لاتفاق‭ ‬إنجاز‭ ‬أنبوب‭ ‬غاز‭ ‬مع‭ ‬نجيريا،‭ ‬ومشروع‭ ‬بناء‭ ‬ميناء‭ ‬كبير‭ ‬بمدينة‭ ‬الداخلة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ميناء‭ ‬طنجة‭ ‬المتوسط،‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬جعل‭ ‬مُصدري‭ ‬الغاز‭ ‬لأوروبا‭ ‬مثل‭ ‬روسيا‭ ‬والجزائر‭ ‬يحاولون‭ ‬تعطيل‭ ‬المشروعين‭ ‬الأخيرين‭ ‬بأي‭ ‬ثمن‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ينبغي‭ ‬فهم‭ ‬التصعيد‭ ‬القوي‭ ‬لعداء‭ ‬الجارة‭ ‬الشرقية‭ ‬وتهديداتها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬ضغوط‭ ‬ألمانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وإسبانيا،‭ ‬لايمكن‭ ‬فهمها‭ ‬دون‭ ‬استحضار‭ ‬قلقها‭ ‬من‭ ‬تكرار‭ ‬التجربة‭ ‬التركية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬كما‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الأوربية‭. ‬وطبعا‭ ‬اعتبر‭ ‬تطبيع‭ ‬الدولة‭ ‬المغربية‭ ‬لعلاقتها‭ ‬بالكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬وإبرام‭ ‬اتفاقات‭ ‬أمنية‭ ‬وعسكرية‭ ‬معه‭ ‬بمثابة‭ ‬القشة‭ ‬التي‭ ‬قصمت‭ ‬ظهر‭ ‬البعير‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬القوى‭ ‬الحية‭ ‬بالبلاد‭ ‬رفضت‭ ‬التطبيع‭ ‬مع‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬تبعه‭ ‬من‭ ‬اتفاقات‭ ‬مخجلة‭ ‬ومهينة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬عمليا‭ ‬بلدا‭ ‬تابعا‭ ‬للمحور‭ ‬الصهيو‭-‬أمريكي‭. ‬

إن‭ ‬الموقف‭ ‬الصائب‭ ‬في‭ ‬رأينا‭ ‬يكمن‭ ‬بالضبط‭ ‬في‭ ‬الربط‭ ‬الجدلي‭ ‬بين‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬بكل‭ ‬أبعادها،‭ ‬وبين‭ ‬الديموقراطية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لإصلاح‭ ‬الدولة،‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬السيادة‭ ‬الشعبية‭ ‬والتداول‭ ‬السلمي‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية‭. ‬للأسف‭ ‬الشديد‭ ‬الهواجس‭ ‬الأمنية‭ ‬للمخزن‭ ‬تجعله‭ ‬يسقط‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬المحور‭ ‬الصهيوأمريكي،‭ ‬فيقدم‭ ‬على‭ ‬التطبيع‭ ‬وعلى‭ ‬إفراغ‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬محتوى‭ ‬ديموقراطي،‭ ‬وفرض‭ ‬تطبيق‭ “‬نمودج‭ ‬تنموي‭” ‬لاعلاقة‭ ‬له‭ ‬بانتظارات‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬شعبنا‭. ‬إنها‭ ‬قرارات‭ ‬خطيرة‭ ‬ومعاكسة‭ ‬لتطلعات‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬الفعلي،‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة،‭ ‬والنهوض‭ ‬الحضاري،‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬القوى‭ ‬الوطنية‭ ‬والديموقراطية‭ ‬توحيد‭ ‬طاقاتها‭ ‬وتكثيف‭ ‬مبادراتها‭ ‬النضالية‭ ‬وعملها‭ ‬المشترك‭ ‬لمواصلة‭ ‬النضال‭ ‬الديموقراطي‭ ‬الجماهري‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬السيادة‭ ‬الوطنية‭ ‬وعن‭ ‬مصالح‭ ‬الجماهير‭ ‬الشعبية‭ ‬الكادحة‭.‬

ولن‭ ‬يتأتى‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬المشترك،‭ ‬إلا‭ ‬بتملك‭ ‬تصور‭ ‬وحدوي‭ ‬لبناء‭ ‬اليسار،‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬مرجعية‭ ‬وتنظيمية‭ ‬متينة،‭ ‬تنهل‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الإنساني،‭ ‬وبالجراة‭ ‬في‭ ‬تحيين‭ ‬آليات‭ ‬اشتغالنا‭ ‬للإجابة‭ ‬العلمية‭ ‬على‭ ‬متغيرات‭ ‬الواقع‭ ‬وخركية‭ ‬المجتمع‭. ‬ولعل‭ ‬الندوة‭ ‬الفكرية‭ ‬التي‭ ‬نظمتها‭ ‬فيدرالية‭ ‬اليسار‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬مع‭ ‬المثقفين‭ ‬والمفكرين،‭ ‬تفتح‭ ‬آفاقا‭ ‬واعدة‭ ‬لمسار‭ ‬الاندماج‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬بخطوات‭ ‬تراكمية‭ ‬ورصينة‭ ‬لبناء‭ ‬قوة‭ ‬يسارية‭ ‬منظمة،‭ ‬الحزب‭ ‬اليساري‭ ‬الحديث،‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬إمالة‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬لصالح‭ ‬مطامح‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى