سلوك أُطرنا تجاه القضية الفلسطينية
بقلم : الشهيد عمر بنجلون - إعداد : يوسف بوستة
ونحن نعيش الذكرى 46 لاغتيال الشهيد عمر بنجلون، ننشر هاته الوثيقة التاريخية من تقديم الفقيد احمد بنجلون في ركن “على الهامش” بتوقيع “حمدون القراص” نشرت على أعمدة جريدة المسار عدد 52 الصادر بتاريخ 1986/12/17، حيث تمت إعادة ترجمة النص الأصلي لمقال الشهيد عمر الذي كتب بالفرنسية، “لأنه كان موجها بصفة خاصة الى الأطر المفرنسين… “وارتاينا ان نعيد ترجمة المقال للمزيد من الدقة والأمانة والإخلاص للنص”، كما يقول الفقيد أحمد، كما وضع له عدة هوامش للتذكير بالسياق التاريخي الذي كتب فيه هذا الموضوع. ونظرا لراهنية هذه المقالة وأهمتها التاريخية نقدمها للقراء، خصوصا مع استمرار نفس السلوك اليوم في الأوساط الديمقراطية واليسارية في ظل التطورات التي تعرفها القضية الفلسطينية وتزايد وثيرة التطبيع مع العدو الصهيوني.
مدخل : تعدد عناصر الالتباس
إن الغموض الإيديولوجي لم يكتس أهمية قصوى، ولم تكن له مضاعفات دراماتيكية بالنسبة إلى أ٢ّ بلد مستعَِر كما هو الشأن بالنسبة إلى فلسطين. وخلافا لجميع البلدان المستعَِرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإن شعب فلسطين قد َِف٩َ بمرحلة إضافية من النضال والتضحيات بالنسبة إلى جميع حركات التحرر الوطني.
ومن غير أن َّىُغّ كفاحات ما قبل 1948 وضمن العشرين سنة، المنظمة من لدن وجود هذا الشعب نفسه، فإن هذا الأخير ما فتئ منذ أربع سنوات يخوض معركة مسلحة من أجل أن يقنع قبل كل شيء الأوساط المدعوة بالمعادية للاستعمار بأن فلسطين هي وطن شعب، وبأن إسرائيل ليست سوى احتلال من النوع الاستعماري.
ولمعرفة بعض الالتباس الإيديولوجي ونتائجه على المشكل الفلسطيني، يكفي أن نأخذ جان بول سارتر (1)، الذي برهن عمليا عن عدائه للاستعمار وانحاز بصفة مطلقة الى جانب الشعب الجزائري خلال حربه التحررية، وكان هذا الرجل يساهم في المحاكم ضد الجرائم الإمبريالية في فيتنام، كما يدافع في نفس الوقت عن إسرائيل وعن سياسة موشي ديان(2)، الذي عاد من سايغون حيث جند عددا من الطيارين المجرمين المكلفين بٍَنبلة شمال الفيتنام. هذا المثال يوضح الى أي مدى أصبحت الأوساط المعروفة بمناهضتها للاستعمار في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومن ضمنها المفكرون الذين زعموا أنهم أعادوا النظر في كل مسلمات الإيديولوجية البورجوازية، وكيف أصبح هؤلاء جميعا وفي الواقع، سجناء البديهيات الكاذبة والمتراكمة منذ نهاية القرن 19، وكأنها جزء لا يتجزأ من فكر “اليسار”.
وفي الحقيقة يتعلق الأمر بسلسلة من الوقائع التي تمتد من قضية دريفوس(3)، إلى إبادة ملايين اليهود على أيدي النازية، وقائع خاصة بمجتمع أوروبا الغربية الرأسمالية التي أفرزت النازية ذاتها. فمساندة إنشاء إسرائيل ثم تصرفاتها، تشكل بالنسبة للعالم الغربي، بيمينه و”يساره” شكلا من إرضاء الضمير، وكلما توضحت حقيقة الصهيونية أكثر وضوحا، إلا وصعب تبرير المصير الذي لقيه الوطن الفلسطيني وشعبه بمجرد الحقد على النازية المنقرضة، فاضطر المجتمع الغربي ومنظرو الإمبريالية والصهيونية، إلى ابتكار نظريات متغيرة تبدو متناقضة بل متعاكسة، ولكنها ترمي في الواقع إلى نفس الهدف : تبرير وجود إسرائيل والحفاظ عليها.
ويمتد ذلك من “رأس الجسر الغربي” إلى النزعة السلمية” المناضلة لرودينسون(4)، مرورا بفكرة “الواقعية” والأمر الواقع، و”التنمية الاقتصادية الجهوية”. ويتعلق الأمر في الواقع “بالملاءمة المستمرة”، لمناهج التضليل وتزييف الحقائق.
وترتبط فعالية تلك الأساليب بالسيطرة المتصاعدة للشبكات الصهيونية على النشر والصحافة الغربيين، وخاصة منها المنعوتة باليسارية.
ومن ضمن ضحايا التكييف الإيديولوجي والثقافي يوجد أطر إفريقيا الشمالية، الذين تلقوا التعليم الكولونيالي البرجوازي الفرنسي، وتمكنت الأوساط الفرنسية المنعوتة بـ”اليسارية” من توجيه ذهنيتهم بسهولة أكثر نظرا للدعم الذي قدمته تلك الأوساط، للحركة الوطنية الشمال – افريقية، ونتذكر صرخة أحمد بن بلة(5) “نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب”.
ونتذكر مدى استغراب واستهجان عدد من المثقفين الشمال – افريقيين لهذه الصرخة، إذ تبنى كل منهم إحدى التفسيرات المغرضة التي نشرت في الصحافة الفرنسية.
وكان لا بد من صدمة يونيو 1967(6)، واندلاع المقاومة الفلسطينية ليبدأ اطرنا في إعادة النظر في البديهيات الكاذبة الخاصة بالثقافة الغربية، والتي تولدت عن وقائع تاريخية خاصة بالمجتمع الأوروبي، وقائع لا علاقة لنا بها على الإطلاق.
غير أن هذه المراجعة لا تنصب على ما هو أساسي، إذ أن التحليل والسلوك لدى أولئك الأطر، يقومان دائما على المفاهيم الغربية، و”الواقعية” التي تتجاهل الواقع الملموس، وعلى الموضوعية المزعومة التي تطرح جانبا الموضوع نفسه لما يسمى وبدون تمييز، بالصراع العربي / الإسرائيلي، وأزمة الشرق الأوسط والمشكلة الفلسطينية..الخ. إنها إعادة نظر تحصر في اعتبار المقاومة الفلسطينية كحدث جديد، ٢ُغ٢ّر المعطيات القديمة ويطرح المشكل الحقيقي، وهو وجود إسرائيل، ويتعلق بالتطور نفسه الذي عرفه منظرو الصهيونية واليسار الأوروبي.
إذ أنهم يتكيفون مع الوضع الجديد، وينددون بنسف المنازل، ويأخذون على ضحايا النازية استعمال أساليب النازية نفسها لحسابهم الخاص، وكل هذا لاقتراح اللقاءات وخلق لجان السلام والدعوة إلى الحلول “الفيدرالية والكونفيدرالية”(7) الخ. وهؤلاء التقدميون والثوار، وعلى رأسهم رودينسون ويوري أفنيري (ذلك النائب الإسرائيلي الشهير، والوطني الإسرائيلي الذي يدعي “مناهضة الصهيونية”(8)، هم الأداة الأكثر دهاء وفعالية لدى الصهيونية على جبهة الدعاية والتضليل.
لا أحد منهم يجادل في وجود إسرائيل ككيان، أو يطرح مشكل اغتصاب الوطن الفلسطيني، ويكتفون بمناقشة البنيات الحالية لإسرائيل، وبالتنديد بالسياسة التوسعيةلقادتها الخ..، وينتظرون منهم أن ينسلخوا عن الصهيونية لإقامة الدولة “المزدوجة القومية”، ومختلف أشكال التعاون والكونفدراليات…إلخ.
إنهم – أي اولئك التقدميون والثوار- بالنسبة للصهيونية وسياسة إسرائيل، ما كان أعضاء “الوعي الفرنسي” يمثلون بالنسية للحماية أثناء معركتنا وكفاحنا من أجل الاستقلال الوطني، “وعي فرنسي”،و”وجود فرنسي”: ظاهرتان تنشآن وتتعارضان حينما تزعزع المقاومة الشعبية المسلحة، وبشكل جدي الهرم الكولونيالي، جنين الفكرة الاستعمارية الجديدة، يتولد بلباس أبوية إنسانية ويفكر في المستقبل، ويعد وسائل الحفاظ على ما هو أهم، ويعارض المصالح المختلفة التي تعبر وحشيتها عن اليأس وعن الشعور بقرب النهاية.
وجود صهيوني وضمير صهيوني، يشكلان القرار الموضوعي لعمل يرمي إلى الحفاظ على ما هو مهم،”انني لا أريد شعبا ليبراليا ومناهضا للاستعمار ومسالما، لأنه سيكون شعبا ميتا”، ذلك هو جواب غولدا مايير لأحد الصحفيين الذي كان يتساءل بقلق عن اختفاء “قيم الشعب”، اليهودي بسبب الأساليب النازية الواضحة التي تستعمل ضد العرب، إننا نتساءل عن تلك القيم المزعومة لذلك الشعب المزعوم، الذي يرجع أساس وأصل وجوده نفسه إلى أكبر سرقة في التاريخ، وهي سرقة وطن بأكمله، واللص ليس له دستور ولا يريد الإفصاح عن حدود البلاد التي يريد السطو عليها، ويعلن القادة الإسرائيليون أن إسرائيل هي التي سترسم حدودها بنفسها.
من هو اليهودي الذي يدعي أنه مناهض للصهيونية، ويندد في نفس الوقت وبدون أي تحفظ بالسرقة، ويعيد النظر في وجود إسرائيل، دون ان يخصص الحيز الأكبر من خطابه أولا لتذكير تاريخي مطول حول المظالم التي تعرض لها اليهود، ثم مصير المليونين من اليهود المهاجرين(9).
وبهذه الطريقة وبفضل هذا المنهج الملتوي ينقلب المشكل ليصبح مطروحا على العرب وعلى الفلسطينيين وضحايا السرقة، نعم، لكن، نعم لكن… !، إنني اعترف بحق الشعب الفلسطيني بشرعية المقاومة الفلسطينية الخ، ولكن ما هو الحل؟.
إنكم لن تذهبوا الى القول مثل الشقيري(10)، إنه يجب “إلقائهم في البحر” !؟، وهكذا يكون قد تم الحفاظ عل المبادئ باستثناء المبدأ الأول منها كلها، ألا وهو ضحية السرقة المستمرة ليست هي المطلوب منها تقديم الحل الملائم.
ووجهة نظر كهذه تحافظ على نغمة الصدق ومظهر التماسك وحرارة الماركسية – اللينينية! ويبلغ ذلك درجة الروعة حينما يتدخل علم النفس والسوسيولوجيا، وحينما يحاول التقدمي المنعوت بمناهضة الصهيونية، أن يبرهن على أن “إسرائيل ليست امة” وهذا التقدمي بدلا من قلب المشكل الأساسي، ومن تقديم البدائل للضحية بدلا من المحال، يقدم خدمة لهذا الاخير بتحويل المناقشة وتغدية مناقشة مزيفة.
فكفاح دموي لشعب سلب منه وطنه ليستخدم كقاعدة للامبريالية وكنقطة تجمع للصهيونية، يتحول إلى موضوع للتاريخ القديم، ولكن لا يمكن أن نطلب أكثر من هذا من المثقفين اليهود، إذا كانت لدينا فكرة ولو أولية عن أساليب الضغط التي تمارسها الشبكات الصهيونية وبشتى الوسائل وفي كافة المجالات.
غير أن الأمر هنا لا يتعلق بأولئك ولا بذاتيتهم ولا بصدقهم كأفراد، فالهدف من الملاحظات السابقة هو إعطاء فكرة أولية عن تعدد عناصر الخلط التي تحيط بالمشكل الفلسطيني، وتحدد نظرة وسلوك المثقفين الشمال – افريقيين الذين تلقوا تكوينهم في المدرسة الراسمالية – الكولونيالية الفرنسية، ويتطلب منا ذلك معرفة :
1 – كيف أصبحت الصهيونية المستفيد من كل بديهيات الإيديولوجية البورجوازية السائدة، وخاصة تلك التي ترتبط بالأدب الكولونيالي الخاص ”بالتخلف”، وسيكون علينا أن نقف عند بعض الجوانب التي ليست خاصة بالمشكل الفلسطيني، إذا أردنا أن نكشف عن زيف تلك البديهيات.
2 – إن تلك البديهيات مكنت الصهيونية من التأثير المباشر على بلداننا وأطرنا، مستغلة في ذلك سواء الظروف الثقافية والتقنية والاقتصادية المرتبطة بالقوة الاستعمارية السابقة وبـ”يسارها”، أو الظروف الجغرافية والتاريخية (البعد والابتعاد بالنسبة لواقع الشرق الأوسط الذي لا نرى منه سوى المظاهر الخارجية والسلبية).
3 – وانطلاقا من ذلك، سيكون بالإمكان أن ندرك أن التطور اللاحق لسنة 1967، إذا كان قد ترجم بإعادة النظر في الأفكار السائدة، فإنه لم ينصب على الجوهر، فالغموض والخلط لا زالا يكتنفان المشكل الأساسي. فالانهزامية المسماة “واقعية” أو “موضوعية”، لازالت ترتكز على التشبت بالمظاهر، نظرا لكون الالتزام الى جانب الشعب الفلسطيني هو جزء من درجة الالتزام داخل حركة التحرر.
ا – الصهيونية هي المستفيد الأول من البديهيات الكاذبة للفكر الكولونيالي والنيوكولونيالي قبل يونيو 1967 وبعده
لنذكر بأننا بصدد إبراز مظاهر الايديولوجية الرأسمالية – البورجوازية الغربية في التصورات، وطريقة التفكير والسلوك تجاه القضية الفلسطينية لدى أغلبية أطر شمال إفريقيا ذوي الثقافة الفرنسية.
سنهتم أولا بكون تلك الثقافة قد لقنت لنا من خلال الأدب الكلونيالي والنيوكولونيالي الخاص ب”التقدم” ثم ب”التخلف”، لدرجة أن التصورات وطريقة التفكير التي تمارس على المشكل الفلسطيني، ما هي في الحقيقة، سوى جزء من السلوك الفكري والعملي لكل مثقف شمال – افريقي تجاه قضايا التحرر والاستعمار الجديد بصفة عامة.
وهذا الارتباط لا يمكن ان ينجلي بوضوح، إلا إذا عززنا هذا التحليل بأمثلة ملموسة، تبرز مدى استمرارية البديهيات الكاذبة، التي يتكون منهة الفكر الاستعماري الجديد في الظرف الراهن.
ذلك أن الايديولوجية الغربية ككل”العلوم الانسانية” المرتبطة بها، هي وليدة نمط الاإتاج الرأسمالي وفي نفس الوقت بنية فوقية له، وتقوم بوظيفة تبرير هذا النمط، إذ أنها تقتصر على تحليل مظاهره الخارجية، أو دراسته على مستوى كل قطاع على انفراد، وذلك حتى تتلافى تفسير المبدأ الذي يحركه، والعلاقات الاستغلالية التي يقوم عليها كنظام شمولي.
والفضل الكبير لماركس، هو أنه جعل تلك الإيديولوجية محط نقاش مجددا، وكشف عن طابعها الوصفي الصرف والخادع، انطلاقا من هذا المبدأ الاساسي : “إن كل شكل من أشكال الظهور هو شكل من أشكال التستر”.
وعلى أطرنا أن يفكروا جيدا في هذه المقولة التي تعني أن الفكر البورجوازي، يركز الانتباه على الشجرة لاخفاء الغابة، وقانون الغاب الرأسمالي، ولكن يبقى أن هذا الفكر ونمط الإنتاج الرأسمالي الذي أفرزه، هو نظام متماسك له منطقه الخاص، ويتكيف باستمرار مع المعطيات الجديدة مع الاحتفاظ بتماسكه ومنطقه الخاص به.
بل إن تلك الايديولوجية الوصفية ليست هي التي لقنت لنا، وإنما نفاياتها وإفرازاتها الوضعية، من خلال التعليم الكولونيالي وبعده كل الأدبيات الاستعمارية الجديدة حول “التخلف”، وللمزيد من الوضوح ودون أن نبتعد عن موضوعنا، لننطلق من حدث دون أهمية تذكر، ولكنه يصور في نفس الوقت إلى أي حد لازالت بعض الألاعيب والأكاذيب الاستعمارية – التي مضى عليها خمسون عاما – تعتبر حقائق وبديهيات وسط المثقفين المغاربة. “قدماء تلاميذ معهد أزرو” المجتمعون في مؤتمر لهم في مطلع هذا الصيف، لم يوافقوا على اتخاذ موقف حول القضية الفلسطينية، إلا شريطة أن تثار هذه القضية ضمن قضايا أخرى مثل أنغولا وموزمبيق (11) الخ..، وهذا ليس للتأكيد على أن قضية فلسطين هي مشكل استعماري، بل لتاكيد عكس ذلك، على ان المشكل مشكل “عربي”، لا يهمهم مباشرة أكثر مما تهمهم غينيا المسماة بالبرتغالية (12).
وهذا المثال الأقصى الذي يجسد الانتهازية بشكلها البدائي، يبين أيضا وأكثر من ذلك إلى أي مدى أصبحت الصهيونية أول مستفيد في بلداننا من أنماط التفكير التي وضعها استراتيجيو الاستعمار، وإلى أي حد تتمكن من كسب حياد أطر بلداننا بل وتحالفها الموضوعي.
غير أن عواقب الفكر الرأسمالي الكولونيالي الأكثر خطورة بصفة عامة، تكمن في احتقار أنفسنا بأنفسنا كأمة عربية ونعت الانسان العربي بأشياء ناتجة في الواقع عن وضعية اختلقتها الامبريالية وتغذيها بواسطة أدواتها المحلية. فمن الذي لم يستمع إلى التعاليق المتشككة والمتحفظة التي يعلق بها المثقفون المغاربة على البلاغات العربية حول الخسائر الصهيونية؟، وحينما يلاحظ عليهم أنه من غير الطبيعي أن يثقوا بصفة منهجية بالأخبار الصهيونية، وأن يطعنوا في أنباء البلدان أو المقاومة العربية، وأن ذلك يشكل من الناحية الفكرية موقفا مؤيدا لإسرائيل، فالجواب يكون دائما هو : منذ 1967 لن أثق بهم (أي العرب). ومن هنا عملت جريدة «لوموند » على تشكيل رأي أولئك الأطر والتأثير عليه وتلقينهم « الواقعية والاعتدال” وتغذي فيهم الرغبة في إنهاء المشكل وفي “السلام”، وتثير المناقشات وتغديها حول “الحل أو حظوظ الحل” لما تسميه بالنزاع الاسرائيلي – العربي”.
وهذا المثال الثاني يوضح كيف أن الصهيونية لا تستفيد من أشكال التفكير التي أقامها الاستعمار فحسب، بل كذلك من الروابط الثقافية والتقنية واللغوية للبلاد مع القوة الاستعمارية السابقة، روابط تسهل نشر رسائل الإعلام التي تتغلغل الصهيونية وسطها أو تراقبها بدرجات متفاوتة (ناهيك عن علاقات الهيمنة والاستغلال الاقتصاديين التي تجعل من البلدان العربية نفسها قطاعا حيويا بالنسبة للصهيونية لتحويل الموارد المالية نحو إسرائيل). فالحديث عن تأثير البديهيات الكاذبة للفكر الرأسمالي – الكولونيالي على أطرنا فيما يخص المشكل الفلسطيني، يعني إذن طرح مشكل الاستعمار الجديد والامبريالية. هذا لأنه سواء على مستوى الحكومات أو الأفراد، فإن درجة الالتزام الى جانب الشعب الفلسطيني تعكس مباشرة درجة العداء للامبريالية، لأن الأحداث أرغمت الصهيونية أن تظهر أكثر فأكثر على حقيقتها ليس فقط كمحمية من طرف الامبريالية أو كأداة لها في الشرق الأوسط، بل أيضا كطابور خامس لها في دوائر أخرى وخاصة في إفريقيا. ويجب أن نعلم أن حركات التحرير في بعض بلدان إفريقيا الاستوائية تخوض معاركها اليوم تحت شعار « ضد الامبريالية والصهيونية ، لأنها تأكدت من أن المساعدين التقنيين » الإسرائيليين يعملون في الواقع في إطار استراتجية امبريالية إسرائيل هي أداتها .
ويؤدي بنا هذا كله إلى التطرق للمغالطات الأكثر خبثا وفعالية التي تتضمنها الأدبيات الاستعمارية الجديدة، والتي تم تبررها تحت اسم “التخلف”، وبفضلها تمكنت إسرائيل من انتزاع الاعتراف بها ومن إقامة مساعديها التقنيين، في العديد من الأقطار وأطر تلك البلدان ( وكذلك الشأن بالنسبة لأطرنا)، الذين تلقوا تكوينهم في مدرسة الأيديولوجية والاقتصاد السياسي البورجوازيين والوصفيين بصفة مطلقة، قد انخدعوا واقتنعوا بواسطة المظاهر ومنجزات إسرائيل واعتبروها مثالا للحل لمعضلات التخلف و « حلقاته المفرغة الشهيرة (13)، واهتموا بالشجرة التي تخفي الغابة وتجاهلوا أن إسرائيل تستهلك خمسة أضعاف مما تنتج بفضل الموارد التي سلب جزء هام منها من بلدانهم ذاتها.
فالصهيونية إذن هي المستفيد الأول مرة أخرى من البديهيات الآنية حول التخلف والتي نشرتها مجلة « العالم الثالث » وهي من الأدوات الأكثر دهاء وفعالية للاستعمار الجديد (وضمن إدارتها بالفعل عدد من الصهاينة المعروفين)، وهذه الأداة أوضح مثال لقدرة منظري الاستعمار الجديد على مواكبة تطور القوى التقدمية والتكيف معها، ولإقناع أطرنا “وتقنيينا” أكثر، فإنها تعلمهم الواقعية والمراحل التي يتطلبها تكسير الحلقات المفرغة للتخلف » وتؤکد في نفس الوقت أن هذا التكسير يقتضي الإصلاح الزراعي وبعض التأميمات الخ.
ويتعلق الأمر هنا بأساليب تنطلق من نفس المبدأ والجوهر في التكييف المستمر، لمنظري الصهيونية مع تصاعد حركة الرأي العام المعادية لإسرائيل. إذ أنهم يقترحون تأسیس لجان للسلام وينددون بالسياسة التوسعية لموشي ديان الخ .. وذلك للحفاظ على ما هو أساسي : وجود إسرائيل كدولة. ويتم تقديم المشكل طبعا وكأنه أزمة للشرق الأوسطه بين دول متجاورة وليس كقضية تحرير بلاد من البلدان.
ويتم تقديم التداخل بين قضية فلسطين والمقاومة الفلسطينية من جهة، وعلاقات إسرائيل بالدول المجاورة لها من جهة أخرى، كأنه حلقة مفرغة » أو دوامة مثلما يتم تقديم الترابط بين الزراعة والتعليم وميزان الأداءات لبلاد متخلفة، وكأنه حلقة مفرغة” أو دوامة.
فانقسام العرب وخطابهم يمثلان بالنسبة القضية الفلسطينية ما تمثله الديموغرافية الراكضة، أو المتصاعدة بالنسبة للتخلف، أي المبرر والجواب المستخدم في كل آن وحين. فالمبدأ یبقی هو هو : فلا نلومن سوی أنفسنا وعلينا أولا أن نصفي مشاكلنا نحن.
فهذه الطريقة في التفكير تتطابق بالضبط مع عملية التقني الذي يبحث بعمق عن التقنم، فكيف يمكن أن نشك في حسن نية من يقترح تأميم القطاعات الحيوية للاقتصاد والاصلاح الزراعي.
إذا لم تطرح الأسئلة حول الدور الحقيقي لتلك القطاعات وإذا لم نطرح بصفة شمولية مشكل استغلال البلاد !؟ فلا يمكن أن تدرك أن تأميم السكك الحديدية يخدم مصالح الرأسمال الاستعماري، لأنه يستمر في جرف المواد الأولية وإدخال المنتوجات المصنعة للبلاد. في حين أن الضحايا أنفسهم هم الذين يسددون العجز المالي أي جزءا من النفقات المخصصة لاستغلال البلاد .
كما أننا لا ندرك أن الإصلاح الزراعي أي توزيع أراضي المعمرين لا يضايق في شيء الرأسمال الاستعماري، لأن هذا الأخير يستمر في الحصول على المنتوجات بأسعار جد منخفضة، ويضمن في نفس الوقت الحفاظ على هذا الوضع على المدى الطويل. وتنطبق نفس الحالة على كل الإصلاحات والحلول التي تتمظهر بالوطنية والتنمية، لأن المشكل الأساسي لا يتم طرحه وهو مشكل طبيعة الكولونيالية ومسؤوليتها في النظام الاقتصادي والاجتماعي المعروف ب «التخلف »، وكل الجهود التي يبدلها منظرو الاستعمار الجديد ترمي إلى قلب وعكس المشكل بإقناع ضحايا الاستغلال الامبريالي بحجج “تقنية”، وبعض الأرقام المختارة، أن المسؤولية تقع على عاتقهم هم أنفسهم.
وهكذا فإن شعارات الواقعية والموضوعية المزعوم أنها علمية، والعقلانية التي تقوم عليها كل هذه الأدبيات، تصبح بالنسبة لإطرنا المعروفين ب “التقنيين”، مقاييس للتحليل والحكم والاستنتاج. وقد رأينا مثقفا عراقيا يكتب دراسة مرقمة تدعي أن على العرب قبل محاربتهم أو قضائهم على إسرائيل، أن يحلوا مشكل “التخلف” (دراسة منشورة في مكان بارز طبعا على صفحات جريدة لوموند).
ووجهة نظر كهذه بعيدة من أن تكون معزولة، لأن وضع المشكل بصفة “تقنية”، وبالأرقام مع الأخذ بعين الاعتبار للدعم اللامشررط الذي تقدمه الإمبريالية الأمريكية لإسرائيل وكذا لقوة الشبكات الصهيونية عبر العالم طريقة « واقعية » لطرح المشكل، طريقة الانهزامية التي تمتاز بميزة المنطق. ولكنها الطريقة الواقعية في التحليل التي يستعملها من يعتبر أن الكفاح ضد الإمبريالية غير مطروح، وأصبح تلميذ مجتهد للايديولوجية البرجوازية الوصفية، إن إسرائيل كقاعدة من القواعد الامبريالية.
إن الحضور الثقافي الإيديولوجي للاستعمار الجديد والصهيونية ببلداننا حضور واحد، ويؤثر مباشرة في فكر مثقفينا، فموقف أولئك المثقفين تجاه القضية الفلسطينية لا يمكن فصله عن موقفهم من القضايا الداخلية للتحرر الاقتصادي والاجتماعي والكفاح ضد الامبريالية وعملائها. ويجب القول إن ذلك التأثير كان أكثر فعالية لأنه مورس في ميدان ساهمت ظروفه التاريخية والجغرافية وأصداء الأحداث الخاصة بالشرق الأوسط في تغذية الخلط والالتباس واللامبالاة .
اا – اللامبالاة المستخفة ما قبل 1967 نتيجة لعمل الصهيونية المباشر منذ عشرين سنة، مقرونة بعدم إدراك ظواهر الشرق الأوسط الداخلية
لم تكتف الصهيونية بالاستفادة من الوجود الاستعماري الجديد ومن نتائجه المباشرة على فكر وسلوك أطرنا، بل إنها قامت ولا زالت تقوم بعملية تسميم مباشرة اكثر، وعرفت كيف تستغل الظروف الخاصة بشمال إفريقيا لتغذية اللامبالاة بجميع أشكالها، إزاء الشعب الفلسطيني، وكيف تغذي الخلط والالتباس بعد 1967. ولقد ساعدها عاملان أساسيان في عمليتها المباشرة هذه :
- من جهة لكون تلك العملية كانت تتم عن طريق الأوساط الفرنسية المسماة باليسار التي كانت تؤيد الحركة الوطنية من أجل الاستقلال.
- ومن جهة أخرى انعزال شمال افريقيا الذي ظل على هامش التحول الايديولوجي والسياسي الذي فجره إنشاء دولة إسرائيل.
وردود الفعل التي خلفتها صيحة أحمد بن بلا (نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب)، تعبر الى أي مدى استطاع هذان العاملان تحذير أطرنا لمدة عشرين سنة وتغذية احتقارنا لأنفسنا.
أ – عمل الصهيونية المباشر بواسطة اليسار الفرنسي:
لنقتصر على عرض تطور أساليب التضليل منذ إنشاء إسرائيل إلى حرب 1967، فالمرحلة الأولى التي تلت الحرب العالمية الثانية، هي التي سمحت بتقديم إسرائيل كعنصر تقدم بالمقارنة مع الإمارات والأنظمة الإقطاعية والقروسطية، والبلدان الاشتراكية نفسها تظاهرت بالاقتناع بهذا المنظور لاعتبارات استراتيجية ودبلوماسية جد معروفة، ولم يكن هناك ما يمنع الأدبيات والصحافة المسماة باليسارية من أن تتغني بفضائل «الاشتراكية المتميزة، والصافية المتمثلة في المستوطنات (كييوتزيم)»، وطلاب شمال إفريقيا كانوا ينخدعون لذلك، لأن الفرصة لم تتح لهم قط للاطلاع على أصول نشأة إسرائيل ومستوطناتها التي لا تمثل «اشتراکیتها» سوی تنظيم القاعدة المادية التي تتطلبها الوظيفة الموكولة للمستوطنات منذ إقامتها كقاعدة، لزرع الصهيونية بالقوة والتي لا تمت أساليب تنظيمها غلى «الاشتراكية» بأية صلة، غذ إنها أساليب إنتاج واستهلاك خاضعة للمتطلبات العسكرية، وكان لا بد لتلك القواعد أن تضمن استمراريتها في انتظار تكاثرها وفي انتظار فرصة تأسيس دولة اسرائيل، وبالتالي تطبيق الأساليب التنظيمية الخاصة بالثكنات العسكرية، وذلك في بلاد على طريق الخضوع للاحتلال الاستعماري، وبمجرد إنجاز هذه العملية واحتلال فلسطين كان من الضروري، أولا طمس مبدأ الاستعمار نفسه. فتم صنع تبرير “الاشتراكية المتميزة” المستمدة من مبادىء داوورد وعدالة سليمان، الشيء الذي سمح في نفس الوقت باستمرار وتغذية أسطورة التفاني وروح الرواد لدى المستوطنين الصهاينة).
ولقد كشف تأميم قناة سويس وعمل أولئك الرواد لصالح الاستعمار الفرنسي – الإنجليزي المنهار في اعتداء 1956 ضد الجمهورية العربية المتحدة، عن طبيعة تلك الاشتراكية المزعومة ووظيفتها الحقيقية. فكان لابد من تغيير الشعار وفي نفس الوقت تحويل الانتباه عن الهدف الحقيقي للعملية (العدوانية) فهي عملية كانت تستهدف القضاء على النظام الوطني الأوحد الذي تمكن من تسمية الحكم القروسطي للاقطاع وافتتاح سياسة تقدم. وهنا بدأت المرحلة الثانية، وهي مرحلة قدرة اليهود على تحويل الصحراء غلى جنة بالمقارنة مع العرب الجبناء والعاجزين، وتزامنت تلك المرحلة مع الحملة حول الأقليات اليهودية في البلدان العربية.
وقد وضع دانييل مايير (14) رئيس الرابطة الدولية لحقوق الانسان على المهدي بن بركة حينما عرض عليه هذا الأخير مشروع تأسيس فرع لرابطة حقوق الإنسان بالمغرب، شرطا مسبقا وهو : أن يندد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (15) أولا “بالحد من حق اليهود المغاربة في مغادرة البلاد، وأن يطالب بأن تسلم لهم جوازات سفر بدون تمييز ولا أية إشارة ذات طابع ديني”
ويجب القول إن أغلب المثقفين اليهود المغاربة الذين كانوا يدعون مناهضة الصهيونية كانوا يقومون بحملة مستمرة لتسهيل الهجرة المكثفة لليهود وذلك باسم « المبادىء »، إلى أن تم خنق الديمقراطية ببلادنا خنقا تاما وأعيد النظر في كل جوانب سياسة التحرر، الشيء الذي مكن من تصدير اليهود المغاربة تصديرا ديمقراطيا ومكثفا نحو إسرائيل (المراهقون أولا، ثم الشبان وبعدهم الآباء وذلك انطلاقا من مراكز للتجميع)، أما المسؤولون في تونس فلم يكونوا في حاجة إلى تدخلات المؤتمر اليهودي العالمي والمساومات الأمريكية للسماح بهذا التصدير وتشجيعه وذلك بدون شك لإزعاج عبد الناصر ! ).
أما المرحلة الثالثة لتكييف الدعاية الصهيونية الموجهة إلى بلداننا، فهي المرحلة التي عدد فيها «المعتدلون» التصريحات «الواقعية» التي توحي بالاعتراف بالواقع الإسرائيلي، بعدما ساعدوا هم أنفسهم على تقوية هذا الواقع، بسلبيتهم المتواطؤة أو بسياستهم النشيطة الموالية للامبريالية. وخلال هذه الفترة لم يعد الشعار هو اشتراكية المستوطنات أو عبقرية اليهود التي تحول الصحراء إلى جنة، بل نحيب مزدوج يمكن تلخيصه كالتالي. نحيب على الدول العربية التي تنهك نفسها في النفقات العسكرية بدل مواجهة مشاكل «التخلف»، نحيب على إسرائيل، تلك الدولة الصغيرة لرواد شجعان، يحيط بها أعداء تسلحهم موسكو، وذلك لأنه منذ عدوان 1956، بدأت الأنظمة الاقطاعية تسقط الواحد تلو الآخر .
فالامبريالية لم تعد تملي على كل حكومات المنطقة سیاستها، والقادة الصهاينة لم يتمكنوا بسهولة، وبدون حسيب أو رقيب من تحويل مجرى مياه نهر الأردن، وحملة الإعداد النفسي لعدوان 1956 بدأت في الواقع سنتين قبل ذلك التاريخ، وذلك بسبب تكاثر الأنظمة التقدمية في الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والعراق والجزائر الذين طرحوا ولأول مرة المشكل الحقيقي وهو تحرير فلسطين على أيدي الفلسطينيين أنفسهم . والفلسطينيون من جهتهم لم ينتظروا أن يطرح هذا المشكل، فمنذ فاتح يناير 1965 بادروا الى تفجير المقاومة المسلحة بنسف المنشآت المعدة لتحويل مياه الأردن، ولكن إلى حدود تلك الفترة، كان الأطر الشمال – افريقيون يتقبلون الشعارات الصهيونية الآنفة الذكر بسهولة، لأنهم كانوا يجدون فيها تأكيدا لحكمهم الشامل والتحقيري لبلدان الشرق الأوسط وشعبها وقادتها.
ب – عدم ادراك الظواهر الداخلية للشرق الأوسط
إن شمال – إفريقيا بحكم بعدها عن الشرق الأوسط، لم تعرف ظواهر التحول التي هزت الشرق الأوسط منذ صدمة 1948 (16). ولا نعرف من تلك الظواهر سوی جوانبها الخارجية والسلبية، كما كانت تنقلها الصحافة الغربية الموالية للصهيونية.
وتتلخص تلك الظواهر باختصار في ثلاث تيارات :
- الظاهرة الأولى :
الضباط الشبان الذين أدركوا وهم على جبهة فلسطين أن المسؤولين الحقيقيين في تأسيس إسرائيل هم اقطاعيات الخونة الحاكمين، وهذا ما كان يعبر عنه وبحق بعبارة “اسرائیل موجودة في القاهرة”، وبعد استلام السلطة على إثر انقلابات عسكرية وفي حين كان تكوينهم السياسي والإيديولوجي أوليا، فقد أراد الضباط المصريون الشباب، وبعدهم العراقيون والسوريون، أن يجعلوا من القضية الفلسطينية قضية دولة وجيشا رسميا. وقد سقطوا بهذه الطريقة في فخ العدو الذي كان يكرس كل جهوده لطرح المشكل كنزاع بين بلدان متجاورة، ولطمس حتى وجود الشعب الفلسطيني.
وبذلك كان منظور الطغمات العسكرية هذا يدفعها إلى القبول بحركة فلسطينية وتشجيعها شريطة أن تخضع لوصايتها، وأن تحتفظ هي نفسها (أي الطغمات العسكرية بالمبادرة واختيار التوقيت ( توقيت المعركة مع العدو). وكان هذا التوقيت رهينا طبعا باقامة جيوش مدربة الخ …
- الظاهرة الثانية :
هي ظاهرة الإخوان المسلمين التي فقدت حاليا من أهميتها، في حين كانت تمثل تیارا قويا وجد نشيط في السنوات ما بين 1948 و 1960، وكان هذا التيار يطرح المشكل بصيغة دينية وكواجب ديني يقتضي معركة مستمرة ولو كانت تفتقد إلى التنظيم وميؤوسا منها. والمبادرات التي كان يتخذها أدت به تدريجيا إلى التصرف كعدو للحكومات الحديثة العهد بالسلطة وإلى إهمال القضية الفلسطينية، للقيام بأعمال العنف ضدها (أي الحكومات)، والامبريالية التي كانت تتتبع هذا الواقع بكل اهتمام، لم تتردد في التدخل لتشجيع هذا التيار وبث “مساعديها التقنيين” إلى جانب قادة الحركة (الاخوان المسلمين)، الذين أصبحوا عملاء وأعينا للامبريالية من المحيط الى اندونيسيا.
- الظاهرة الثالثة:
ظاهرة “حزب البعث الاشتراكي”، وقد حاول مؤسسه ميشيل عفلق طرح المشكل الفلسطيني كجزء من معركة شاملة إيديولوجية وسياسية، على مستوى العالم العربي الذي سيؤدي تحوله الاشتراكي إلى التحرر من الاقطاع والصهيونية والاستعمار .
غير أن هذه الاشتراكية البعثية القائمة على الاستشهادات بالأمجاد السابقة والرافضة مسبقا لحقائق الاشتراكية العلمية، كان عليها أن تتنظم حتميا على شكل طوائف الكاربوناري (17) والخلايا، وأن تعمل وسط فئات اجتماعية محدودة وخاصة الانتلجنسيا والضباط العسكربون.
ولكن حزب البعث وضع نفسه كحركة على مستوى مجموع العالم العربي، مما أدى بمؤسسيه السوريين الى العمل على إقامة فروع بعثية في الأقطار العربية الأخرى، وكان كل من تلك التيارات الثلاثة يعارض التيارين الآخرين، في حين كان الشيوعيون العرب يكتفون من جانبهم بالتنديد بالبورجوازية الصغيرة الانتهازية اليمينية منها واليسارية. باستثناء العراق المجاور للاتحاد السوفياتي الذي ظل فيه الشيوعيون يشكلون ظاهرة ثانوية، لأن أمميتهم البروليتارية منذ 1948، ظلت مقتصرة على تبرير الدبلوماسية والاستراتيجية السوفياتيتين.
ولكن رغم البوليميك والصراعات فيما بينها، فان تلك التيارات الثلاثة كانت تكافح الاقطاع وكان لكل منها نصيبه في تصفية الأنظمة الاقطاعية، وبالتالي كان لا بد من تعزيز يقظة وتضامن الحكومات الاقطاعية التي بقيت متواجدة وكذا تحالفها مع الامبريالية.
ومن هذا كله لم يقتصر اهتمامنا سوى على المظاهر الخارجية وعلى البوليميك والانقسامات. ولقد تم عرض تلك الانقسامات دائما، وأبدا وكأنها ناتجة عن العقلية العربية وكأن اقطاعيا عميلا للامبريالية يمكنه أن يتوحد مع حركة تحررية. والأطر الشمال – افریقيون وهم يركزون على المظاهر الخارجية، فقد تعودوا على الحكم على الشرق الأوسط برمته وعلى الخلط بين الشعوب والحكوماته وعلى إقناع وتهنئة أنفسهم بكونهم « متفوقين و مختلفين» من حيث العقلية عن عرب الشرق الأوسط، العاجزين عن العقلانية والديكارتية، وفي الواقع لم يترك أولئك العرب اليسار الفرسي والثقافة الاستعمارية الجديدة الموحدين في نفس التضامن الفعال مع الصهيونية يؤثران عليهم، فموضوعية أولئك العرب هي أنهم عايشوا المشكل الفلسطيني مباشرة، ولم يتجردوا قط من ذاتيته الوطنية، التي بدونها لم يكن بوسعهم التفكير كوطنيين .
وكان لا بد من حرب 1967 كي تتم إعادة النظر، وهي إعادة نظر جزئية كما رأينا سابقا، ولم يكن ممكنا أن يتم الأمر على غير هذا الشكل نظرا لأشكال التفكير في الثقافة الرأسمالية الاستعمارية، ولعمل الإثارة الدائم الذي تقوم به الصهيونية سواء مباشرة أو بواسطة اليسار الفرنسي، وأخيرا لواقع العالم العربي الذي لم يكن أطرنا يهتمون إلا بمظاهره الخارجية والسلبية.
وقد أثار اندلاع المقاومة الفلسطينية وتطورها إعادة النظر في الأفكار الملقنة، غير أن الخلط ما زال قائما حول ما هو أساسي مع ما له من عواقب وخيمة، إذ أن الأمر لم يعد مجرد تضامن فكري وعاطفي بل معركة دموية ويومية
ااا – عناصر الخلط الجديد ونتائجها العملية الحالية
لقد ألححنا كثيرا على العناصر الإيديولوجية والثقافية الدائمة التي تحدد طريقة التفكير لدى أطرنا، وتبين كيف يمكن أن تستفيد منها الصهيونية لحد الان. وقد عملنا فيما بعد على توضيح المفاهيم التي تروجها الصهيونية من خلال اليسار الفرنسي قبل 1967، وكذا الأسباب التي تجعل أطر شمال افريقيا لا يستوعبون إلا المظاهر الخارجية والسلبية للظاهرة العميقة والتحررية التي هزت الشرق الأوسط منذ هزيمة 1947 - 1948.
والآن علينا أن نحلل النتائح الآنية والملموسة لهذا التكييف الأيديولوجي المستمر منذ 20 سنة، ونتساءل : لماذا بقيت الأغلبية الساحقة من أطرنا ذوي الثقافة الفرنسية على هامش المعركة ضد الصهيونية واسرائيل، وهي تغذي في نفس الوقت مناقشات لا نهاية لها حول أـخطاء الماضي القريب أو البعيد، وحول التكتيك وموازين القوى و « الحل » وحظوظ الحل، … الخ.
أ – أولا: المبدأ المحرك للتحرر الذي يحمل في طياته الحل ووسائل هذا الحل
سبق القول أن حرب 1967، ثم التطور السريع (والمدهش) للمقاربة الفلسطينية قد اثار إعادة النظر، كما سبق التأكيد أن إعادة النظر تلك لم تصب على ما هو أساسي. ويتعلق الأمر في الواقع بنفس التطور الذي عرفه الرأي العام الدولي والغربي، وقد عجل بهذا التطور السلوك المتعجرف لإسرائيل من جهة، وللصهاينة في بلدانهم المختلفة من جهة ثانية، وما نسميه بالأساسي هو الخلط الذي لا زال قائما حول الموضوع نفسه لما يسمی وبدون تمييز بالمشكل الفلسطيني أو أزمة الشرق الاوسط أو الصراع الإسرائيلي – العربي، وطالما بقي هذا الخلط قائما في ذهن الفرد العربي، فلن يكون سلوكه إلا مضرا للثورة الفلسطينية، وهذا ما يدركه جيدا الصهاينة والإقطاع العربي، مما أدى إلى جهودهما المتضافرة الرامية إلى تقديم “أزمة الشرق الأوسط” كنزاع بين دول متجاورة.
وحتى نعطي فكرة ملموسة عن النتائج الآتية والبعيدة لهذا الخلط الذي تتم تغذيته بعناية، لننطلق من المثال الفيتنامي، فكل الذين يساندون أو يدعون مساندة الشعب الفيتنامي في كفاحه لم يسمحوا لأنفسهم قط بمناقشة « واقعية » ذلك الشعب أو أحقية قراراته وأعماله. فالكل يكتفي بالإعجاب أمام قرارات وتضحيات بطل الشعوب وبالملاحظة أن ما يحفزها هو التشبث بالمبدأ الأساسي : الفيتنام ملك للفيتناميين أنفسهم، ولو أدى ذلك إلى إبادتهم جميعا.
والمبدأ يتضمن في نفس الوقت “الحل” والرسائل والتضحيات التي يقتضيها ذلك الحل، فالمناقشة تصب حول «الحلول» العملية والتاكتيكية التي يتطلبها تنظيم وتصاعد الكفاح ضد المعتدي، وهي حلول مستلهمة من التجربة المكتسبة نتيجة لمعرفة دقيقة لوسائل العدو وأساليبه، وفي نفس الوقت من عدالة القضية التي تحافظ على إرادة النصر وتعززها.
فالمبدأ يحمل في طياته «الحل» ورسائل بلوغه. وحينما يبلغ الكفاح مستوى معينا من التطور، فإن صفوف المعتدي هي التي تتولد فيها وتتكاثر المناقشات حول « الحل » وحول طريقة الاعتراف بحق الشعب المكافح، مع الحفاظ على ماء الوجه، وآنداك تتعمق النزاعات الداخلية وسط الغزاة وتبرز الخطوط الفاصلة بين “الحمائم و الصقور”، وبین “ضمیر فرنسي، ووجود فرنسي” وبين “ضمير صهيوني ووجود صهیوني” غير أن “الحمائم”هي جزء لا يتجزأ من المعتدي، وتفكر في مصالحه العليا والبعيدة الأمد ، وذلك هو الشأن بالنسبة للحركة التقدمية المزعوم أنها مناهضة للصهيونية، والتي يمثلها رودنسون والآخرون ، فدورهم كان أن ينقلوا نقاشا داخليا من صفوف المعتدي إلى صفوف الضحية أي الى الصفوف العربية وإنهم يتفوقون في ذلك جيدا.
وهذا ما أسميناه بعكس المشكل، وهو وضع مشكل “الحل” ليس على اللص بل على ضحيته، فالشعب الذي لا يعرف رودنسون ولا مجلة « عناصر» لا ينخدع لذلك ويسجل نفسه بالآلاف (14 الف مغربي) للتطوع للكفاح، وكذلك الشأن بالنسبة لذلك الطبيب المصري : الذي لا يتجاوز عمره 27 سنة والذي سقط شهيدا في ضواحي حيفا، أو ذلك الأمير الكويتي الذي بلغ درجة من الاقتناع أدى به إلى ترك أطفاله، وثرواته وحريمه، ليتلقى تدريبا عسكريا، ويتسلل إلى فلسطين ويؤدي القسم أنه سیموت فيها أو لا يخرج منها إلا وهو حامل لجواز سفر فلسطيني.
إنها قضية اقتناع أولا : فلسطين للفلسطينيين، والمبدأ المحرك الذي يحمل في طياته «الحل» ورسائل بلوغه. قضية تشبت بالمبدأ، وذاتية وطنية، وحقد تجاه الغازي وجريمته. ودون ذلك يبقى المنطق والتحليلات التاكتيكية مجرد وسيلة لتغذية خطب يستفيد منها الغزاة في صفوف الضحية. وتوجد تلك الخطب وسط الأطر المغاربة الذين يلزمون موقف المتفرج ولكنه متفرج مترقب وقلق لأنه واع بأنه عربي وأصبح خجولا أقل فأقل أن يكون عربيا.
”نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب”، لسنا نحن الذين علينا أن ننافس أو نضع علی أنفسنا المشكل المطروح على الصهيونية حول الخطر الذي يهدد وجود إسرائيل، أو أن نناقش “حل” المشكل المطروح على الغزاة، ومطالبة الثورة الفلسطينية بتحديد موقفها من ذلك “الحل”، ففلسطين للفلسطينيين بكل ما لتحرير بلاد مستعمرة من نتائج، ويبقي على المستعمر أن يقرر هل سيبقى أو يغادر، وأن يحدد هل هو مستعد وقادر على التكيف مع الوضع الجديد وما يقتضيه هذا الوضع. لماذا قد يكون المعمر اليهودي، المقيم بفلسطين مغايرا للمعمرين الذين استوطنوا قبل قرن من الزمن في الجزائر وغيرها ؟.
ومن الطبيعی أن تحاول الأوساط الليبيرالية بأوربا الغربية، ورجال أمثال جان بول سارتر إدخال بعض المتغيرات بحجة الواقعية واختلاف «السياق ».
ولقد بدأنا بالتعرض للأسباب الفكرية والتاريخية التي جعلت هؤلاء جميعا يرفضون أن يكون هناك تناقض بين مساندة هوشي مينه (18) وفي نفس الوقت مساندة موشي ديان اللذين يشخصان على التوالي التحرير والاحتلال الاستعماري. وعندما وضعت المقاومة الفلسطينية وعلى أرض الواقع المشكل الحقيقي، وحينما برز ذلك التناقض ومغزاه الحقيقي بشكل مفضوح، بدأت تلك الأوساط اللبيرالية وأولئك الرجال يلعبون على الكلمات ويتحدثون عن المشكل الفلسطيني كجزء وكنعنصر ملحق بأزمة الشرق الأوسط و « النزاع الإسرائيلي – العربي» .
وقد تمكنوا بفضل تأثيرهم الفكري من بث مناقشات لانهاية لها حول “الحل” في وسط أطرنا، ويقولون أن الأمر ليس ببساطة الفيتنام (19) ففلسطين ليست هي الفيتنام، و« العرب » ليسوا هم الفيتناميون وليست لهم تجربتهم ولا أدغالهم … ومن جهة أخرى .. فالأولاد الأمريكيون» لا ينتظرون إلا يوم العودة إلى ديارهم وليسوا كيهود فلسطين الذين “ظهرهم إلى البحر” . وأخيرا الفيتناميون لا يعانون من التدخلات والانقسامات بين حكومات الشرق الأوسط. ومن هنا يتم البحث عن « الحل » من خلال مشاكل الجامعة العربية واستراتيجية الاتحاد السوفياتي .. إلى درجة أن المقاومة الفلسطينية أصبحت «عنصرا جديدا » برز من خلال حرب 1967 وغير المعطيات ومنع حسين من التفاوض… فتولدت الحلقات المفرغة وتجسمت، أمام اليأس للوصول إلى أية نتيجة ويتم الرجوع وبلا وعي إلى المقاييس التي شكلتها عشرون سنة من التكييف الفكري، ولإرضاء الضمير يتم الانزواء في موقف المتفرج المترقب والقلق في نفس الوقت. لهذا ألححنا على كون إعادة النظر التي أثارتها 67، وعجل بها تصاعد المقاومة الفلسطينية، لا زالت جزئية ولا تنصب على ما هو أساسي، وطالما أن المبدأ المحرك ليس هو مسلمات الانطلاق، وطالما يتم البحث ومناقشة حلول غير التي يحملها ذلك المبدأ نفسه، سنبقى عربا من بين تقدميي أوربا وتقدميين أوربيين مبثوثين في الصفوف العربية لتغدية النقاش الدائر الذي كان من الواجب أن يدور في صفوف الغزاة، لكن الأمر هنا لا يتعلق إلا بالجانب الفكري للمشكل.
ب – نتائج عملية
لنؤكد أولا أن الالتزام الفكري إلى جانب الشعب الفلسطيني لن يكون له معنى إذا لم يترجم بحد أنني من المساهمة على جبهة الدعاية وتجميع الموارد المالية وفي العمل الذي أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى والرامي إلى رصد المصالح والأنشطة الصهيونية في بلادنا وفضحها ومحاربتها. ويطرح ذلك وبصفة أتوماتيكية “مشاكل حساسة مرتبطة بالسياسة الداخلية” !
ولنؤكد مرة أخرى أن درجة الالتزام إلى جانب الشعب الفلسطيني مرتبطة مباشرة بل إنها جزء لا يتجزأ من درجة الالتزام الفكري والعملي داخل حركة التحرر في الداخل والخارج (وفي بعض الحالات يتعلق الأمر بمصالح تخشى الهيمنة الصهيونية على بعض القطاعات الحيوية من النشاط الاقتصادي).
هذا، ويبقى أن التشبت بالمبدأ المحرك لكل عمل وطني تحرري الذي يحمل في طياته الحل ووسائل التحرير يقتضي فيما يتعلق بفلسطين نظرة شمولية واتخاذ موقف شمولی تجاه الاقطاع العربي التابع للامبريالية الذي يشكل موقفه السلبي المتواطىء السبب الحاسم لإنشاء إسرائيل. وكون حسین (20) يحاول خلال القمة الإسلامية (21)، تجنب ذكر وتأييد حق الشعب الفلسطيني أو يحاول أن يجعل مندوب الشعب الفلسطيني يتحدث انطلاقا من المقاعد المخصصة للأردن، فذلك معناه الاختيار بين معسكرین، بین منظورين، بين مجموعتي مصالح متناقضتين أي اختيار معسكر كل الإقطاعيين والرجعيين في العالم العربي الذين جعلوا من حسين بطلا، غداة 1967، وأظهروا كل حقدهم تجاه عبد الناصر وعملوا جاهدين على تقديم «أزمة الشرق الأوسط ، كأنها نزاع بين دول متجاورة. وجهود أسرائيل كلها ترمي إلى تغذية هذا الانطباع وهذا الخلط نفسه بتكثيف العمليات على الحدود والمطالبة بمبدأ التفاوض، الشيء الذي يسمح وفي نفس الوقت :
– بتجنب النقاش حول وجود إسرائيل وتقديم المقاومة الفلسطينية كظاهرة ثانوية تابعة وكعمل تكميلي لحرب المواقع او الاستنزاف التي تخوضها الجيوش العربيه الرسمية (22)..
- بتبرير الادعاءات الاسرائيلية المتعلقة بالمرتفعات الاستراتيجية والحدود الآمنة والمضمونة (23) وفي نفس الوقت مطالبة الدول العربية المجاورة بأن تلعب دور شرطة الصهيونية ضد الفلسطينيين (24)، وبدون تلبية هذه المطالب فلا حاجة لإسرائيل إلى اعتراف الدول العربية.
- بتكثيف العمليات الخاطفة على خطوط وقف إطلاق النار حتى يتم طمس الكفاح التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني وتطغى عليه “الاعتداءات ضد الدول العربية”.
ولا زالت الدول العربية ذات الحكومات الإقطاعية تلعب اللعبة وتحصر « طموحاتها » في تصفية آثار العدوان» (25)، رغم استمرار العدوان نفسه، مما يجعلها توصف بالاعتدال والواقعية.
وإذا أضيف هذا كله إلى الاعتبارات السياسية الدولية والتشاور بين القوى العظمی واستراتيجية الاتحاد السوفياتي المعروفة جيدا، فإنه سيعزز الوقائع التي تصبغ على الاشتباكات (العربية والاسرائيلية) كل مظاهر النزاع بين دول مجاورة. وبالتالي فإن دولة إسرائيل لها وجود وأنها في حالة حرب مع الدول العربية المجاورة ولا زالت تتلقى من الإمبريالية والشبكة الصهيونية العالمية ما يكفي من السلاح والمال لمواجهة جيرانها. هذا مع العلم أنه يجب اعتبار كون الوضعية الحالية تخالف جذريا ما كانت عليه منذ 18 شهرا (أي قبل يونيو 1967) حتى لو اقتصرنا على العلاقات وموازين القوى بين الدول.
فميزان القوة العسكرية يتغير بسرعة كميا وكيفيا إذا أردنا أن نتذكر أن جيش الجمهورية العربية المتحدة الذي لم يكن له وجود قبل عامين، قد نهج تدريجيا وبفعالية استراتيجية هجومية (26).
غیر أنه سواء تعلق الأمر بحرب مواقع أو حرب استنزاف، فإن تحرير فلسطين ليس قضية الجيوش العربية، وهذا ما لا تدعيه لا الجمهورية العربية المتحدة ولا سوريا ولا العراق ولا الجزائر ولا السودان ولا ليبيا، وفي نفس الوقت لا تزعم لا حكومات تلك البلدان ولا أية حركة تقدمية عربية بأن القضية قضية محو آثار العدوان»، أي الوصول إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة وترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره بنفسه. بل إنها تندد عكس ذلك بمن يزعم ذلك، وتتحدث عن تحرير الأماكن المقدسة، لتقول بالضبط نفس الشيء ولتقوم بنفس المناسبة بطمس طابع الكفاح المناهض للامبريالية.
فعلى الشعب الفلسطيني نفسه أن يحرر وطنه بما فيه الأماكن المقدسة، والإقرار بذلك هو أولا الاعتراف للشعب الفلسطيني بحق تحديد وسائل وأساليب تحريره، هذا طبعا مع اعتبار أن تحرير فلسطين هو مشكل مطروح كواجب قومي ووطني. مما يؤدي إلى ضرورة الاعتراف للشعب الفلسطيني المطرود من أرضه بحقه واعتبار كل قطعة من الأرض العربية كقاعدة للإعداد والتنظيم المادي والعسكري للمعركة. ويقتضي ذلك أن يطرح مشكل الارتباط بين تحرير فلسطين على يد الشعب الفلسطيني من جهة، والمواجهة العسكرية بين دولة إسرائيل والدول العربية المجاورة لها من جهة أخرى، كالتالي :
- الوجود نفسه لدولة اسرائيل هو الذي يشكل العدوان الحقيقي، وهو العدوان الأصلي الذي تسبب في النزاع الحالي (كيفما كانت التسمية التي نسميه بها).
- إن هذا العدوان كان ولا يزال يشكل جزءا من الاستراتيجية الإمبريالية المتبعة في الشرق الأوسط لخلق وتأبيد وضع ملائم لاستغلال الخيرات البترولية.
- نتيجة لذلك، يقتضي تحرير فلسطين زوال دولة إسرائيل، أي الكفاح ضد الإمبريالية على صعيد العالم العربي.
فوضع المشكل بهذا المنظور لا يشكل تطرفا أو اعتدالا أو واقعية أو مثالية. بل إنه بكل بساطة الموضوعية الأولية التي تعاين وقانع لا جدال فيها ولا يجادل فيها أحد، والمتمثلة في عرض بعض البديهيات ولكنها بديهيات غير كاذبة.
ويجب قبل كل شيء التحرر من البديهات المرتبطة بالفكر الاستعماري الجديد، والنظر إلى الظواهر الداخلية للشرق الأوسط دون الوقوف فقط على الجوانب الخارجية والسلبية، ولقد ألححنا كثيرا على ذلك لنبين أن تحرير فلسطين، والتحرير فحسب، يقتضي أولا تحرير الفكر : أي المراجعة الشاملة في البداية للمفاهيم القائمة على الإيديولرجية البورجوازية الوصفية، وفي نهاية المطاف أن مسؤولية الأطر وسلبيتهم تجاه القضية الفلسطينية، هي جزء من السلوك الشمولي، الفكري والعملي إزاء حركة التحرر بصفة عامة.
الهوامش :
(1) الفيلسوف والكاتب الفرنسي الوجودي المشهور والمعروف بميولاته اليسارية وبعدائه الفعال للاستعمار والامبريالية، في نفس الوقت “تعاطفه” مع الكيان الصهيوني الذي تأكد بعد نكسة 1967 وخاصة من خلال عدد خاص لمجلة “الأزمنة الحديثة” التابعة لتيار جان بول سارتر والتي كان يشرف عليها عدد من الصهاينة وعلى رأسهم كلود لازمان.
(2) وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق الذي قاد حملات الغزو في الأرض العربية سواء في 1956 أو 1967، ساهم فعلا في العدوان على الشعب الفيتنامي على رأس فريق من الطيارين والجنود الصهاينة .
(3) الضابط الفرنسي ذو الأصل اليهودي الذي اتهم بالخيانة لأسباب عنصرية في النصف الثاني من القرن الماضي . فانقسم الرأي العام الفرنسي حول هذه القضية؛ قسم يدافع عن دریفوس وعلى رأسه الكاتب الروائي الشهير إميل زولا ، والقسم الثاني يطالب بإدانته.
(4) ماكسيم رودنسون : المستشرق الفرنسي من أصل يهودي معروف بتعاطفه مع العرب والفلسطينيين، وفي نفس الوقت بتعاطفه مع “الشعب اليهودي” في إسرائيل، ومن دعاة حلول الإخاء والوئام بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في إطار دولة اسرائيل.
(5) أول رئيس جمهورية للجزائر المستقلة أطيح به في انقلاب 19 يونير 1965 بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين. ومن الطريف التذكير بأن صيحة بن ہلا كانت باللغة الفرنسية للتعبير عن تشبث الشعب الجزائري بهويته العربية الإسلامية التي حاول الاستعمار الفرنسي محوها طيلة 130 سنة.
(6) حرب الأيام الستة التي اندلعت يوم 5 برنیر 1967 انهزمت فيها الجيوش العربية المصرية والسورية والأردنية أمام القوات الصهيونية، مما أدى الى احتلال سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان من طرف إسرائيل.
(7) اتفاق عمان لفبراير 1985 لم يكن الوحيد من نوعه فقد سبقته عدة مشاريع «سلام » وعلى رأسها مشروع روجرز الذي تلى نكسة 1967 بالاضافة إلى القرارات الأممية 242 و 338 وما شاكلها .
(8) نفس الشخص هو الذي عقد عدة اجتماعات فيما بعد مع القادة الفلسطينيين دون أن يكون لتلك اللقاءات أي تأثير على الموقف الإسرائيلي، بل بالعكس مواقف العرب إزاء العدو الصهيرني هي التي تغيرت. مما يجعل ملاحظة الشهيد عمر بنجلون في محلها حول افنيري وأمثاله، والأحداث بعد 16 سنة أكتت صحة تحليله.
(9) المهاجرين اليهود إلى فلسطين.
(10) أحمد الشقيري : أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية صرح لأجهزة الإعلام الغربية سنة 1967، أن العرب سيلقون باليهود المتواجدين بفلسطين المحتلة في البحر . وكان معروفا رحمه الله بمزايداته الكلامية وغالبا ما يسقط في فخ الإعلام الذي كانت الصهيونية تسيطر عليه سيطرة شبه مطلقة وتستغل هذا النوع من التصريحات لفائدة إسرائيل.
(11) من المستعمرات البرتغالية آنذاك والتي حصلت على استقلالها أربع سنوات بعد كتابة هذا المقال.
(12) نالت استقلالها ايضأ سنة 1975 على إثر ثورة القرنفل بالبرتغال.
(13) سبق للشهيد عمر بنجلون أن حرر وثيقة حزبية وألقى عدة عروض حول مشاكل “التخلف” والهيمنة الامبريالية وسبل التحرر منها. وفي هذا السياق جاء مفهوم الحلقات المفرغة » ( Cercles vicieux ) أو دوامة التخلف والتصوير الذي صور به الشهيد العلاقة بين بلاد المركز وبلاد الهامش في علاقة البناية التي تزداد علوا كلما ازدادت المحجرة، ( منجم استخراج حجر البناء) حفرا.
(14) دانيل مايير : من اليسار الفرنسي (الحزب الاشتراكي)، رئيس سابق للرابطة الفرنسية لحقوق الانسان، معروف بدعمه وموالاته اللامشروطة لاسرائيل. اشتهر بصيحته في إحدى المهرجانات التضامنية مع الكيان الصهيوني بباريس أثناء حرب 1967 حينما صرح قائلا : “إنني أخجل أن أكون فرنسيا لكنني لا أخجل أن أكون يهوديا!..”
(15) الاتحاد الاشتراكي حاليا، وكان الشهيد المهدي بن بركة الذي هو غني عن كل تعريف، قائده الفذ وبدون منازع.
(16) سنة استيلاب فلسطين والاعلان عن دولة إسرائيل.
(17) نسبة إلى حركة غاربالدي، زعيم الانتفاضة الثورية الإيطالية في القرن الماضي.
(18) هوشي منه مؤسس حزب العمل الفيتنامي، وكاتبه العالم، ورئيس جمهورية فيتام الديمقراطية (الشمال آنذلك)، وقد قاد مقاومة الشعب الفيتنامي ضد الاحتلال الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، ثم ضد الاستعمار الفرنسي، ثم الاحتلال الامبريالي الأمريكي، اذ أصبح من القادة التحرريين الأسطوريين في العالم الثالث، توفي في خريف 1969.
(19) العدوان الأمريكي على الفيتنام كان قد بلغ ذروته سنة 1969 (أي تاريخ كتابة هذا المقال)، وقد عرف الرأي العام الغربي موجة عارمة للتضامن مع الشعب الفيتنامي وللتنديد بالاعتداءات الامبريالية الأمريكية سواء على شمال أو جنوب الفيتنام. وكانت الحرب في الفيتنام في مركز اهتمامات الحركات التحررية في العالم الثالث والأوساط اللبيرالية والبسارية (كما جاء في المقال) في العالم الغربي.
(20) – العاهل الأردني.
(21) – أول مؤتمر قمة اسلامي انعقد بالمغرب في أواخر سنة 1969.
(22) – على إثر هزيمة يونيو 1967 ، استمرت مصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في المعركة، وقد عرفت العمليات التي كان يقوم بها الجيش والطيران المصريين على ضفة القناة وفي سيناء، بحرب الاستنزاف.
(23) – الحدود الآمنة والمضمونة دوليا : من الشعارات الإسرائيلية لمواجهة الحق العربي .
(24) – منع الفلسطينيين من القيام بعمليات فدائية ضد العدو انطلاقا من البلدان العربية المجاورة لفلسطين المحتلة.
(25) – من الشعارات العربية التي كانت مرفوعة بعد نكسة 1967.
(26) – تمكنت مصر من إعادة بناء قواتها المسلحة بعد هزيمة 1967، بفضل المساعدات المكثفة للاتحاد ا السوفياتي . وبعدها دخلت فيما سمي بحرب الاستنزاف ضد العدو ( انظر الهامش 22 ).