القضية الفلسطينية والمثقف العربي

حميد المصباحي - روائي وناقد متخصص في قضايا الدين والحداثة

كل‭ ‬المثقفين‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬التجارب‭ ‬السياسية،‭ ‬كانوا‭ ‬ضرورة‭ ‬تقدميين،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬موقفهم‭ ‬داعما‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬باعتبارها‭ ‬قضية‭ ‬تحرر‭ ‬وطني‭ ‬ورفضا‭ ‬لعنصرية‭ ‬الصهيونية‭ ‬كحركة‭ ‬استيطانية،‭ ‬لذلك‭ ‬تم‭ ‬اعتبار‭ ‬الصهيونية‭ ‬استمرارا‭ ‬للاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تقسيم‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وزرع‭ ‬دولة‭ ‬عنصرية‭ ‬في‭ ‬وسطه‭ ‬تحول‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬تمهيدا‭ ‬للتحرر‭ ‬والاشتراكية‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

هنا‭ ‬كانت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬تأكيدا‭ ‬للإيمان‭ ‬بالفكر‭ ‬التحرري‭ ‬والوطني‭ ‬والوحدوي‭ ‬ثم‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬قربت‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬والفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬التحرري،‭ ‬فبها‭ ‬تم‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الوحدة‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬لتليها‭ ‬فكرة‭ ‬ألا‭ ‬وحدة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين،‭ ‬وهنا‭ ‬نشبت‭ ‬صراعات‭ ‬بين‭ ‬القوميين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حزب‭ ‬البعث‭ ‬بشقيه،‭ ‬السوري‭ ‬والعراقي،‭ ‬وبقينا‭ ‬كمثقفين‭ ‬منحازين‭ ‬لاشتراكية‭ ‬الفكر‭ ‬القومي‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬النزوعات‭ ‬نحو‭ ‬الاشتراكية‭ ‬الأممية‭ ‬في‭ ‬صيغتها‭ ‬العلمية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نشأ‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬فكيف‭ ‬كانت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مغربيا؟‭.‬

1 ‭ – ‬فلسطين‭ ‬مغربيا‭:‬

كما‭ ‬سبقت‭ ‬الإشارة‭ ‬كانت‭ ‬قومية‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالمشرق‭ ‬العربي،‭ ‬في‭ ‬صيغة‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬بالوحدة‭ ‬العربية،‭ ‬التي‭ ‬اشترطت‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬فكان‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬المغربي‭ ‬مرتبطا‭ ‬بهذا‭ ‬الرهان‭ ‬وظهرت‭ ‬بها‭ ‬قوى‭ ‬سياسية‭ ‬رابطة‭ ‬بين‭ ‬التحرر‭ ‬والوحدة‭ ‬التي‭ ‬اشترطت‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بالاشتراكية‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬للحقيقة‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ظهرت‭ ‬رؤى‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬التجربة‭ ‬التقدمية‭ ‬المغربية،‭ ‬راهنت‭ ‬على‭ ‬البعد‭ ‬الكوني‭ ‬للفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬صيغته‭ ‬الأممية،‭ ‬فتعاملت‭ ‬مع‭ ‬الحمولة‭ ‬العربية‭ ‬بتحفظ،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬حماية‭ ‬للوحدة‭ ‬التي‭ ‬تأسست‭ ‬بين‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬والقوميين‭ ‬العرب،‭ ‬رغم‭ ‬الضربات‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬الشيوعيون‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الاشتراكيين‭ ‬بالعراق‭ ‬وحتى‭ ‬لبنان‭ ‬واليمن‭. ‬وقد‭ ‬سعت‭ ‬التجربة‭ ‬السورية‭ ‬بتحالفها‭ ‬بين‭ ‬الشيوعيين‭ ‬والقوميين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجبهة‭ ‬التقدمية‭ ‬مداواة‭ ‬هذا‭ ‬الجرح،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬بقيت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬حاضرة‭ ‬وفق‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬يعبر‭ ‬عنه‭ ‬المثقف‭ ‬المغربي‭ ‬وحسب‭ ‬انتمائه‭ ‬لطبيعة‭ ‬الحركة‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬صيغة‭ ‬عربية‭ ‬قومية‭ ‬أو‭ ‬أممية‭ ‬يسارية‭ ‬علمية،‭ ‬لكن‭ ‬الكل‭ ‬انصهر‭ ‬في‭ ‬مناصرة‭ ‬القضية‭ ‬ودعمها‭ ‬لمواجهة‭ ‬الظلم‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬الانسان‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬بذلك‭ ‬كانت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬حاضرة‭ ‬سياسة‭ ‬وثقافة،‭ ‬فالشعر‭ ‬استحضرها‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬رفض‭ ‬الصهيونية‭ ‬كتعبير‭ ‬عن‭ ‬العنصرية،‭ ‬بل‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬التعبير‭ ‬كان‭ ‬المثقف‭ ‬يستحضر‭ ‬فيها‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أشكال‭ ‬أخرى‭ ‬كالمسرح‭ ‬وحتى‭ ‬السينما‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬إشارات‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬أفلاما،‭ ‬أما‭ ‬قصصيا‭ ‬وروائيا‭ ‬فهناك‭ ‬إشارات‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭. ‬وقد‭ ‬أشرت‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ “‬رحل‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭” ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬اليهودي‭ ‬الذي‭ ‬عايش‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬افريقيا‭ ‬المسلمين‭ ‬واكتسب‭ ‬معهم‭ ‬هويته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وتزوج‭ ‬المهاجرة‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬به‭ ‬ترميم‭ ‬جروحها‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬تفاجأ‭ ‬بقتله‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬من‭ ‬ظنوه‭ ‬داعنا‭ ‬للعرب‭ ‬رغم‭ ‬يهوديته،‭ ‬واستحضاره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬كنموذج‭ ‬لهوية‭ ‬فرض‭ ‬عليها‭ ‬التاريخ‭ ‬تمزقا‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تعبر‭ ‬عنه‭ ‬بفعل‭ ‬قوة‭ ‬الصهيونية‭ ‬والداعمين‭ ‬لها‭. ‬

2 ‭ – ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬دينيا‭:‬

بعد‭ ‬الانقسام‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬اتخذت‭ ‬القضية‭ ‬بعدا‭ ‬دنيا،‭ ‬مما‭ ‬شجع‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬المطالبة‭ ‬بدينيتها‭ ‬اليهودية،‭ ‬وهنا‭ ‬تغير‭ ‬موقف‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬والمغربي‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬نسبيا،‭ ‬إذ‭ ‬صارت‭ ‬دليل‭ ‬إيمان‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالتحرر‭ ‬والحرية،‭ ‬وصارت‭ ‬شكلا‭ ‬إيمانيا‭ ‬يشي‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬العنصرية‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬جابهها‭ ‬الفكر‭ ‬التقدمي‭ ‬وتصدى‭ ‬لها‭. ‬بهذا‭ ‬البعد‭ ‬الديني‭ ‬تراجعت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وزادها‭ ‬تراجعا‭ ‬تراجع‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬بما‭ ‬اقترفه‭ ‬من‭ ‬حماقات‭ ‬وخسارات،‭ ‬لكنه‭ ‬حاول‭ ‬اللعب‭ ‬بالقضية‭ ‬لتأجيج‭ ‬الشعور‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استنفد‭ ‬إمكانات‭ ‬التعاطف‭ ‬المؤسس‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عقدي،‭ ‬وبذلك‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬فضح‭ ‬الممارسات‭ ‬الإرهابية‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬حركات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬تراجع‭ ‬دعم‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ديني،‭ ‬فالانشقاقات‭ ‬مست‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬أشكال‭ ‬التعاطف‭ ‬مع‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬المقاومة‭ ‬اللبنانية‭ ‬من‭ ‬انتصارات‭ ‬أعادت‭ ‬تأجيج‭ ‬المشاعر‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الميولات‭ ‬التي‭ ‬اختزلت‭ ‬القضية‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬ديني‭ ‬إسلامي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أضعف‭ ‬حتى‭ ‬القضية‭ ‬وجعلها‭ ‬تتراجع‭ ‬بفعل‭ ‬تراجع‭ ‬شعارات‭ ‬الرفض‭ ‬الكلي‭ ‬لإسرائيل‭ ‬واعتبارها‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬وهنا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نضيف‭ ‬أن‭ ‬منطق‭ ‬التنازل‭ ‬التفاوضي‭ ‬عصف‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬بالقضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وأضعفها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحضور‭ ‬الإعلامي‭ ‬وحتى‭ ‬الثقافي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى