المسببات الجيوسياسية الكبرى للحرب الروسية الأوكرانية
إن الحرب الأوكرانية في الحقيقة ما هي إلا واجهة لصراع دفين له أبعاد استراتيجية تتعلق بالصراع حول الهيمنة والسيطرة على العالم حيث مصالح الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أوحد متحكم في النظام العالمي الحالي، في الاتجاه الآخر هناك رفض من طرف روسيا والصين اللتان تسعيان لوضع حد لهذه الهيمنة وإعادة النظر في العلاقات الدولية، وهو عدم التوازن الذي تسبب سابقا في الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وشكل حدثا بارزا في تحول العالم من نظام التعددية القطبية إلى القطب الواحد، هي محاكاة جديدة لنفس اختلال التوازن العالمي الذي تطور الآن للحرب الروسية الأوكرانية.
في سنة 1946 وفي خطاب له أثناء زيارته للولايات المتحدة الأميركية أعلن الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أن معسكر الدول “الديمقراطية” (أي أميركا وحلفاؤها)، وبعد سقوط النازية، كان يجب أن يتابع الحرب لإسقاط روسيا السوفياتية. واعتبر ذلك الخطاب إشارة انطلاق للحرب الباردة بين المعسكرين. وفي 1947 طرحت اميركا ما يسمى “مشروع مارشال” للمساهمة في إعادة إعمار أوروبا، تحت شعار إنقاذ أوروبا الغربية من المد الشيوعي. وكان الهدف الأساسي لهذا المشروع هو وضع الاقتصاد الأوروبي تحت الهيمنة الاقتصادية لأميركا.
وفي 1949 طرح مشروع اكثر أهمية واكثر خطورة وهو مشروع إنشاء الحلف العسكري ـ السياسي الغربي المسمى “حلف الشمال الأطلسي” (حلف الناتو) الذي يضم الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.. وحدد فيه الأمين العام الأول للحلف الجنرال البريطاني هاستنغز ليونيل إيسماي، أهداف الحلف بالتعريف المقتضب التالي: “الإبقاء على روسيا خارج أوروبا، وأميركا في داخلها، وألمانيا في أسفلها”.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أنه من ضمن المخططات العدوانية الأميركية، أن تستخدم أميركا كل نفوذها لخلق منطقة استراتيجية عازلة بين روسيا وأوروبا الغربية، تهدف إلى ردع وعزل روسيا، والتمهيد للعدوان عليها، وتمتد تلك المنطقة من بحر البلطيق إلى البحر الأسود إلى البحر الأدرياتيكي، أي بين دول البلطيق، وأوكرانيا وجورجيا، وألبانيا.
ولفهم التخوف الأمريكي من الترسانة الحربية الروسية وكيف تقيم الأوساط العسكرية في واشنطن القوة العسكرية لروسيا، نورد كلمات رئيس مجلس رؤساء أركان القوات المسلحة الأميركية الجنرال مارك ميلي، بمناسبة مرور 70 عاما على تأسيس الناتو، والتي يقول فيها: “إن روسيا، بما تمتلكه من ترسانة نووية مهيبة، تمثل التهديد الوجودي القائم الوحيد للولايات المتحدة الاميركية”. وهذا يعني، في رأي الكثير من المحللين، أن روسيا أصبحت تمثل تهديدا مباشرا لأميركا. ويجب التخلص منها بحرب بالنيابة.
ولفهم خلفيات هذه الحرب، نذكر بحادثة مهمة لم يقف الإعلام الغربي عليها وتم تجاهلها، رغم أن العالم وقف على شفير اندلاع الحرب العالمية الثالثة، حينما أرسلت أميركا والناتو الغواصات والسفن الحربية إلى البحر الأسود لاسترجاع شبه جزيرة القرم بالقوة. ولكن سفن الأسطول الحربي الروسي وقفت أمامها بثبات وقوة، وجاء الطيران الاستراتيجي الروسي وحلق فوق حوض البحر الأسود وأمر جميع الغواصات والسفن الحربية الاميركية بالصعود الى سطح الماء وأمر بحارتها بالصعود إلى سطوح غواصاتهم وسفنهم بلغة التهديد… فنفذ الاميركيون ما طلب منهم صاغرين، وهم لا يصدقون أنهم سينفدون بجلودهم.
ويقول أحد الخبراء وهو صحفي جيوبوليتيكي إسباني في قناة السادسة بإسبانيا: “هذه الحرب بدأت منذ 30 سنة أيام غورباتشوف وليس الآن، حين التزم الغرب بأن يبقي كل بلدان الاتحاد السوفياتي السابق خارج التسليح النووي وخارج بناء قواعد الناتو، هذا الأمر لم تلتزم به أوروبا وأمريكا، وفي سنة 2007، طرح بوتين المشكل من جديد وبشكل صارخ في لقاء بميونيخ ولم يلق آذانا صاغية، وهناك اتفاقيات بين غورباتشوف والغرب عقدت بباريس وبودابست ولم تلق التزاما بها، حيث تنص على أن بناء أمن قومي لأي دولة أوربية لا يجب ان يبنى على عاتق أمن دولة اخرى.. روسيا على حق في احتجاجها” (رفائيل بوتش دي فيليو، صحفي مراسل لجريدة فانغوارديا بروسيا حين استجوبته قناة السادسة الاسبانية).
لقد كان الهدف الرئيسي للولايات المتحدة اليوم هو منع إمدادات الغاز الروسي عبر خط أنابيب السيل الشمالي-2 لإجبار أوروبا على شراء غاز مسال أغلى ثمنا من الولايات المتحدة، وبالتالي إضعاف ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى بشكل حاد. إذ يبلغ حجم التجارة بين روسيا والاتحاد الأوروبي 260 مليار دولارا في السنة. في حين يبلغ مع الولايات المتحدة 23 مليار دولار أمريكي. أي 10 مرات أقل. لذلك فالعقوبات التي فرضت كانت بناء على طلب الولايات المتحدة، وتضررت منها في المقام الأول أوروبا.
إن الحرب في أوكرانيا هي حرب أمريكية أخرى للسيطرة على العالم.