ابن رشد: محنة العقل ومأساة الرأي المخالف
ذة . جهاد الكنوني
عُرفت الفلسفة خلال تاريخها الطويل من الفلسفة اليونانية إلى هيغل بمحبة الحكمة بغاية بلوغ الحقيقة النهائية والثابتة والكشف عنها، أي حقيقة الوجود والكون، ولعل التساؤل حول ماهية الحقيقة كان وما يزال سؤلاً انطولوجيا قصد تفكيكها والبحث في معناها عبر المقاييس والمناهج التي تُعير بها قيمة الحقيقة وغاياتها.
يؤكد الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه بأنه ليست هناك حقيقة ثابتة يقينية بعينها بل كل ما لدينا هو انطباعات واعتقادات قوية فقط كما يزعم أيضا أن من هو مستعد لقول الحقيقة عليه أن يكون مهيأ للرحيل بعدها، فالأفراد يتمسكون باستماتة بأوهامهم ويرفضون الحقيقة و قائلها، لما قد تحطم ما في دواخلهم من أمان واستقرار، وقد يتحول البوح الصادق أو القول المُحاج إلى محرك للصراع وسببا لخلق أزمات بين الناس، من جراء الإقصاء والظلم و التهميش الذي قد يتعرض له الفرد الواحد من داخل نظام الجماعة الذي يحافظ على وحدة الأفكار وبالموروث والرابط الوجداني حول القضايا المينافيزيقية و الوجودية.
وتحتفظ لنا الثقافة العربية بنماذج من الحالات التي عانى فيها العقل من أبشع صور الخنق والاغتيال، حيث نجد كثيرا من المفكرين الذي عاشوا معاناة رهيبة جراء ما كانوا يحملون من تصورات وما يعبرون عنه من أفكار، وهي المعاناة التي وصلت ليس فقط الى رفض أفكارهم، بل وإلى تعذيبهم، رمزا وجسد، ا واغتيالهم ومصادرة كتبهم وحرقها.
ولعل محنة الفيلسوف العربي ( ابن رشد ) خير مثال على محنة العقل في الثرات الثقافي العربي والاسلامي.
يعد فيلسوف قرطبة (1126_1198م)ابن رشد وهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمدبن أحمد ابن أحمد ابن رشد من أبرز الفلاسفة العرب والمسلمين الذي إهتم بالفلسفة الأرسطي وأسهم في شرحها و ترجمتها بعدما كُلف بذلك من طرف السلطان المستنير “أبي يعقوب يوسف” حينما قدمه المفكر ابن طفيل له سنة 1169م، لما عرف عن ابن رشد من إرادة و استقامة عاليتين، ومن بلاغة وفصاحة شديدتين، ومعرفته الواسعة بخصوص علم الكلام والفقه و درايته بمجال العلوم والشعر والحكمة، ويذكر أبو الآبار عن أبي الوليد أنه “كانت الدراية أغلب عليه من الرواية” حيث مكنته نباهته وحكمته للوصول إلى فكرة مفادها أن الحقيقة واحدة والعقول متعددة و انطلاقا من هذا الموقف المؤمن بوحدة الحقيقة واختلاف طرق وسبل بلوغها، ناتج عن تفاوت درجات وحظوظهم في تحصيلها، لهذا وجد مراتب الناس في بلوغ التصديق ثلاثة أقسام، منهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية{تصديق صاحب البرهان بالبرهان} إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية وهم جمهور الناس وعامّتهم، فنوعية هذا الخطاب كاف لتحقيق يقين العامة و إيمانهم ووصولهم إلى التصديق.
بل إنه يجب أن ألا يتعدى بهم هذا النطاق، لأن الدخول بهم في ميدان الجدل أو حقائق البرهان مفسد ليقينهم وذاهب بإيمانهم دون أن تكون لهم القدرة على استخدام هذه الأدوات، ومن ثم لايستطيعون ان يحصلوا بواسطتها على أي نوع من أنواع التصديق واليقين. أما أهل الجدل فهي مرتبة تلي الجمهور صعوداً الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل البرهان وهؤلاء لهم الأقاويل الجدلية سبيلاً إلى التصديق وهم إذا طلب إليهم التصديق بالأقاويل الخطابية لم يتحصل لهم اليقين واذا سلكوا للتصديق طريق البرهان لم تُفسر لهم هذه الأدوات، ومن تم لم تتحصل لهم ثمرات استخدامها، وفي القمة يأتي أهل النظر، العارفون بصناعة الحكمة والسالكون إلى التصديق طريق البرهان وهم الفلاسفة الذين يجب أن يصونوا صناعتهم عن أهل الجدل وعن الجمهور وذلك حفاظا على التصديق الذي تحصل لكل فريق من السبيل الذي هيئ له وفق مالديه من إمكانات…(فصل المقال…).
ولفك النزاع والخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين حول إشكالات قضايا العالم إن كان مُحدثا أم قديما؟ والمَعاد هل هو مادي أم روحي! وإن كان العلم الإلهي محيطاً بالجزئيات أم مقتصراً على الكليات، اشترط منهج التأويل لتفسير ها وفحصها وبلوع التصديق بشأنها وهو أمر يراه ابن رشد ضروريا لأهل النظر أكثر من غيرهم لأنهم أقدر عليه وأحق باستخدامه وهو السبيل إلى نفي ما يبدو من تعارض وتناقض بين ظواهر بعض النصوص الدينية (القرآن الكريم/السنة) فالشريعة قسمان ظاهر ومؤول والظاهر منها هو فرض عامة الناس والمؤول فرض العلماء و الحكماء، ولقد أقر الشرع وأوجد النظر في الموجودات واعتبرها لقول الله تعالى (فانظروا يا أولى الأبصار) وكان هذا الاعتبار ليس شيئا اكثر من استنباط المجهول (الصانع/الخالق) أو المحرك الأول بلغة أرسطو من المعلوم (الموجودات) واستخراجه منه وهذا هو القياس العقلي أي أنه أحد أدوات العقل فالاستنباط.
دعى ابن رشد إلى إعمال العقل كمصدر لفحص الحقائق واستنباطها وإثبات إخاء الفلسفة (الحكمة) للشريعة حيث يقول في هذا الصدد : إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم انهم ضلّوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان من شرب الماء البارد العذب حتى مات، (من العطش) لأن قوما شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشَّرَقِ أمرٌ عارضٌ وعن العطشِ أمرٌ ذاتي وضروري.
لم يكن مصير ابن رشد مصيراً مختلفا عن مصائر مناصري الحقيقة وأصحاب الحكمة كالفيلسوف اليوناني سقراط الذي اتهم بالافساد عقول الشباب وتضليلهم الطريق المستقيم وحكم بالإعدام أثر ذلك فمحنة ابن أشد بنفيه وحرق كتبه لم تكن أزمة خاصة بكيان ابن رشد ومقامه الفكري الكبير بل كانت محنة العقل العربي ونكسة الفكر العربي الإسلامي برمته حيث لم تنقشع سحابة هذه المحنة لحدوث الساعة فما تزال أثار المحنة تعبر عن حالة الانكسار والهزيمة الجماعية التي نعيشها المجتمعات العربية . ولا يسعنا لوصف هذه الحقبة التاريخية إلا الاستعانة بقول الكاتب المغربي عبد الفتاح كليطو في لسان آدام.. (بالنسبة لنا اذا نحن الأغنياء بمعرفة مريرة، فإن مراسيم دفن ابن رشد تشكل لحظة في تاريخ البحر المتوسط، لحظة تبعد فيها الفلسفة إلى الشمال،)
ونجد الراهب تشارلز سكوت يرثي حدث نفي ابن رشد:
أطرودك يا ابن رشد؟ فمرحبا بك بين أحضاننا، وعلى عتباتنا وفي ديارنا!
أخرجوك من الباب الضيق القصير؟ فنحن ندخلك من الباب الواسع العريض! أبعدوك؟ فنحن نقربك إلينا! أقصوك لأمر تافه فيه مكيدة؟ فنحن ها هنا ندمجك في عقولنا وأشخاصنا، في مدارسنا وأديرتنا!